طقوس صحافة ما بعد «البيريسترويكا» في موسكو

حكاية مؤتمر صحافي.. وتساؤلات عن «شرف المهنة»!

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدى اجتماعه بمسؤولين بالكرملين في السابع من مايو أيار الجاري ( أ. ب)
TT

للمؤتمرات الصحافية طقوس وتقاليد تتفق فيما بينها في أشياء، وتختلف في أخرى أينما كانت.. ودون التأثر بتقلبات الزمان وتضاريس المكان. على أن ذلك لا يعني التغاضي عن تباين كل المؤتمرات الصحافية في كل الأزمنة والأمكنة بقدر تباين السمات الشخصية ومدى ليبرالية الناطق الرسمي، وبما يتفق مع آيديولوجية المؤسسة الحاكمة بطبيعة الحال.

هذا الأمر ينسحب ضمنا على موسكو وعلى معظم ما يجري فيها وفي فلكها من مؤتمرات ولقاءات.. بل تتسع دائرة التأثير والتأثر لتشمل الرحلات الصحافية والزيارات الميدانية في الأقاليم والجمهوريات التابعة للعاصمة الروسية بدعوات مجانية، غالبا ما يتمتع بها عدد محدود من «الصفوة المنتقاة» وفق معايير تقف في بعض الأحيان على طرفي نقيض من المهنية والقيمة الحقيقية للمؤسسة التي يمثلونها. ومن هذا المنظور تحديدا يمكن استعراض بعض ما تشهده موسكو من مؤتمرات وفعاليات صحافية بكل ما تتسم به من عوار أو قصور. ولعل أهم وأبرز أشكال هذا العوار وذلك القصور يتمثل في افتقاد أبسط قواعد وأصول المهنة من جانب البعض ممن يعزون «عوار الأداء» إلى اضطرارهم إلى السقوط في شركه بحجة «أننا لن نستطيع ممارسة العمل الصحافي لو اعترضنا على ذلك»، على حد تعبير أحدهم، متناسيا أن ما يفعله يقف على طرفي نقيض من أبسط أبجديات العمل الصحافي.

وكان المؤتمر الصحافي الذي عقدته الخارجية الروسية في ختام مباحثات الوزير سيرغي لافروف مع وفد الجامعة العربية برئاسة الدكتور نبيل العربي الأمين العام، وعضوية عدد من وزراء الخارجية العرب، كشف عن الكثير مما يعتري العمل الصحافي ونظام إدارة المؤتمرات الصحافية في موسكو من شوائب وقصور. ويذكر حضور المؤتمر مدى الارتباك الذي ساد أروقة الحضور لحظة دخول إحدى الفتيات «الصغيرات» لاستطلاع أجواء الحضور قبيل بدء عمل المؤتمر وانتقاء المحظوظين الذين سينعمون بفرصة توجيه السؤال إلى منصة المؤتمر. ويذكر الكثيرون لحظة تدافع البعض، ولم يكونوا سوى عدد محدود من الصحافيين الذين يتكررون كثيرا في معظم هذه المناسبات، صوب المكان الذي وقفت فيه الفتاة الصغيرة، للإعلان عن ضرورة تقديم السؤال مكتوبا لكل من يرغب في توجيه السؤال لعرضه على المسؤول عن تنظيم أعمال المؤتمر، دون اعتبار لما يعنيه مثل هذا الأسلوب من إهانة وانتقاص لمهنة الصحافة، وتجاوز لمعنى وأهداف المؤتمر الصحافي الذي من المفروض أن يكون ساحة للحوار الحي المباشر، وفرصة أمام الصحافي لاستدراج المسؤولين صوب الإفصاح عن المزيد من خفايا ودقائق الأوضاع الراهنة بعيدا عن «مسرحة» المؤتمرات واللقاءات الصحافية التي طالما انزلق إليها الكثيرون في موسكو في السنوات الأخيرة. ذلك ما شعرنا أنه غاب عن البعض ممن يستمرئون العمل في كنف السلطة.. أي سلطة وهم الذين طالما «تشدقوا باستقلالية القرار والسلوك».

سارع هؤلاء إلى الامتثال للتعليمات التي جاءت من عل، ما أجج فورة الغضب تجاه مثل هذا السلوك الممجوج تنديدا واحتجاجا، وانطلاقا من اعتبار ذلك مساسا بشرف المهنة وكرامة الصحافي. هنا استعدنا بعضا من مشاهد الماضي السوفياتي الذي لم يكن كله أسود. قلنا إن ذلك لم تشهده المحافل الصحافية في موسكو إبان سنوات الاتحاد السوفياتي السابق التي كانت في معظمها منذ جاء الزعيم ميخائيل غورباتشوف إلى سدة الحكم، تجسيدا حقيقيا «للجلاسنوست» (العلانية والشفافية) التي أعلنها في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وأسست لاحقا للفترة الذهبية التي عاشها الصحافيون المحليون والأجانب خلال حقبة التسعينات التي لم تشهد قصفا لقلم أو إغلاقا لقناة، وإن شهدت عددا من الاغتيالات التي راح ضحيتها عدد من الصحافيين الذين دفعوا حياتهم ثمنا لشجاعتهم في تناول قضايا الفساد في النسق الأعلى للسلطة.

