لعبة الكراسي الموسيقية تهز أركان صحافة الأزياء

تحركات واستقالات وتنقلات وتعيينات جديدة بين مشرفي صفحات الموضة

فانيسا فريدمان ستنتقل من «ذي فايننشال تايمز» إلى «نيويورك تايمز إنترناشيونال»
TT

تنقلات المصممين التي شهدتها عدة بيوت أزياء مؤخرا، وصلت عدواها إلى محرري ونقاد الأزياء في الصحف والمجلات في مشهد يثير الكثير من الاستغراب والتساؤلات عن أسبابها وتأثيراتها على صحافة الموضة الجادة. من التساؤلات التي تتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى هو ما إذا كان استقطاب بعض المجلات البراقة لأقلام جادة رغبة في أن تكتسب قوة ومصداقية أكبر، أم أن خروج هذه الأقلام من صحف مؤثرة وكبيرة دلالة أنها باتت تواجه بابا مسدودا يكبل يديها ويعرقل تقدمها المهني؟. مسلسل التحركات بدأ مع انتقال إريك ويلسون من صحيفة «نيويورك تايمز» إلى مجلة «إنستايل»، الذي لم يمر عليه سوى وقت قصير، حتى أعلنت كاثي هورين، وهي ناقدة من نفس الصحيفة، استقالتها لأسباب شخصية. وغني عن القول أنها كانت تعتبر من أعمدة صحافة الموضة العالمية، يحترم قلمها الكل ويخافونها في الوقت ذاته لموضوعيتها وعدم تغليفها الحقائق بشكل دبلوماسي. لكن بما أن الأمور تأتي ثلاثا، فقد أعلنت سوزي مانكس، كبيرة المحررات في الصحيفة وأكثرهن تأثيرا في ساحة الموضة منذ أكثر من 26 عاما، خبر انتقالها إلى مجموعة «كوندي ناست» خلال أسبوع باريس للموضة الأخير. وقالت إنها سعيدة لحصولها على وظيفة كبيرة المحررات العالميات في كل مواقع كوندي ناست. وهكذا خسرت الصحيفة، التي تعتبر البوصلة لما هو جيد وما هو غث في عالم الموضة، ثلاثة أقلام مهمة من الصعب تعويضها بسهولة. والخوف هنا أن تتغير صحافة الأزياء مع غياب هؤلاء، بأن تفقد شفافيتها ومصداقيتها من أجل إرضاء المصممين، أو بالأحرى محاباتهم للحصول على إعلانات. يقول روب يونغ، وهو صحافي متعاون مع الكثير من الصحف والمجلات المتخصصة في الموضة، نذكر منها «نيويورك تايمز» و«بيزنس أوف فاشن» و«الفاينانشال تايمز» لـ«الشرق الأوسط» بأن كل هذه التحركات، وفي وقت متقارب من بعض «تبدو للوهلة الأكثر أكثر من صدفة، لكني أعتقد أنها فعلا كذلك. فكل واحد من هؤلاء غادر الصحيفة لأسباب شخصية تحتمها ظروف خاصة، ومع ذلك أفهم تماما لماذا تثير قلق البعض، فهي تشير إلى تغييرات كبيرة حاصلة حاليا في عالم الموضة. من هذه التغييرات، لا بد أن أذكر تقلص تأثير نقاد الأزياء في الصحف الجادة مقارنة بما كان عليه في السابق، حين كانت الصحف معقلا حصينا للنقد الموضوعي. وحتى بعد تغير المشهد الإعلامي، الذي تتحكم فيه المجلات، ونحن نعرف أنها تخضع لإملاءات الإعلانات والرغبة في تحقيق الأرباح، ظلت الصحف المنبع الذي يغرف منه المتابعون أخبار الموضة وتغيراتها بموضوعية. فعدم خضوعها لإملاءات المعلنين يعني أنها كانت تمنح العاملين فيها صوتا جريئا لا يتمتع به أقرانهم في المجلات البراقة». ويتابع روب يونغ: «لكن المشهد تغير في الآونة الأخيرة، للأسف، إذ ليس بالضرورة أن يكون لك حاليا اسم موثوق به، أو تكون ملما بخبايا الموضة وتاريخها لكي تتخصص في مجال الموضة، بدليل أن الكل أصبح يدلي بدلوه فيها. وأنا لا أقصد هنا المدونين فقط بل أي شخص نصب نفسه كاتبا أو معلقا على ما يجري في هذا المجال بمجرد أن فتح حسابا على تويتر أو على فيسبوك وغيرهما من وسائل التواصل الاجتماعي. من ناحية، كان دور هؤلاء إيجابيا إلى حد ما، من ناحية أنه حرك المياه الراكدة وجعل البعض يفكر في تغيير الأسلوب التقليدي القديم في كتابة الموضة ليبقى مواكبا لتكنولوجيا العصر، لكنه كان سلبيا من ناحية أنه قلص من أهمية النقد الموضوعي، وهو ما كان له تأثير مباشر على محرري الموضة الكبار. والسبب أن الأصوات الكثيرة تسببت في خلق ضجيج يصعب معه سماع الأصوات الرزينة والجيدة».

