الإعلام الشعبي في سوريا.. «الميديا الخفية»

إذاعات وصحف تلتقي فيها الأفكار بحرية لنقل صورة حية من الواقع الدموي

الإذاعات البديلة في سوريا تظهر بقليل من الأجهزة الإذاعية والصوتية («الشرق الأوسط»)
TT

منذ بداية الثورة السورية في مارس (آذار) من عام 2011، يفرض النظام السوري تعتيما إعلاميا وصحافيا على أحداث الثورة، لإعاقة رصد المظاهرات السلمية أو نقل الخبر الحيادي من أرض الواقع، وهو ما فتح طريقا أمام وسائل إعلام شعبية ذات توجه ثوري للظهور في الخفاء، كبديل إعلامي يلبي رغبات المواطنين في المناطق الخطرة لنقل ما يدور من أحداث يومية، وذلك على أيدي شباب الثورة الراغبون في إرسال صوتهم إلى مجتمعهم القابع تحت القصف.

فمؤخرا، وبعد أربعة شهور من العمل المستمر، عقب قصف برج حلب وتدميره من قبل قوات الحكومية، إثر دخول مقاتلي المعارضة إلى مدينة حلب في يوليو (تموز) الماضي، وانقطاع كافة موجات الراديو عن محيط المدنية ودخولها في عزلة إعلامية، بدأ بث راديو «نسائم سوريا»، الذي يقوم عليه مجموعة من الشباب الجامعي ومجموعة من العاملين في الإذاعات الرسمية بمدينة حلب شمال سوريا، لإرسال صوتهم إلى أبناء مجتمعهم في الخفاء.

وبقليل من الأجهزة الإذاعية والصوتية وأثير إذاعي خفيفة الوزن والحمل وحاسبات شخصية وكابلات توصيل سوداء اللون بين الأجهزة، وببرج لا سلكي صغير فوق سطح أحد المباني المزدحمة بالصحون اللاقطة (الدش)، بعد أن تم مد كبل الإذاعة إلى البرج الصغير، من شباك حمام الشقة الفارغة وعبر المنور إلى أعلى السطح، كان ظهور الإذاعة.

يبث راديو «نسائم سوريا» في محافظة حلب وضواحيها، متطرقا لأهم الأخبار عن الأوضاع السياسية والميدانية في حلب وسوريا عامة، وحالة الطقس وأسعار العملات الأجنبية بالنسبة لليرة السورية المنهارة، وسعر الطحين والوقود الذي بات يشكل هاجسا لدى أي موطن سوري لمعرفة أسعارها التي تتصاعد يوما بعد يوم. كما ترشد «نسائم سوريا» في أخبارها الموجزة مستمعيها إلى الأسواق التي تتوافر فيها المواد الغذائية للقوت اليومي بأسعار منخفضة وتقع هذه الأسواق في المناطق المحررة التي يسيطر عليها مقاتلو المعارضة السورية، والأسواق التي تحت حماية القوات الحكومية ترتفع فيها الأسعار.

وبحسب مديرة الإذاعة، ريم الحلبي، التي فضلت هذا الاسم المزيف في حديثها مع «الشرق الأوسط» خوفا من الاعتقال الأمني: «فكرة إذاعة في منطقة حلب وريفها كانت قائمة منذ نحو أربعة شهور، عندما انقطعت خدمات كافة الإذاعات في حلب بعد استهدافها من قبل قوات النظام».

وتوضح ريم أن 40 شابا وفتاة يعملون في إرسال الإذاعة في فضاء حلب، تحت أسماء مستعارة لتداعيات أمنية خوفا من الاعتقال، خاصة المذيعين ومهندسي الصوت المعروفة أسماؤهم عندما كانوا يعملون في الإذاعات الرسمية وشبه الرسمية. وتلفت إلى أن كوادر «نسائم سوريا» ما زالوا بانتظار رد فعل النظام السوري الذي يحارب الكلمة الحرة التي تمثل التحدي الأكبر لهم.

وفي بيان تعريفي على موقعها على شبكة الإنترنت، جاء تعريف الإذاعة: «(نسائم سوريا) هي محطة إعلامية إذاعية وطنية تبث على موجات الـ(FM) وعلى رابط بث مباشر على موقع الإنترنت في مدينة حلب وريفها بعد تغيب الإذاعات الرسمية، وستعمل على إيصال صوتها لباقي المحافظات على أرض سوريا الحبيبة، لا تتبنى أفكار سياسية أو دينية معينة، مستقلة عن أي جهة خارجية ولا تتبنى أطروحات أي تيار سياسي أو آيديولوجي وهي من عمل بعض الشبان والإعلاميين من جامعة ومدينة حلب».

