العمل الإعلامي داخل الجحيم السوري

مقتل 92 صحافيا خلال عامين.. من 80 مراسلا دوليا إلى حفنة موالية للنظام

الناشط الإعلامي هادي العبد لله يغطي أخبار القصف في ريف القصير («الشرق الأوسط»)
TT

تقدير حجم خطورة العمل الإعلامي في سوريا لا يحتاج لقراءة عدد القتلى من الصحافيين خلال عامين والذي تجاوز الـ92 صحافيا كما لا يحتاج معرفة عدد المعتقلين والملاحقين من الصحافيين، ولا أعداد الصحافيين الفارين من المؤسسات الرسمية إلى خارج البلاد، يمكن بنظرة سريعة إلى أي مؤتمر صحافي لمسؤول في النظام السوري لتقدير حجم الخطر، فبعدما كان عدد المراسلين المعتمدين في سوريا والذين ينقلون عادة وقائع المؤتمرات الصحافية، يتجاوز الـ80 مراسلا، اليوم بالكاد تحضر عشر وسائل إعلامية خارجية معظمها إن لم نقل كلها تابعة لجهات مؤيدة للنظام، مثل القنوات اللبنانية «المنار» و«الميادين» والـ«Otv» ومن الوسائل الدولية «روسيا اليوم» الروسية وقناة «العالم» الإيرانية.. بالإضافة إلى قنوات عراقية ذات تمويل إيراني، هؤلاء يحظون برضى وزارة الإعلام السورية ومن خلفها الأجهزة الأمنية، فيسمح لها بمرافقة قوات النظام لتغطية الأحداث الميدانية ومن وجهة نظر النظام حصرا، إلى جانب وسائل الإعلام الرسمية وكالة (سانا) والقنوات الرسمية الفضائية السورية والإخبارية، والقنوات الخاصة الموالية للنظام (سما الشام)، وعدة إذاعات محلية على الموجة القصيرة، والصحف الرسمية الثلاث «الثورة» و«تشرين» و«البعث»، بالإضافة لجريدة «الوطن» الخاصة، إلا أن مراسلي تلك الوسائل وإن حظوا برضى النظام وأمنوا من وابل نيرانه وملاحقة أجهزته الأمنية، فهم عرضة لنقمة الثوار والجيش الحر، بتهمة مشاركة النظام في جرائمه ضد الشعب السوري، ويطلقون عليهم اسم (أبواق النظام وشبيحة الإعلام)، ومن بينهم مراسلون يأتون على رأس قائمة العار لممارستهم دورا يتجاوز تغطية الأحداث ليصل لمرتبة تقديم استشارات بخصوص الدعاية الحربية، للإعلام الرسمي كمراسل قناة «العالم» حسين مرتضى، الذي لديه صفحة إخبارية على موقع «فيس بوك» المتابعة من قبل مئات المؤيدين.

هؤلاء المراسلون يحتلون المشهد الرسمي كاملا بعدما تم إقصاء وسائل الإعلام العربية والأجنبية، حيث تحول غالبيتهم إما للعمل من الخارج عبر إعلاميين مواطنين أو للعمل سرا تحت الخطر. صحافي سوري كان يعمل في صحيفة محلية إلى جانب مراسلة قناة تلفزيونية عربية، قال: إنه اضطر لمغادرة عمله في الصحيفة بسبب التضييق الشديد على جميع العاملين فيها وقال: «داخل المؤسسات الإعلامية الرسمية يعيش العاملون أجواء إرهاب حقيقي، لا يمكن التفوه بأي كلمة غير التأييد للنظام وقتله المعارضين والثوار، وإذا حاول الصحافي في حديث شفهي، إبداء أي تعاطف أو انتقاد لوحشية قوات النظام يقوم زملاؤه من المخبرين بالإبلاغ عنه واقتياده إلى التحقيق بتهمة دعم الإرهاب»، مشيرا إلى أن عشرات الإعلاميين في المؤسسات الرسمية تم اعتقالهم لفترات متفاوتة والتحقيق معهم، ومن ثم تم تجميدهم ومنهم من قتل مثل الصحافي في جريدة «تشرين» مصعب العودة الله، ومخرج برامج في التلفزيون قضى تحت التعذيب، وغيرهما ما زالوا معتقلين. وقال: «كثير من زملائنا غادروا البلاد حيث لم يعد بالإمكان البقاء هنا، فالعمل الإعلامي بالنسبة للصحافيين المعروفين في البلد شبه مستحيل إذا لم يكن لتلميع النظام».

