عمدة نيويورك ونيات لشراء «فاينانشيال تايمز»

تحولت من أكثر الصحف العالمية احتراما إلى أداة للمساعدة في بيع الأجهزة المرتبطة بالكومبيوتر

تحتاج صحيفة «فاينانشيال تايمز» إلى أن تكون تابعة لكيان قوي يدعمها
TT

قبل وقت ليس بالطويل كانت صحيفة «فاينانشيال تايمز» تعد بمثابة جوهرة التاج التي تزين أي شركة إعلامية، نظرا للهيبة والنفوذ والعظمة التي تضفيها على مالكها، ولكن الآن – في ضوء الجهات المتقدمة بعروض للاستحواذ عليها – باتت تلك الصحيفة، التي تعد واحدة من أكثر الصحف العالمية احتراما وتميزا، مجرد أداة للمساعدة في بيع مزيد من الأجهزة المرتبطة بالكومبيوتر.

ويفكر عمدة نيويورك ومؤسس وكالة «بلومبيرغ»، مايكل بلومبيرغ، في شراء مجموعة «فاينانشيال تايمز»، التي تشمل الصحيفة ونصف أسهم مجلة «الإيكونومست»، حسب ثلاثة أشخاص على علاقة وثيقة بمايكل بلومبيرغ، تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هويتهم.

ولطالما كان بلومبيرغ يعشق صحيفة «الإيكونومست»، كما ازداد تعلقا بصحيفة «فاينانشيال تايمز» في الآونة الأخيرة، على الأقل كقارئ. وبعدما كانت هذه الصحيفة المميزة بلونها المائل إلى الصفرة نادرا ما تكون ضمن الكثير من الصحف التي يحملها بلومبيرغ كل يوم تحت إبطه، أصبحت هي الصحيفة الأساسية بالنسبة له. ويقول أصدقاؤه إنه يفضل مقالاتها المختصرة والقوية والمحددة، التي تتوافق مع مزاجه وتستحوذ على إعجابه.

وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي قام بلومبيرغ بزيارة مقر «فاينانشيال تايمز» في العاصمة البريطانية لندن، الذي لا يبعد كثيرا عن المقر الجديد والعملاق لشركة «بلومبيرغ إل بي»، والذي لا يزال تحت الإنشاء. وعندما سأله أحد المحررين عما إذا كان ينوي شراء الصحيفة، رد بلومبيرغ قائلا: «إنني أقوم بشرائها كل يوم!».

وقد تحدث بلومبيرغ بكل صراحة مع أصدقائه ومساعديه عن فوائد ومخاطر هذه الصفقة المكلفة في تلك الصناعة التي يعجب بها كقارئ ويحتقرها كرجل أعمال، حسب تصريحات الأشخاص الثلاثة. وقد اطلع مؤخرا على أرقام توزيع الصحيفة، وقال لأحد زملائه: «إنها الصحيفة الوحيدة التي أقوم بشرائها»، قبل أن يسأل زميلا آخر: «ولكن لماذا يتعين علي شراؤها؟».

وثمة قدر كبير من الازدواجية في العمل في صناعة الصحافة والدوافع المعقدة لبلومبيرغ نفسه، فمن جهة يسعى بلومبيرغ للاستحواذ على تلك الصحيفة الكبيرة التي يعشقها والتي ستجلب له النفوذ والسيطرة، ولكنه يخشى من تلك الصفقة من الناحية الاستثمارية لأنها قد تضر بسمعة شركته التي تحقق أرباحا قياسية. ولا تقوم شركة «بيرسون»، وهي الشركة الأم التي تملك صحيفة «فاينانشيال تايمز»، بالكشف عن نتائج مالية منفصلة عن الصحيفة، ولكنّ محللين يرون أن الصحيفة تتكبد خسائر كبيرة. ورفض المتحدث الرسمي باسم عمدة لندن التعليق على تلك المقالة.

