حرية الصحافة وبرامج «التوك شو» مؤشرات لقياس الرأي العام في روسيا

شراء الشهادات العلمية واحتمالات حل مجلس الدوما في مقدمة الاهتمامات

بوتين في مؤتمره الصحافي الأسبوعي بالعاصمة موسكو («الشرق الأوسط»)
TT

الحديث لا ينقطع حول تراجع مساحات الحرية في الإعلام الروسي، في نفس الوقت الذي تتواصل فيه البرامج الحوارية، التي تقول في معظمها إن الجدل والنقد متاحان فقط في الحدود التي لا تقف على طرفي نقيض من التوجهات العامة لـ«الكرملين»، بغض النظر عن تعالي الاحتجاجات على انحسار الحريات والتضييق على الصحافة والإعلام في روسيا، وهو ما رصده التصنيف السنوي لمنظمة «فريدم» لحقوق الإنسان الذي وضع روسيا في المرتبة 172، متجاورة مع أذربيجان وزيمبابوي وأوزبكستان وقرغيزستان وكازاخستان. وكانت الأوساط الإعلامية تنفست الصعداء حين فاجأ الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف في أعقاب توليه السلطة في «الكرملين» عام 2008 الأوساط السياسية والاجتماعية بقبوله الحديث إلى صحيفة «نوفايا غازيتا» المستقلة، وإعلانه ارتياحه لوجود مثل هذه الصحيفة المعروفة بمناهضتها لسياسات «الكرملين» والتي لم تتوقف منذ إنشائها عن انتقاد النظام وفضح الكثير من ممارساته غير الديمقراطية. وكان ميدفيديف أعرب عن مواقف انفتاحية كثيرة تجاه الصحافة والإعلام، بينما أقدم على طرح الكثير من القوانين التي أتاحت لما يسمى «المعارضة غير الممنهجة» الكثير من حرية التعبير، بل والظهور على شاشات القنوات التلفزيونية ومنها الفيدرالية الحكومية، فضلا عن السماح بتأسيس الأحزاب والجماعات السياسية دون التقيد بشرط عضوية الأعداد الكبيرة، إلى جانب تقديره لأهمية شبكات «الإنترنت»، التي قال إنها أفضل ساحة للجدل وتبادل الآراء. لكن ما قام به ميدفيديف في هذا الشأن لم يكن ليستمر طويلا، ولا سيما أنه كان يراعي ضمنا مصالح ورؤى «الشقيق الأكبر»، الذي ما إن عاد إلى السلطة في «الكرملين» حتى أصدر قانونه، الذي عهد بموجبه إلى جهاز الأمن والمخابرات بمراقبة شبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. على أن ذلك لم يمنع استمرار الكثير من برامج «التوك شو» التي تكشف عن اتجاهات الرأي العام والمدى الذي يمكن أن يسمح به «الكرملين» في نقد توجهاته وسياساته، ومنها برنامج «بويدينوك» (المنازلة) الذي يقدمه فلاديمير سولوفيوف - أحد أبرز نجوم الإعلام ممن يحظون بإعجاب «مكتوم» من جانب الرئيس بوتين لما يتمتع به من قدرات ومواهب تكفل له حسن إدارة الحوار والإمساك بكل خيوطه دون السماح لضيوفه بتجاوز الخط الأحمر غير المعلن من جانب «الكرملين». وثمة من يقول إن اهتمام بوتين توقف عند هذا النجم التلفزيوني منذ تاريخ عودته من لندن بعد زيارة قام بها تلبية لدعوة من الملياردير اليهودي الروسي الهارب بوريس بيريزوفسكي قبيل الانتخابات الرئاسية الروسية في عام 2004. وكان سولوفيوف اعترف آنذاك بأن بيريزوفسكي، الذي لجأ إلى لندن هاربا من ملاحقة بوتين، حاول إقناعه بترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة منافسا لبوتين، وقال إنه سوف يتولى تمويل حملته الانتخابية ويضمن نجاحه، مثلما سبق أن وقف مع مجموعة أصحاب البنوك اليهودية وراء نجاح الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين في عام 1996، وهو ما رفضه سولوفيوف بطبيعة الحال، ربما لعبثية مثل هذا الطرح ومكتفيا بطلب دعم مادي بسيط كمصروف جيب خلال رحلته إلى لندن لم يتجاوز عشرة آلاف دولار! ومن المعروف أن سولوفيوف ولد عن أبوين يهوديين؛ هما: الأب رودلف ناحوم، والأم اينا سولومون، وهو ما لا يجد حرجا في إعلانه والاعتراف به، على عكس آخرين كثيرين من نجوم السياسة والتلفزيون في موسكو مثل فلاديمير جيرينوفسكي زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي، الذي طالما أعلن أنه ولد عن أم روسية وأب يعمل محاميا حتى يتهرب من الكشف عن قومية أبيه اليهودي والذي اضطر لاحقا إلى الاعتراف بها حين قال إنه كان رجل صناعة يهوديا هاجر إلى إسرائيل، حيث وافته المنية هناك ودفن على مقربة من تل أبيب. أما عن مؤهلات سولوفيوف العلمية، فقد تخرج في معهد الحديد والصلب بموسكو، إلا أنه اختار لاحقا دراسة الاقتصاد والعلوم السياسية مستفيدا من إجادته للغة الإنجليزية التي تخصص فيها منذ سني الدراسة الابتدائية وساعدته في الانتقال للدراسة ثم العمل في إحدى جامعات ولاية ألاباما الأميركية في عام 1990. لكن سولوفيوف لم يطق كثيرا العيش بعيدا عن حدود مرتع الصبا والشباب ليعود إلى روسيا لممارسة التجارة اعتبارا من عام 1992 وحتى تحول إلى العمل في الإذاعة والتلفزيون في موسكو اعتبارا من عام 1998.

