تساؤلات حول توجهات الإعلام الباكستاني

حدة الانقسامات الآيديولوجية زادت في أعقاب الحرب على الإرهاب بالدول المجاورة

قيام الصحافة في باكستان على اسس آيديولوجية خلق نوعا من العدوانية بين الصحافيين
TT

هل وسائل الإعلام الباكستانية ليبرالية التوجه أم إنها تميل باتجاه اليمين الديني؟ هذا هو السؤال الذي يتردد دائما في الدوائر السياسة والإعلامية في المجتمع الباكستاني.

وعلى الرغم من عدم وجود إجابات واضحة ومحددة عن هذا السؤال، فإن المفكرين والصحافيين والسياسيين الباكستانيين لا يتوقفون عن وضع نظريات مختلفة بغية تحديد التوجه السياسي لصناعة الإعلام الباكستانية.

وقد أصبحت هذه القضية مثار جدل كبير عقب الغزو الأميركي لأفغانستان، حيث زادت حدة الانقسامات الآيديولوجية في الشعب الباكستاني في أعقاب الحرب على الإرهاب في الدول المجاورة. وتحفل الصحف الباكستانية بالعديد من التعليقات والتحليلات ذات الصلة بالحرب على الإرهاب، ودائما ما يكون الموضوع الرئيسي الذي يتم التطرق إليه هو التطرف الديني والدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في المنطقة.

وقال المعلق السياسي البارز صهيل عبد الناصر الذي يقيم في العاصمة الباكستانية إسلام آباد: «قضايا التطرف الديني ودور الولايات المتحدة في المنطقة هي التي أدت إلى زيادة الانقسام الموجود في وسائل الإعلام الباكستانية على أسس آيديولوجية».

وفي الحقيقة، هناك حالة شديدة من الانقسام الآيديولوجي للدرجة التي جعلت كبار المحللين عاجزين عن تصنيف وسائل الإعلام الباكستانية. وفي الآونة الأخيرة، قال الصحافي الباكستاني البارز طلعت حسين إن جميع وسائل الإعلام المحلية تكاد تكون «أكثر من ليبرالية»، مضيفا: «وجود رأي محافظ في برنامج تلفزيوني أو مقال صحافي لا يعني أن وسائل الإعلام الباكستانية كلها محافظة، فهذه مبالغة شديدة».

وأكد حسين على أن مجرد نظرة سريعة على كبرى الصحف الباكستانية ومقدمي البرامج سوف تكشف أنه لا يوجد أي منبر إعلامي ذي توجه يميني، مشيرا إلى أنه ربما يكون هناك بعض الشخصيات اليمينية في الإعلام الباكستاني، وربما يكون هناك بعض الآراء المتطرفة، ولكن هذا التوجه هو جزء صغير للغاية مقارنة بأغلبية المنابر الإعلامية.

على الجانب الآخر، يرى معلقون سياسيون بارزون عكس ذلك تماما، حيث أشارت المعلقة السياسية الكبيرة والمحللة الأمنية عائشة صديقي إلى أن وسائل الإعلام الباكستانية في حقيقة الأمر تنتمي إلى الوسط أو يمين الوسط، مضيفة: «ربما يكون هناك محاور واحد فقط هو من يمثل يسار الوسط».

والشيء المثير للاهتمام هو أن تصنيف وسائل الإعلام الباكستانية، سواء ليبرالية أو محافظة أو يمينية أو يسارية، يعتمد في الأساس على موقف وسائل الإعلام، سواء المطبوعة أو الإلكترونية، من القضايا السياسية التي شهدتها باكستان في الآونة الأخيرة، فعلى سبيل المثال يتم تصنيف الذين يؤيدون الهجمات التي تشنها الطائرات من دون طيار في المناطق القبلية الباكستانية والوجود الأميركي في أفغانستان على أنهم ليبراليون، في حين يتم تصنيف الذين يعارضون تلك الهجمات والتحالف بين باكستان والولايات المتحدة على أنهم يمينيون.