وبالنسبة لمؤسسة «تومسون رويترز»، التي من المرجح أن تتقدم هي الأخرى بعرض لشراء الصحيفة، فإن المعادلة مختلفة بعض الشيء، فعلى العكس من بلومبيرغ الذي أنشأ شركته المالية عام 1982، فإن جيمس سميث، رئيس «تومسون رويترز» والمدير التنفيذي لها، قد قضى معظم سيرته المهنية في الصحف الإقليمية التابعة لمؤسسة «تومسون» ومهنة الصحافة تجري في عروقه، وهناك نسخة مطابقة من المطابع القديمة على مكتبه المطل على ميدان «تايمز سكوير».

ومع ذلك، تعرضت شركة «تومسون رويترز» لبعض المشكلات المالية بعدما فشل أحدث منتجاتها المكتبية في تحقيق المبيعات المتوقعة. وقد تراجعت إيرادات الشركة لتصل إلى 9.88 مليار دولار، بانخفاض قدره 3 في المائة عن الفترة المماثلة من العام الماضي. وقد رفض المتحدث الرسمي باسم الشركة التعليق على ذلك.

ويمكن لصحيفة «فاينانشيال تايمز» أن تعطي مزيدا من القوة والبريق لاسم «تومسون رويترز» ومراسليها، لأن الشركة لا تملك مجلة أو صحيفة تصدر بصورة دورية، على عكس شبكة بلومبيرغ التي سبق أن قامت بشراء مجلة «بيزنس ويك» الأسبوعية عام 2009.

وفي الحقيقة، تحتاج الصحيفة إلى أن تكون تابعة لكيان قوي يدعهما، في الوقت الذي باتت فيه الشركة الأم «بيرسون» على وشك فقدان اثنين من كبار مسؤوليها التنفيذيين، وهو ما يزيد من التكهنات بأن الصحيفة ستعرض للبيع. ويقدر المحللون قيمة الصحيفة بنحو 1.2 مليار دولار، وهو ما يكون في متناول شركة «بلومبيرغ إل بي» التي حققت أرباحا عام 2011 تصل إلى 7.6 مليار دولار، وكذلك شركة «تومسون رويترز» التي حققت أرباحا العام الماضي تصل إلى 13.8 مليار دولار.

وتتمتع الصحيفة بوجود استراتيجية رقمية ناجحة، ويرى المحللون أنها حققت نجاحا ماليا من خلال الخدمة الإلكترونية المدفوعة، ولكنها تعاني، مثلها في ذلك مثل معظم الصحف، من انخفاض الإيرادات الإعلانية في النسخ المطبوعة. وخلال الأشهر الثلاثة المنتهية في الأول من أكتوبر، وصل إجمالي عدد النسخ المدفوعة التي وزعتها الجريدة إلى أكثر من 600,000 نسخة، وكان أكثر من 50 في المائة منها من الاشتراكات الرقمية. وفي أحدث تقرير لها بخصوص الأرباح، قالت شركة «بيرسون» إنه من المتوقع أن يكون هناك انخفاض في الأرباح بسبب تباطؤ سوق الإعلانات و«التحول من الصحافة المطبوعة إلى الصحافة الرقمية».

وسوف يرحل مارجوري سكاردينو – المدير التنفيذي للصحيفة منذ وقت طويل، الذي قال ذات مرة إن الصحيفة سوف تباع «على جثتي» – عن الصحيفة في الحادي والثلاثين من ديسمبر (كانون الأول)، في حين سترحل رونا فيرهيد، وهي المديرة التنفيذية لمجموعة «فاينانشيال تايمز غروب»، في نهاية شهر أبريل (نيسان) القادم. ولم يحدد بعد اسم الشخص الذي سيخلف فيرهيد في منصبها، على الرغم من أن أحد الأشخاص المقربين من الشركة قد ذكر اسم جون ريدينغ، وهو المدير التنفيذي للصحيفة.

وقال أحد المصرفيين العاملين في مجال الإعلام وعلى دراية بما يحدث في الشركة إن الصحيفة سوف تطرح للبيع بداية العام المقبل. وفي الأول من يناير (كانون الثاني) المقبل، سوف ينتهي عمل سكاردينو ويحل محله جون فالون المعروف عنه أنه ليس مولعا بالصحافة المطبوعة. وفي شهر أكتوبر الماضي، قامت الشركة بدمج دور نشر «بينغوين» مع دور نشر «راندو»م، المملوكة لمجموعة «برتلزمان» الألمانية.

