الموت يغيب أحد أبرز الأقلام الصحافية البريطانية

محرر «التايمز» للشؤون الخارجية بدأ مسيرته المهنية مع «ذا ديلي ستار» اللبنانية

الصحافي ريتشارد بيستون يتوسط أفغان خلال احدى تغطياته للحرب في افغانستان («الشرق الأوسط»)
TT

غيب الموت أمس أحد ألمع الصحافيين البريطانيين الذي غطى أحداث العالم على مدار العقود الثلاثة الماضية وأصبح اسمه مرتبطا في ذهن القراء بقصص سياسية وإنسانية من حول العالم.. إنه الصحافي البريطاني ريتشارد بيستون الذي توفي صباح أمس في منزله عن عمر يناهز خمسين عاما بعد صراع طويل مع مرض السرطان. وبيستون، الذي كان المحرر الأجنبي لصحيفة «ذا تايمز» البريطانية، اشتهر بحسه الصحافي المرهف، وعلى الرغم من تغطيته لأحداث حول العالم كانت منطقة الشرق الأوسط تشده دوما، فبدأ مسيرته الصحافية بتغطية الحرب الأهلية اللبنانية وبرز بتغطية الحرب العراقية - الإيرانية، وكان من أول الصحافيين الأجانب الذين غطوا ضرب حلبجة في العراق بالسلاح الكيماوي عام 1988، واعتبر ذك «أهم خبر استطعت تغطيته فلم تكن شعوب الغرب تعرف خفايا نظام (الرئيس العراقي السابق) صدام حسين بعد». وكانت سوريا تشغله في أسابيعه الأخيرة، إذ زار المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوري الحر في سوريا، وزار تركيا ودول المنطقة لينقل القصة السورية إلى قرائه في بريطانيا وحول العالم. وكانت آخر تغريدة لبيستون على موقع «تويتر» يوم 5 مايو (أيار) الحالي، قال فيها إن «المئات من السوريين السنة يقتلون في تطهير عرقي. إيران تسلح حزب الله بالصواريخ. بشار يستخدم الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، وأوباما مفقود»، في إشارة إلى هشاشة دور الرئيس الأميركي باراك أوباما.

بدأ بيستون حياته المهنية في الصحافة مع صحيفة «ديلي ستار» في بيروت عام 1984، ثم عاد إلى المملكة المتحدة والتحق بصحيفة «ذا تايمز» اليومية وقضى عاما في المقر الرئيس فيها قبل أن يبدأ عمله مراسلا أجنبيا في مواقع عدة بالشرق الأوسط، بالإضافة إلى أربع سنوات قضاها مراسلا في روسيا غطى خلالها الحرب في الشيشان. وخلال سنوات عمله في العالم العربي، تعلم بيستون بعض عبارات اللغة العربية، وكانت من بين أكثر العبارات التي يحبها «في المشمش»، ليصف بعض التوقعات غير المنطقية للتغييرات في العالم العربي.

وكان للعراق أثر في مسيرته الصحافية، إذ غطى مجزرة حلبجة ومن بعدها غطى حرب الخليج الثانية عام 1991 من داخل بغداد وعاد لها خلال الحصار وخلال حرب عام 2003 وسنوات طويلة بعدها. وكان بيستون من أشد المدافعين عن العراقيين الذين عملوا مع القوات البريطانية وخاض حملة في صحيفته وفي الأروقة السياسية البريطانية لمنح حق اللجوء للعراقيين الذين تعرضت حياتهم للخطر بعد العمل مع البريطانيين.

وبعد تولي بيستون منصب «المحرر الدبلوماسي» لسنوات عدة جعلته يقابل قادة من حول العالم ويرافق رؤساء وزراء بريطانيين في جولاتهم الخارجية، أصبح «المحرر الخارجي»، وهو المنصب الأرفع للشؤون الخارجية، لصحيفة «التايمز» البريطانية العريقة عام 2008. وعلى الرغم من شهرته في الأوساط السياسية والإعلامية البريطانية والأوروبية، بقي بيستون متواضعا ومتحمسا لمساعدة الآخرين. وحرص بيستون على مساعدة الصحافيين الجدد والصغار والمتدربين، وكان يتفرغ لإعطاء النصائح والدعم لأي صديق أو صحافي، وإن كان منافسا له، في أي وقت رغم انشغاله.. فبراعته الإعلامية كانت تأتي من إنسانيته الفريدة التي جعلته قريبا إلى قلب من يتعرف عليه فيفتح له قلبه ويبوح له بأفكاره التي كان ينقلها بصدق وأمان إلى قرائه، أو يحتفظ بها سرا إذا كان ذلك مطلوبا.

وعلى الرغم من المرض، فبيستون بقي يعمل حتى أسابيعه الأخيرة، وكان يعتبر التوجه إلى مكاتب «ذا تايمز» شرق لندن دليلا على الحياة بحد ذاته. ولكنه لم يستطع ركوب دراجته النارية ليصل إلى العمل وإلى المؤتمرات الصحافية كما كان معروفا عنه، بل تخلى عنها وبات يعتمد على سيارة وسائق لتقله، لكنه لم يفقد روح الدعابة والمرح يوما.

وأعلن رئيس التحرير المؤقت لصحيفة «ذا تايمز» جون ويثرو أمس خبر وفاة بيستون في رسالة إلى العاملين في الصحيفة. وقال إن بيستون «قال كثيرا إن فقط المجيء إلى المكتب جعله يعيش، وقد أبدى دوما حس النكتة والتقييم الرائع وحبه للحياة حتى النهاية». وأضاف أنه «كان من أفضل المحررين الأجانب لـ(ذا تايمز)، ولكن الأهم من ذلك أنه كان حقا إنسانا رائعا.. وسيفتقده بشكل هائل كل من كان له الحظ أن يعرفه».

وقالت زوجته ناتاشا في صفحته الخاصة على موقع «فيس بوك» أمس إنه توفي بين ذراعيها «في أمان ومن دون ألم». وناتاشا كانت الرفيق الدائم لبيستون ولديهما ابنة تسمى جورجينا وابن يسمى جاك.

وفي مقابلة مع صحيفة «الشرق الأوسط» في مارس (آذار) 2006، قال بيستون: «سيبقى الصحافيون يتوجهون إلى الشرق الأوسط ويركزون على الأحداث المتقلبة فيه. ومع الأسف، هذا ليس دائما عاملا جيدا، لأنه يعني تزايد الأخبار السيئة لشعوب المنطقة». إلا أنه مع وفاة بيستون، غاب صوت مهم في نقل معاناة شعوب المنطقة ومحاولة فهمها إلى العالم الخارجي.