وتشير ريم الحلبي أنهم «يحاولون ربط كافة المناطق في حلب وريفها مع بعضها البعض عن طريق نشر الأخبار السريعة، وتوعية المواطنين سياسيا وثقافيا بعد تراجع الأوضاع المعيشية والخدمية من الكهرباء والإنترنت والاتصالات، وانعزال السكان عن بعضهم وعن العالم». ولا يخفى على أي مستمع لهذا الراديو توجهها السياسي أو خطها الإعلامي المنحاز للانتفاضة الشعبية ضد نظام بشار الأسد، وهي تعمل على مبدأ «إبرة تحت الجلد» رغم عدم الإقرار بها علنا من قبل القائمين على إدارتها.

وفي ظل هذه الأهداف، تقدم «نسائم سوريا» برامج متعددة، مثل «حكاية بلد» الذي يتضمن فقرة «هاي هي الحرية اللي بدنا ياها»، التي تشرح معاني الحرية وكيفية استخدامها ماديا ومعنويا في احترام أفكار الآخرين، وماذا تعني الحرية العلمانية والإسلامية، وحرية التعبير عن الرأي دون خوف.

أيضا فقرة «لقمة عيش» الذي تسعى منه الإذاعة إلى مساعدة الناس على كيفية التأقلم والتعامل مع الظروف التي تمر بها البلاد من نقص المواد الغذائية والوقود والكهرباء، ولكي يعتمد الفرد الحلبي تدبير طعامه من المواد المتوفرة. وهناك «ثورة وثوار» التي تتحدث عن ثورات العالم وتداعياتها، وفقرة التدريب على مهام الدفاع المدني في حالات القصف الجوي والمدفعي، بالإضافة إلى الفقرة الساخرة «يوميات مواطن حلبي» وتقدم باللكنة الحلبية.

وتضيف ريم: «هذه الانطلاقة تجريبية وبغرض التعريف بالمحطة، واستقطاب أكبر عدد من المستمعين على والموجة الهوائية والإنترنت». وتضيف أن عدد ساعات الإرسال الإذاعي يتزايد بشكل تدريجي ووفقا للحالة الأمنية.

ويصل بث راديو «نسائم سوريا» إلى منطقة السريان الجديدة والقديمة، وطلعة الأشرفية، والمشارقة، وبستان الزهرة، والجميلية، وساحة سعد الله، وبستان القصر، والفردوس، والمشهد، وصلاح الدين، والزبدية، والأنصاري، وشارع النيل. وهو ما يعمل على إيضاح كثير من الأمور والحقائق في ظل ما تكتفي به الحكومة السورية في مؤتمراتها الصحافية من دعوة القنوات الرسمية والإيرانية والروسية والصينية والبعض من المحطات الأجنبية والتي لا يسمح بالتحرك لها داخل البلد إلا بأمر من الجهات الحكومية المختصة والأمنية.

ولن يخلو مضمون «نسائم سوريا» كما تقول مديرته من برامج خاصة تدور حول أوضاع اللاجئين والنازحين في الداخل السوري، واستطلاع للآراء، وشرح للمصطلحات الثورية ومفاهيم الانتفاضة وأبعادها، والفرق والتناقضات والمقاربات بين الأنظمة الثورية والعالمية كوظيفة من وظائف الإعلام بهدف تثقيف المجتمع الحلبي. وتضيف ريم أن الراديو حاجة ضرورية للشعب كي يبقوا على تواصل ومعرفة مما يجري في محيطهم المحلي ومحيطهم القطري، وخاصة بعد إيقاف كل وسيلة من شأنها توصيل معلومة مهمة وجيدة وضرورية للمواطن السوري.

وإلى جانب الراديو الحلبي، تبرز عدة إذاعات خاصة في سوريا، مثل «شام إف إم»، وراديو «أرابيسك»، وإذاعة «ساوة» التي تحظى باستماع جماهيري أكثر من غيرها، حيث ترسل موجاتها إلى جميع المناطق السورية. وتقدم هده الإذاعات مضمونا موسيقيا وإخباريا بحيث يكون بعيدا عن النشرات التي تقدمها الإذاعات الحكومية.

أما عن الصحافة، فقد برزت أيضا في ظل الانتفاضة الشعبية مجلة «ياسمين سوريا» الورقية ذات التوجه الثوري والثقافي، والقصصي عن معاناة سيدات سوريا في المعتقلات ودورها في المجال الإغاثي والطبي قبل نحو 21 شهرا.

يدير شؤون المجلة «سيدات» من مدينة حلب والبالغ عددهن نحو سبع سيدات يوزعن الأدوار بينهن كل وفق اختصاصها من إخراج وتحرير وتقارير ميدانية.