أما عن برنامجه التلفزيوني «المنازلة»، فهو برنامج حواري سياسي اجتماعي، يظهر أسبوعيا مساء كل خميس على شاشة القناة الثانية – القناة الرسمية منذ مطلع سبتمبر (أيلول) 2010، وكان يحمل اسما آخر قبل ذلك وهو «عند الحاجز» حين بثه على شاشة «تي في إس» خلال الفترة من 2002 - 2003، وبعد ذلك على شاشة «إن تي في» من 2003 - 2009، ويحظى بنسبة مشاهدة عالية نظرا لشهرة الشخصيات التي يتوقف عندها خيار مقدم البرنامج. وتبلغ المساحة الزمنية للبرنامج قرابة الساعتين، في ثلاث جولات تتخللها فترتا استراحة يعود فيها المتحدث إلى مساعديه لتبادل الرأي وتلقي النصائح حول سلاسة الأداء ومدى الحاجة إلى تعديل مسار النقاش، في حضور الجمهور الذي يتابع مقارعة بطلي الحلقة وما يتناثر من اتهامات متبادلة خلال الإجابة عن أسئلة الآخر، بما في ذلك أسئلة مقدم البرنامج وأعضاء فريقي المتحدثين الرئيسيين. وتبقى كلمة التحكيم وتعليقاته التي يدلي بها في لقاء ثنائي مع مقدم الحلقة، لكن الحكم النهائي يظل رهنا بتصويت مشاهدي التلفزيون خارج قاعة النزال. ومن اللافت أن الكثير من حلقات هذا البرنامج كثيرا ما يظهر على نحو يجعله «بالونة اختبار»، ومؤشرا لقياس الرأي العام، بينما يقول آخرون إن «الكرملين» يستفيد منه في محاولات التأثير على الرأي العام. ولعله يكون من المفيد هنا التوقف عند إحدى حلقاته الأخيرة التي جرت أحداثها مساء الخميس الماضي 20 فبراير (شباط) 2012. في هذا الحلقة، استضاف سولوفيوف كلا من فلاديمير جيرينوفسكى الذي يشغل منصب نائب رئيس مجلس الدوما بعد أن ترك رئاسة كتلة حزبه الليبرالي الديمقراطي إلى ابنه إيجور الذي يحمل لقب أمه «ليبيديف»، وفلاديمير بونوماريوف أحد أقطاب الحركة اليسارية ورجل الأعمال الذي تحول إلى عالم المال والتجارة ولم يكن بلغ بعد الخامسة عشرة من العمر، بينما يشغل اليوم عضوية مجلس الدوما عن حزب العدالة الروسية المعارض. وفي معرض الاتهامات المتبادلة بالفساد وانتهاك القوانين والعمل لصالح جهات أجنبية من جانب، وفي خدمة السلطة و«الكرملين» من جانب آخر، بدأ بونوماريوف الحلقة باتهام غريمه جيرينوفسكي بشراء رسالة «دكتوراه الدولة في العلوم الفلسفية» وهو نفس الاتهام الذي وجهته أوساط أخرى إلى ابنه إيجور. وقد جاء هذا الاتهام في خضم حملة عامة واسعة النطاق أطاحت برئيس لجنة تقييم الرسائل العلمية وتقديمه إلى المحاكمة واختيار وزير التعليم العالي الأسبق لرئاسة اللجنة ومراجعة كل الدرجات والرسائل العلمية خلال السنوات الماضية. وتوالت الاتهامات، التي كان منها أيضا انزلاق جيرينوفسكي إلى تقديم الخدمات للسلطة الحاكمة مقابل امتيازات له ولحزبه منذ مطلع تسعينات القرن الماضي وحتى اليوم. أما جيرينوفسكي، فقد تحول إلى الهجوم ضد بونوماريوف ورفاقه من ممثلي المعارضة غير الممنهجة التي قال إنها تتلقى الأموال والتعليمات من وزارة الخارجية الأميركية عبر سفارتها في موسكو. وبغض النظر عن حقيقة الاتهامات ومنها التورط في الفساد، فقد خلص الجانبان إلى سقوط آخرين كثيرين، ومنهم أعضاء بمجلس الدوما، في مستنقع الفساد. وكشفت المبارزات الكلامية والاتهامات المتبادلة عن تورط ما يزيد على 30 من أعضاء «الدوما»، ومنهم كثيرون من أعضاء الحزب الحاكم، في الفساد وممارسة الأعمال التي لا تتناسب وعضوية مجلس الدوما. وكانت الأسابيع القليلة الماضية شهدت اتخاذ مجلس الدوما للكثير من القرارات حول رفع الحصانة عن أعضاء كثيرين، بينما توجه كثيرون آخرون من تلقاء أنفسهم إلى قيادة المجلس بطلب التخلي عن عضوية المجلس بما يتفق مع القول العربي المأثور «يكاد المريب يقول خذوني»، وعلى نحو يهدد - وكما يقول بعض المراقبين - باحتمالات حل المجلس الحالي والإعلان عن انتخابات برلمانية جديدة، وهو المطلب الرئيسي الذي طالما رفعته المعارضة منذ خروجها إلى شوارع موسكو وكبريات المدن الروسية اعتبارا من نهاية عام 2011. على أن هذه المسألة لم تحظ باهتمام كبير من حضور ومشاهدي هذه الحلقة، الذين توقفوا بالدرجة الأولى عند ظاهرة شراء الشهادات والدرجات العلمية، التي طالما أثارت تندر وسخرية الكثيرين في عالمنا العربي بعد اتساع نطاق حصول الكثيرين من القيادات ورموز المعارضة في عدد من الدول العربية على درجات الدكتوراه من المعاهد والجامعات السوفياتية والروسية خلال العقود الماضية.