وقال صهيل عبد الناصر: «هذا التصنيف يسبب حالة من الارتباك، لأن الليبراليين والمحافظين كانوا جميعهم يعارضون الحاكم العسكري برويز مشرف وشراكته الوثيقة مع إدارة بوش».

وعلاوة على ذلك، أدى الارتباك الذي يسود المشهد السياسي في البلاد إلى مزيد من الارتباك في المشهد الإعلامي أيضا.. وعن ذلك يقول عبد الناصر: «إذا كنت تريد أن تعرف توجه أي صحافي وهل هو ليبرالي أم يميني، فعليك أن تسأله بوضوح هل هو مع التحالف العسكري القوي بين باكستان والولايات المتحدة أم لا؟».

ويرى محللون سياسيون أن هذا السؤال سوف يؤدي إلى تفاقم حالة الانقسام الموجودة في وسائل الإعلام الباكستانية، والتي لم تكن وليدة اليوم ولكنها موجودة منذ أمد بعيد، ففي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي كان الإعلام الباكستاني منقسما إلى مجموعتين، الأولى مع الآيديولوجية الشيوعية للاتحاد السوفياتي السابق، والأخرى مع «جماعة الإسلام» والجماعات التابعة لها، التي كانت تعارض الفكر الشيوعي.

وأضاف عبد الناصر: «في هذه الأيام، كان الفرق واضحا بين الصحافيين اليمينيين واليساريين، من حيث دعم أو معارضة كل منهم للحكومات العسكرية».

وكان الشاعر الباكستاني الشهير والصحافي اليساري بصحيفة «باكستان تايمز» فايز أحمد فايز قد اعتقل لمدة خمس سنوات من قبل الحكومة العسكرية للجنرال أيوب خان بسبب معارضته الحكومة العسكرية، وحصل على جائزة لينين من الاتحاد السوفياتي.

وعلى العكس من ذلك، منحت الحكومة العسكرية للجنرال ضياء الحق مزايا مالية للصحافيين اليمينيين بهدف تنظيمهم في مجموعات تقوم بمعارضة خصومه السياسيين، وقامت في الوقت نفسه بمعاقبة الصحافيين ذوي التوجه اليساري عن طريق جلدهم على الملأ بسبب نقدهم الحكومة العسكرية.

ودائما ما يصف الصحافيون اليمينيون الصحافيين الليبراليين بأنهم عملاء لجهات أجنبية، ودائما ما نرى هذه الاتهامات على صدر صفحات الصحف الباكستانية، فعلى سبيل المثال يقول الصحافيون اليمينيون إن الصحافيين الليبراليين واليساريين كانوا بمثابة أداة في يد الاتحاد السوفياتي خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وإنهم غيروا ولائهم للولايات المتحدة في الألفية الجديدة (في أعقاب الغزو الأميركي لأفغانستان).

وعقب انهيار الاتحاد السوفياتي، تحول اليسار الباكستاني إلى كيان غير سياسي، كما اختفت المنظمات السياسية ذات التوجه اليساري من المشهد الباكستاني، وانضم العديد من الصحافيين والمفكرين اليساريين للمنظمات غير الحكومية الممولة من الغرب، والتي كانت تعمل غالبيتها في القطاع الاجتماعي. وقالت عائشة صديقي: «للأسف الشديد، حول التيار اليساري نفسه إلى العمل في المنظمات غير الحكومية ولم تعد لديه قدرة كبيرة على التأثير في التفكير العام».

وقد انعكس هذا التدهور على وسائل الإعلام أيضا، حيث انقسم اليساريون والليبراليون إلى فئتين من دون أي وعي؛ إحداهما تساند الهجمات التي تشنها الطائرات الأميركية من دون طيار في المناطق القبلية الباكستانية، في حين تظل الفئة الثانية صامتة إزاء قيام تلك الطائرات بقتل المدنيين الباكستانيين في لاهور في وضح النهار.