طبعت المجلة عددها الأول في تركيا والتي وصلت إلى 1000 نسخة وزعت 250 نسخة في المخيمات السورة في تركيا والباقي في سوريا، وحملت الياسمينة السورية في صفحاتها الـ11، في عددها الصفر قصص سيدات سوريات رأين أوضاعهن في المعتقل من ثمانينات القرن الماضي، بينما قصت الخالة أم ياسر لياليها في المنفردات وأقبية السجون المظلة والمعاملة التي لاقت من أفراد المخابرات والسجان تحت عنوان «حكاية 4029 ليلة وليلة»، وتحدثت المجلة عن قصة فتاة سورية تعمل ممرضة في أحد المستشفيات الميدانية في مدينة حلب التي استشهدا أخوها على يدها وهي ما زالت صامدة تمارس عملها بكل شغف.

ورغم أن الخطورة تقل على هيئة تحرير مقارنة بطاقم الإذاعات وذلك وفق خصوصية الكتابة التي يمكن العمل عليها من المنزل، فإن توزيعها لا يقل صعوبة عن البث الإذاعي لما يمارس من رقابة على نشطاء الثورة.

وتعتبر مجلة «ياسمين سوريا» من الإصدارات ثورية القلية ذات سياسة تحريرية لم يقرأها المواطن السوري قبل نحو أربعة عقود.

أما مجلة «عنب بلدي»، فيقوم عليها مجموعة من الشباب الهواة لا يتمتعون بخبرة صحافية سابقة (كما ذكر في موقع الصحافية على شبكة التواصل الاجتماعي)، لكنهم أحبوا أن يبذلوا جهدا في تقديم جانب مختلف من جوانب الثورة السورية، ويشاركون في أحد الفضاءات الحرة التي خلقتها الثورة لتكون ساحة لأفكارهم وأقلامهم وليغردوا فيها بكل حرية.

تصدر الجريدة من مدينة داريا في ريف دمشق، واختاروا اسم «العنب» لها وذلك للارتباط المباشر بمدينة داريا التي اشتهرت بزراعة العنب منذ زمن بعيد، ورمزيته المتمثلة بالأصالة والارتباط بالأرض، وتعدد أنواعه وأصنافه التي رأوا فيها إشارة إلى تنوع اتجاهاتهم وأفكارهم، بل إن تبويبها يرمز إلى العنب (عنب مشكل، عناقيد عنب، ورق عنب، كرم الثورة عنب القراء).

وتعد المجلة، التي تصدر أسبوعيا، منوعة لا تختص بمجال واحد، فيها السياسة والاقتصاد، وبعض المنوعات، كما تهتم كثيرا بمتابعات الحراك الميداني في داريا وخارجها، بالإضافة إلى أخبار المعتقلين والشهداء، وتطالع فيها أيضا الكثير من خواطر الشباب التي فاضت على هامش الثورة.

بينما تعد مجلة «سورية بدا حرية» مطبوعة أسبوعية سياسية ثقافية مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية ميدانيا وفكريا وتوثق الحدث وتعرضه من كافة الجوانب، كما تهتم بوجهات النظر وتحليلات المفكرين وآرائهم.

بدأ التخطيط للمجلة في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، ليكون الإصدار الأول بعد أسبوعين بـ12 صفحة، شارك فيها عدد من الناشطين السياسيين المعروفين مثل سهير الأتاسي نائب رئيس الائتلاف الوطني السوري، والناشط ملهم الدروبي، بالإضافة لمجموعة من الشباب المهتم بالمجال الإعلامي، وما لبث أن تطور خط المجلة لتصبح اليوم وبعد إصدار أكثر من 42 عددا منها تضم عددا كبيرا من الكتاب والمحررين المحترفين منهم، والشباب الذين ولدت موهبتهم من رحم الثورة، وأصبحت بهم المجلة أكثر تخصصا وتنوعا. وهي صحيفة ورقية تصدر إلكترونيا بشكل يومي، ويصل عدد نسخها إلى نحو 700 نسخة وتوزع بين حمص وجرابلس وسراقب وقريبا في حماه ودمشق.

ومن اللافت أيضا إصدار ملحقات ثقافية خاصة بالمجلة وأهمها ملحق خاص بالمرأة السورية وإنجازاتها في زمن الثورة، بالإضافة لنشرة سنوية بالتعاون مع معهد الوارف للدراسات الإنسانية في واشنطن.

يتلخص شعار مجلة «سورية بدا حرية» بأنها «حرية اليوم والغد»، فالحرية التي تطلبها صفحات المجلة بصوت شبابها ليست فقط الحرية السياسية الحالية التي تتلخص بإسقاط النظام وأركانه، بل تنظر لحرية سوريا الغد السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى الدينية والاجتماعية.