في الأشهر الأخيرة شهدت البلاد تسلل عشرات الإعلاميين العرب والأجانب إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش الحر، لا سيما في مناطق الشمال حلب وإدلب والرقة، ومنهم من وصل إلى حمص وريفها وحتى إلى ريف العاصمة دمشق، ويقومون بتغطية الأحداث من تلك المناطق إما مباشرة أو عبر تقارير تبث بعد خروجهم، أبرزهم كان من مراسلي قناتي «العربية» التي أوفدت ريما مكتبي، التي أعدت سلسلة تقارير، وقناة «الجزيرة»، التي سجلت الخرق الأكبر بإيفادها عددا من مراسليها إلى سوريا غادة عويس وتامر المسحال في الشمال وأحمد زيدان والأخير مقيم في ريف دمشق منذ نحو شهر ويبث تقاريره من على بعد بضعة كيلومترات قليلة من العاصمة حيث ترابض قوات جيش النظام بكامل عتادها، ودخول هؤلاء مثل تحديا كبيرا لقوات النظام وأيضا للخطر الكبير الذي يتعرضون له في قلب دائرة نار التهمت أكثر من 92 صحافيا خلال عامين منذ انطلاق الثورة، حتى أن إعلاميا حلبيا غير معروف اسمه ساهر يحيى عرض أول من أمس عبر صفحة «الحرس الجمهوري السوري الإلكتروني اللواء 105» مبلغ 50 ألف دولار جائزة من «ماله الخاص» لمن يخطف «الإرهابية» الإعلامية غادة عويس في حلب ويسلمها لقوات النظام، الأمر الذي أثار ردود فعل كبير وفي أوساط السوريين وردا على هذا العرض قدم جيري ماهر، باسمه وباسم إذاعة «صوت بيروت إنترناشيونال» مبلغ 500 ألف دولار لمن يلقي القبض على ساهر يحيى، كما قدم الشيخ بندر أبو زهرة مبلغ 100 ألف دولار للغرض ذاته. ورغم ما تنطوي عليه تلك العروض من طرافة سوداء، فإنها تشير إلى أن سوريا باتت جحيما على الإعلاميين، إلا من قرر منهم خوض المغامرة المهنية الصعبة حتى النهاية في بلد سجل فيه أعلى رقم في عدد القتلى من الصحافيين في عام 2012. وكان لهؤلاء بمن فيهم الإعلاميون المواطنون، الفضل الأكبر في تحطيم العزلة الإعلامية التي فرضها النظام على سوريا، ليس خلال عامين من الثورة، بل على مدى أربعة عقود من حكم البعث، احتكرت فيها العملية الإعلامية وقيدت بسلاسل قوانين الطوارئ والأحكام العرفية. وتمكن الإعلامي المواطن ومنذ اليوم الأول لخروج أول مظاهرة في دمشق 15 مارس (آذار)، وبأدواته البسيطة كاميرا موبايل أو كاميرا سرية من توثيق غالبية الوقائع على الأرض وبثها عبر النت لمراسلي وسائل الإعلام في الداخل والخارج ليعاد إنتاجها وبثها عبر الوكالات والتلفزات والصحف، ولتأخذ المساحة الأكبر وبما يتناسب وحجم الأحداث التي تشهدها البلاد.

أحمد وهو ناشط إعلامي في دمشق يشير إلى كاميراته السرية ويقول: «إنها أمانة سلمها لي صديقي الذي استشهد بالقصف على الغوطة الشرقية، وكنا تعاهدنا على المضي في عملنا حتى نيل الحرية» وحول معاناته في العمل الإعلامي قال: «أنسى الخوف والخطر عندما أنجح في تصوير وتسجيل وحشية النظام، وأكبر فرحة لي عندما أتمكن من تحميلها على النت» لافتا إلى الصعوبات الكبيرة التي يواجهها الناشطون الإعلاميون في التحايل على رقابة النت في سوريا، والحاجة الدائمة لاستشارات تقنية بخصوص تجديد برامج فك الحجب، ولكنه يقول في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام التي يمكن أن يتوفر فيها نت فضائي لا نعاني من هذه المشكلة لكننا نكون في مواجهة «خطر ترصد موقع البث من قبل قوات النظام وقصفه الأمر الذي يجعلنا دائمي الحركة والتنقل لتفادي الرصد» وحول العمل الميداني في المناطق الساخنة، يقول: «إن متعته لا توصف لكن أيضا لحظات الألم فيه لا توصف حين نكون وجها لوجه مع القذائف والدمار وأشلاء الشهداء.. وغالبا الشهداء هم من رفاقنا وحين ننهمك بتصوير تلك الأشلاء التي من المفترض أن نلمها ونبكي عليها.. لا شيء يعيننا في تلك اللحظات سوى الله وصيحات الله أكبر».

من جانب آخر وخلال عامين وخارج القيد أصدر الإعلاميون السوريون أكثر من عشرين صحيفة مطبوعة يتم طباعتها سرا، وتوزع كمناشير في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، بينما توزع علنا في المناطق الخارجة عن السيطرة، وغالبيتها تطبع في الداخل، أبرزها (سوريتنا وعنب بلدي وطلعنا عالحرية وحرية والجسر وأميسا.. وغيرها)، بالإضافة إلى عدد من الإذاعات الخاصة الحرة تبث من قلب دمشق عبر شبكة الإنترنيت، كما بات لكل منطقة مكتب إعلاميا يتولى مهمة التصوير وتوثيق الأحداث والتواصل مع وسائل الإعلام وتزويدها بالمعلومات والصور، ويعمل في تلك المراكز صحافيون محليون محترفون ولكن بشكل سري، وإعلاميون مواطنون (غير محترفين). ويشار إلى أنه ومنذ بداية الأحداث تشكلت رابطة الصحافيين الأحرار وينضوي فيها نحو 200 إعلامي سوري، غالبيتهم فروا من الداخل إلى الخارج، وينشطون في تنسيق ودعم العملية الإعلامية، من خلال تنظيم دورات تدريب مهني للتطوير العمل الإعلامي بالتعاون مع منظمات دولية، بالإضافة لأنشطة أخرى، وتسجيل الانتهاكات بحق الإعلاميين في سوريا، من جانب النظام والثوار وتقوم بمتابعتها، كما تتابع الأداء الإعلامي الثوري السوري عموما، والتغطيات الإعلامية وتقدم الاستشارات بهذا الخصوص وتصحيح المصطلحات. ويمكن القول: إن الإعلام شكل التحدي الأكبر للنظام السوري في مسيرة قمعه للثورة السورية، ولم تفلح الاعتقالات الواسعة في صفوف الإعلاميين بالحد من تشكيل إعلام سوري مستقل يدفع ثمنا باهظا لانتزاع حريته.