وقال جنيد قيصر، وهو مدون باكستاني بارز في إحدى تدويناته في الآونة الأخيرة: «وسائل الإعلام اليمينية في باكستان متورطة بالقدر نفسه في نشر دعاية سيئة عن السياسيين، علاوة على أن تشويه الحقائق يعمل بمثابة أرض خصبة لوجود انحرافات متطرفة في المجتمع». وأضاف قيصر: «في الغالب، يتحدث مقدمو البرامج الحوارية والمحللون الذين يظهرون بها عن نظريات المؤامرة المناهضة للولايات المتحدة والديمقراطية، في حين تركز وسائل الإعلام اليمينية على قضايا الفساد والمحسوبية والممارسات الخاطئة من جانب السياسيين والبرلمانيين، وتربط بين كل هذه القضايا، والرئيس آصف علي زرداري».

وتصور وسائل الإعلام الباكستانية حزب الشعب الباكستاني على أنه تابع للولايات المتحدة، ويخصص العديد من مقدمي البرامج معظم وقتهم وطاقتهم للحديث عن الخطر الذي تمثله الولايات المتحدة على الأمة الباكستانية. وشن الصحافيون الباكستانيون حملة شرسة على قانون كيري لوغار، وأصبحوا أكثر قربا من السياسيين المناهضين للغرب والأصوليين الإسلاميين، الذين يدعون أن هناك تقويضا للسيادة الباكستانية وأن الأمر قد ينتهي بالبلاد لأن تصبح مستعمرة جديدة للولايات المتحدة، على حد قول قيصر.

ومن الأشياء التي تميز وسائل الإعلام اليمينية بقوة هو ميلها إلى تفسير الأحداث السياسية الكبرى من منظور نظريات المؤامرة، فعلى سبيل المثال؛ دائما ما يلقي الصحافيون اليمينيون باللائمة على واشنطن ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في ما يتعلق بالأعمال الإرهابية التي تشهدها المناطق الحضرية الباكستانية، بل إن بعضهم يشير إلى أن حركة طالبان الباكستانية ما هي إلا كيان تم إنشاؤه من قبل الاستخبارات الأميركية وأن هؤلاء المقاتلين القبليين يتم تمويلهم من قبل الحكومة الأميركية بهدف إضعاف باكستان. والآن، خرجت وسائل الإعلام اليمينية لتقول إن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية هي التي تقف خلف الهجوم على الطالبة الباكستانية مالالا يوسفزاي التي انتقدت حركة طالبان بسبب إحراق مدارس الفتيات في وادي سوات، وأن الهدف من هذا الهجوم هو إظهار حركة طالبان بشكل سيئ وبالتالي تحظى الهجمات الأميركية من دون طيار بدعم شعبي باكستاني، وكسب تأييد لغزو الجيش الباكستاني لشمال وزيرستان وهزيمة شبكة حقاني. وعلى هذا الأساس، ما زال الصراع مستمرا بين اليمين الديني والليبراليين في وسائل الإعلام الباكستانية. ويعطي ملاك الصحف الباكستانية مساحة كبيرة للحديث عن هذا الاختلاف والحرب الكلامية بين هذه الفئات المختلفة بهدف جذب مزيد من القراء.

ويقول أحد خبراء الإعلام البارزين: «أكثر الصحف جذبا للقراء اليوم في باكستان هي الصحف التي تميل إلى اليسار أو إلى اليمين الديني». وعلى سبيل المثال، تعد صحيفتا «نواي وقت» و«الأمة» من أكبر الصحف الباكستانية، وقد اعتادت «نواي وقت» على نشر صور لمقاتلي حركة طالبان على ترويستها، في حين اعتادت «الأمة» على نشر صور لزعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن. وهناك صحيفة «ذي تايمز» الناطقة باللغة الإنجليزية والتي تتخذ من لاهور مقرا لها والتي تؤيد السياسات الأميركية في المنطقة.

إن قيام الصحافة على أسس آيديولوجية قد خلق نوعا من العدوانية بين الصحافيين الباكستانيين، ولم يعد هناك شيء وسط؛ فإما معارضة قوية، وإما تأييد قوي، مما يعني عدم وجود موضوعية في الصحافة الباكستانية في الوقت الراهن.