وأشرنا إلى أن ذلك يعد امتهانا للصحف والقنوات العربية ليس فقط من الجانب المضيف، بل أيضا من جانب من عهدت هذه الصحف والقنوات إليهم بتمثيلها في موسكو، ومن ارتضى لنفسه ولها السقوط في شرك التبعية والعمل، ولا نقول «العمالة»، على مثل هذا النحو المهين والامتثال لمثل هذه التوجيهات المعيبة. وبدلا من الإحساس بالذنب والشعور بالملامة، كانت المفاجأة التي تمثلت في محاولة تبرير السلوك الخاطئ، والإصرار على ارتكاب الخطيئة. بل مضى البعض في تبريراته إلى إعلان أنه لا ضرار في ذلك ولا غرابة، على اعتبار أنه تقليد معمول به في كل البلدان الغربية بما فيها أميركا! قالها ربما تبريرا لما يقولونه حول ضرورة «استشارة» أولي الأمر في موسكو قبل وبعد الانطلاق في أي من الرحلات «الصحافية» الخارجية؛ أملا في مطامع حياتية لا علاقة لها بأصول المهنة.

قالها من لم تطأ قدماه محفلا صحافيا في أي من البلدان الغربية، ما دفع إلى التذكير بأن ذلك لم نشهده في أي من المحافل والملتقيات الصحافية الغربية.. لا «البيت الأبيض» ولا «الإليزيه»، ولا غيرهما من القصور الرئاسية التي طالما شهدت لعمالقة الصحافة بجسارة الموقف وقوة الكلمة! أعدنا إلى أذهان السامعين مواقف الأسطورة هيلين توماس، التي طالما كفلت لها موقع الصدارة بين صحافيي البيت الأبيض، وأعلت مكانتها لدى الرؤساء الأميركيين على مر عقود كثيرة! أعدت على أسماع الحاضرين ما قاله أحد أبرز الصحافيين السوفيات لنا قبيل بداية أحد المؤتمرات التي حضرتها معه في الإليزيه في مطلع تسعينات القرن الماضي، وكنا ننتظر وصول الرئيسين الأسبقين الفرنسي فرنسوا ميتران والروسي بوريس يلتسين.

وكان فلاديمير بولشاكوف مدير مكتب صحيفة «البرافدا» في باريس أعاد إلى الأذهان ما فعله الصحافيون الفرنسيون والأجانب ردا على مضايقات الأمن والموظفين لهم خلال فترة انتظارهم للمؤتمر الصحافي الذي كان مقررا أن يعقده الزعيمان الفرنسي جيسكار ديستان والسوفياتي ليونيد بريجنيف في رامبوييه في ضواحي العاصمة الفرنسية باريس.

قال إن الصحافيين الفرنسيين والأجانب اتفقوا فيما بينهم على مغادرة المكان احتجاجا على مثل هذه المضايقات. وما إن شرعوا في تنفيذ قرارهم حتى هرع الجميع إلى اتخاذ كل ما من شأنه ثنيهم عن تنفيذ القرار والاستجابة لكل ملاحظاتهم وطلباتهم تنفيذا لتعليمات الزعيمين جيسكار ديستان وليونيد بريجنيف بعد أن بلغهما النبأ حول عزمهم على مقاطعة مؤتمرهما الصحافي. وتلك من العلامات المشهودة التي لم نشهد مثيلا لها في موسكو خلال ما يزيد على ربع قرن عملت خلالها صحافيا معتمدا لدى وزارة الخارجية الروسية ممثلا للكثير من الصحف والإذاعات والقنوات التلفزيونية العربية في العاصمة موسكو.

ونعود إلى موسكو ومؤتمرها الصحافي «المشهود» لنقول إنه لم يكن مضى من الزمن الكثير حتى عادت «الصغيرة» لتسلم المحظوظين الموعودين بـ«جنة الخارجية الروسية» الأسئلة المطلوب توجيهها، مطبوعة بعد إدخال التعديلات اللازمة، مع الإعلان عن أن الذين وقع عليهم الاختيار لتوجيه هذه الأسئلة هم المسموح لهم فقط بالبقاء في قاعة المؤتمر، وعلى الآخرين من غير المصورين إخلاء القاعة، والتوجه إلى قاعة أخرى بالطابق الأول لمتابعة وقائع المؤتمر عبر شاشة التلفزيون هناك.

وما إن فرغت «الصغيرة» من إعلان فرمانها حتى تناهض الجالسون من الصحافيين المغلوبين على أمرهم، للانصراف امتثالا للتعليمات. هنا شعرنا نحن «المغضوب علينا» ممن يرفضون الامتثال لمثل هذه الفرمانات الممجوجة، بلسعة نظرات «المحظوظين الموعودين بجنة الخارجية الروسية»، على نحو ينم عن شماتة سافرة وكأن لسان حالهم يقول: «فلتذوقوا مرارة إصراركم على التمسك بشرف المهنة وكرامة الصحافي»! لم يكن عددنا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة! تبادلنا النظرات التي أكدت دلالاتها إصرارنا على عدم مبارحة المكان وعدم امتثالنا للفرمان سيئ السمعة! قلت صراحة ودون مواربة إن الخروج لا بد أن يعني ضمنا إعلانا من جانبنا عن عدم العودة إلى المكان الذي يرى أصحابه أننا ضيوف غير مرغوب في وجودهم، شأن الكثير من مواقفهم السابقة التي تعمد أصحابها استثناء مشاركتنا في عدد من فعالياتهم الصحافية، وإغفال دعوتنا إلى بعض «الرحلات الخارجية»، إلى جانب استبعاد أسمائنا من قائمة المدعوين إلى حفلات الاستقبال التقليدية التي يقيمونها للصحافيين الأجانب مع مطلع كل عام جديد والتي عادة ما يشارك فيها وزير الخارجية بنفسه، إضافة إلى تعمد تعطيل مد فترة اعتمادنا لأشهر طويلة، فضلا عن المضايقات المتكررة التي عرضنا بعضا من جوانبها في مقال سابق حمل عنوان «هل من السهل أن تكون صحافيا أجنبيا في موسكو؟» نشرته صحيفتنا «الشرق الأوسط» في 21 يوليو (تموز) 2011.