ما يشير إليه روب يونغ وأمثاله من القلقين على صحافة الموضة الجادة، أن نقاد الموضة معرضون للانقراض في خضم هذه التغيرات. فبينما هناك العشرات من محرري ومحررات الموضة في كل أنحاء العالم، بعضهم يدخل المهنة من باب تخصصات لا علاقة لها بصناعة الموضة، ليس هناك سوى حفنة من النقاد المتمرسين والمؤثرين، نذكر منهم تيم بلانكس من موقع «ستايل دوت كوم»، وكاثي هورين وسوزي مانكيس. فلكي تنتقد أي مصمم أو أي تشكيلة بطريقة موضوعية ومقنعة، من المفترض أن يتسلح الناقد بالمعرفة، ويكون ملما بكل التفاصيل الممتدة من الماضي إلى الحاضر لكي يضع كل شيء في إطار تاريخي ثقافي واجتماعي، وبالتالي يعطي فكرة واضحة عما إذا كان المصمم مواكبا لمتطلبات العصر وقارئا لنبض الشارع أم لا. فهذه التفاصيل هي التي تفرق بين محرر أزياء عادي يركز على نقل فعاليات العرض كما هي، مسلطا الضوء على الألوان والأحجام وما إذا كانت التشكيلة ناجحة أم لا من وجهة نظر شخصية، وبين ناقد موضة يتجرد من الشخصي ويغوص في إيحاءاتها الثقافية والفنية ومعانيها وانعكاساتها الاجتماعية. من دون هؤلاء النقاد، يشعر الكثيرون أن صحافة الموضة ستفقد جانبا مهما فيها، ما سيترتب عنه نتائج سلبية، لأن القارئ حينها لن يستطيع أن يفرق بين الجيد والغث ويصبح كل شيء مجرد وصف، وربما مدح وتجميل لإرضاء المصمم.

صحيفة «نيويورك تايمز إنترناشيونال» إلى الآن كانت مثالا يحتذى به، لأنها شجعت العاملين فيها على المصداقية، بدعمهم دعما غير مشروط لسنوات، ما ميزها عن باقي الصحف العالمية. لكن خروج ثلاثة نقاد منها، وفي غضون فترة وجيزة، يثير عدة تساؤلات عن توجهها المستقبلي. في الأسبوع الماضي، أعلنت تعيين فانيسا فريدمان، وهي صحافية معروفة ومحترمة في صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية وخريجة جامعة برينستون، لتمسك جانب الموضة فيها. وعلى الرغم من أن قلمها ليس لاذعا مثل قلم كاثي هورين مثلا، وهذا يعني أنه لا خوف من أن تثير حفيظة المصممين، لكنها تتمتع بعدة ميزات، أهمها نظرة ثاقبة وقدرة عجيبة على ربط الموضة بالأحداث الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن إلمامها بصناعة الموضة ككل. وهذا يعني أنها جسر قوي يرضي جميع الأطراف في الوقت الراهن على الأقل حتى يثبت العكس.

أما بالنسبة لكتابة الموضة في المجلات البراقة، فإن تحول بعض الأسماء الكبيرة إليها يعني شيئا واحدا، وهي أنها جادة في تغيير جلدها. وهذا ما يجعل نقلة إريك ويلسون من الصحيفة الأميركية إلى مجلة «إنستايل» مهمة رغم أنها كانت مفاجئة ومثيرة للاستغراب، كونه ناقدا صحافيا محترفا، أكثر منه محرر أزياء النجمات والشهيرات، وهو ما يعد العمود الفقري في المجلة، ما يكسبها شعبيتها وقوتها الإعلانية. فالنقلة جعلت المتفائلين يرددون أنه سيبدأ صفحة جديدة من ناحية أنه سيرقى بها إلى مستوى أفضل، الأمر الذي سينعكس حتما على ذائقة قرائها، من المهتمين أساسا بالموضة. فهم يقرأون كل شيء فيها بنهم، على العكس من الصحيفة العالمية التي تهتم أولا بالأخبار السياسية وثانيا بالمنوعات أو الموضة، مما يجعل قراء صفحات الموضة فيها إما نخبويين أو يعملون في قطاع الموضة. طبعا لا يمكن ألا نشير هنا إلى أن النقلة مهمة لإريك ويلسون على المستويين الشخصي والمهني. الشخصي بوصول اسمه إلى شرائح أوسع وحصوله على تقدير أكبر، والمهني تغييره شخصية المجلة وارتقاؤه بها إلى مستوى أعلى يمنحها مصداقية أكبر ويستقطب لها قراء جددا.

أما بالنسبة إلى سوزي مانكس، التي قضت 26 عاما في «هيرالد تريبيون» التي اندمجت فيما بعد مع «نيويورك تايمز إنترناشيونال»، فيمكن القول إن نقلتها إلى «كوندي ناست» وتحديدا إلى مجلة فوغ، حيث ستشرف على كل مواقع الإنترنت فيها، مكسب كبير للمجلة، لأنها ستدفع بها إلى الأمام وتضيف إليها شحنة كبيرة من المعرفة والتحليل الموضوعي لا تتوفر عند أحد غيرها، عدا عن التغطيات المباشرة لعروض الأزياء العالمية.