ونذكر أيضا أن هذه الحلقة سجلت مخاوف ممثلي أكاديمية العلوم الروسية والقائمين على شؤون العلم والتعليم في الدولة الروسية وتحذيراتهم من مغبة اتساع هذه الظاهرة وتأثيرها على العلم والتعليم في روسيا والتأثير على قيمة الشهادات العلمية الصادرة عن الجامعات والمؤسسات التعليمية الروسية في الخارج. ومن اللافت أن رئيس لجنة تقييم الشهادات العلمية العليا (فاك) بادر مهام عمله باقتراح يحاول فيه استرضاء الكثيرين من ممثلي الحزب الحاكم، يتلخص في إمكانية وضع شروط جديدة خاصة بالعاملين في السلطة ممن يريدون التمتع ببريق شهادات الدكتوراه.

وثمة من أعاد إلى الأذهان الضجة التي تعالت في ما سبق حول شهادة الكانديدات (الدكتوراه) في العلوم الاقتصادية التي حصل عليها الرئيس بوتين في مطلع تسعينيات القرن الماضي وكان آنذاك يشغل منصب مساعد مدير جامعة لينينغراد لشؤون العلاقات الخارجية وقالوا آنذاك إن أجزاء كبيرة منها «مسروقة» من مصادر أميركية. لكن أحدا لم يمض أبعد من مجرد ترديد الاتهامات المكتومة دون رفع الأمر إلى الجهات المعنية بمراجعة هذه الاتهامات بعد أن تبوأ بوتين عرش «الكرملين».