وفي مقابلة شخصية في شهر أكتوبر الماضي، قال فالون إن صحيفة «فاينانشيال تايمز» ذات قيمة كبيرة وتحظى بتقدير واحترام كبيرين، وتناسب العمل الشامل لشركة «بيرسون» بشكل كبير، مضيفا أن «مجال عمل بيرسون يتغير ويتطور باستمرار، ونحن لا نستبعد أي شيء».

وفي رسالة بريدية، قال المتحدث الرسمي باسم شركة «بيرسون» تشارلز غولدسميث إن الشركة «لم تشرع في أي نوع من عمليات البيع في ما يتعلق بصحيفة (فاينانشيال تايمز) وليس لديها أي خطة للقيام بذلك».

وقال إيان وايتاكر، وهو محلل إعلامي بمؤسسة «ليبيروم كابيتال» في لندن، عن شركة «بيرسون»: «شعوري الداخلي هو أنه لو تقدم بلومبيرغ بعرض مجنون، فسوف يتم الموافقة على بيع الصحيفة، ولكن لا يوجد سبب مقنع للبيع في الوقت الحالي».

وحتى قبل رحيل اثنين من أبرز المديرين التنفيذيين لشركة «بيرسون»، كانت شركة «بلومبيرغ إل بي» قد أجرت دراسة لتقييم ما إذا كان يمكنها شراء «وول ستريت جورنال» أو «نيويورك تايمز» أو «فاينانشيال تايمز»، وأشارت الدراسة إلى أن الصحيفة الوحيدة التي قد تعرض للبيع من بين هذه الصحف الثلاث الكبرى هي صحيفة «فاينانشيال تايمز»، وفقا لثلاثة أشخاص مطلعين على النتائج، تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هويتهم.

وقال مسؤولون بشركة «بلومبيرغ إل بي» إن مسؤولين تنفيذيين بارزين في الشركة قد ناقشوا صفقة الاستحواذ على «فاينانشيال تايمز» بشكل افتراضي فقط، منتظرين القرار النهائي من بلومبيرغ الذي يسيطر على 90 في المائة من أسهم الشركة. وقال أحد المسؤولين البارزين: «هناك شخص واحد فقط هو من يتخذ القرارات الخاصة بالاستحواذ على شركات أخرى، وهو مايكل بلومبيرغ». وقد رفض المتحدث الرسمي باسم شركة «بلومبيرغ» التعليق على ذلك الأمر.

وخلال مقابلة قصيرة في إحدى الحفلات الأسبوع الماضي، كان بلومبيرغ يبدو وكأنه يقوم بدراسة عمل الصحيفة بتروٍّ وحذر شديدين، حيث قال: «مبيعات (فاينانشيال تايمز) في الولايات المتحدة أكثر من مبيعات (وول ستريت جورنال) في أوروبا».

وبدأ بلومبيرغ يتحدث بحماس عن طريقة قراءته لـ«فاينانشيال تايمز»، حيث قال إنه يبدأ بقراءة العمود الأيسر، مشيدا بالمقالات القصيرة التي تنشرها الصحيفة في صفحتها الأولى، ومضيفا: «لا توجد هناك تكملة لتلك المقالات في الصفحات الداخلية».

وعبر بلومبيرغ عن تحفظه حيال أي صفقة من شأنها أن تمنحه نصف أسهم مجلة «الإيكونوميست». وبموجب اتفاق الملكية المشتركة، لا تملك مجموعة «فاينانشيال تايمز» مساهمة في تغطية الأحداث الخاصة بمجلة «الإيكونوميست». وفي تعليقه على ذلك يقول بلومبيرغ: «لن تتمكن من السيطرة على المجلة، فلماذا تكون مهتما بها؟».

ويرى البعض داخل شركة «بلومبيرغ إل بي» أنه من الأفضل بالنسبة للشركة أن تستحوذ على مؤسسة رقمية، مشيرين إلى موقع «لينكد إن» الإلكتروني على سبيل المثال. ويقال إن دانيل دوكتوروف، وهو أحد المقربين من بلومبيرغ والرئيس التنفيذي للشركة، لديه بعض الشكوك في ما يتعلق بقيمة شراء الصحيفة.

وعقب الإعلان عن ترشيح أحد البرامج على محطة «بلومبيرغ نيوز» – الذي يركز على استغلال الكليات التي تحقق أرباحا كبيرة للطلاب ذوي الدخل المنخفض – إلى المرحلة النهائية للحصول على جائزة بوليتزر في فئة الخدمة العامة، وجود دوكتوروف مع الصحافيين في مكتب الشرطة ببوسطن. وقال أحد الموظفين، الذي رفض الحديث علنا عن المحادثات الداخلية خوفا من إغضاب الإدارة العليا للشركة: «قال بلومبيرغ إن الصحافة المطبوعة لم تعد رائجة، وسخر من أي صفقة استحواذ على أي صحيفة مطبوعة».

وداخل شركة «بلومبيرغ»، لا يوجد أدنى شك في تفوق أجهزة الكومبيوتر المتصلة بالبيانات المالية فائقة السرعة الموجودة على مكاتب المتداولين في وول ستريت. يذكر أن 85 في المائة من إيرادات شركة «بلومبيرغ» تأتي من 315,000 مشترك، الذين يدفعون 20,000 دولار سنويا لشبكة «بلومبيرغ». ويتم استخدام هذه العائدات في الإنفاق على استحقاقات العاملين في صناعة الأخبار، وزيادة ثروة مايكل بلومبيرغ التي تقدر بنحو 25 مليار دولار.

إن النقاش حول ما إذا كان يمكن شراء صحيفة «فاينانشيال تايمز» أم لا يسلط الضوء على التوتر الداخلي في عملية صناعة الأخبار العملاقة داخل شبكة بلومبيرغ، ويطرح سؤالا هاما: هل الهدف من وراء هذه الصفقة هو توفير أسباب الراحة لأولئك الذين يقومون باستئجار محطات أو مؤسسات إعلامية دولية قوية يصل محتواها إلى الملايين من القراء خارج العالم المالي؟

يشكو صحافيو «بلومبيرغ نيوز» في كثير من الأحيان من عدم وجود منصة إعلامية قادرة على إيصال كتاباتهم إلى نطاق واسع، وهي الحقيقة التي يبرزها اهتمام مايكل بلومبيرغ بصحافة الرأي من خلال «بلومبيرغ فيو» التي تظهر في الموقع الإلكتروني للشبكة. ويرى صحافيون في الشركة أن المقالات الافتتاحية والأعمدة الموجودة على «بلومبيرغ نيوز» سوف تصل إلى عدد أكبر من القراء على صفحات «فاينانشيال تايمز».

ويرى المؤيدون للاستحواذ على الصحيفة أنه حتى لو لم تحقق الصحيفة مكاسب مادية فإنها تتفق تماما مع الأعمال الأساسية لبلومبيرغ، لأنها ستمنح الشركة منفذا دوليا مرموقا في مجال الصحافة.

وبمرور الوقت، ومن خلال استثمارات بلومبيرغ، يمكن لـ«فاينانشيال تايمز» أن تتطور وتجذب عددا أكبر من القراء في الولايات المتحدة، ويكون هدفها هو أن تصبح الصحيفة الأولى في سوق الصحف الأميركية وتملأ الفراغ الذي خلفه قرار مؤسسة «نيوز كوربريشن» بإعادة هيكلة صحيفة «ذي جورنال» لكي تصبح صحيفة تهتم بالشأن العام.

ويبدو أن مايكل بلومبيرغ يدرك جيدا أن قرار الاستحواذ على إحدى الصحف من عدمه يتعدى مجرد الجانب المالي. وفي حفل أقيم في مؤسسة عائلة بلومبيرغ في شهر مايو (أيار) الماضي، تذكر بلومبيرغ إحدى المحادثات خلال حفل عشاء في الآونة الأخيرة، قائلا: «قال أحد الأشخاص إن الوحيدين الذين يقومون بشراء الصحف هذه الأيام هم المليارديرات المغرورون، ثم نظر إلي قائلا: مثلك أنت يا مايكل».

* خدمة «نيويورك تايمز»