الأزمة الأوكرانية تشعل نيران «الحرب الإعلامية» بين «رفاق الأمس»

ميخالكوف وتلفزيون «بيسوغون» المثير للجدل في موسكو

المخرج الروسي الحائز الأوسكار نيكيتا ميخالكوف مع الإعلامية كسينيا سوبتشاك
TT

في البدء كانت الكلمة... منها وبها افتتح نيكيتا ميخالكوف المخرج الروسي العالمي صاحب الأوسكار معاركه التي اختار لها شبكة «الإنترنت» سبيلا ومنطلقا للرد على ما يصفه بـ«الأكاذيب الشمولية» في الساحة الإعلامية الروسية. ولعل اختياره لاسم «بيسوغون» أي «طارد الأرواح الشريرة» لبرنامجه الأسبوعي الذي يبثه عبر شبكة «الإنترنت»، يمكن أن يكون تفسيرا للكثير من توجهات هذا البرنامج وأهدافه. وثمة من يقول: إن إذاعة هذا البرنامج عبر قناة «روسيا - 24» التلفزيونية الإخبارية الرسمية يعكس الموقف الرسمي للدولة من مضمون وتوجهات ميخالكوف، وهو الذي يستهدف بالدرجة الأولى تفنيد ودحض ما تردده الأوساط المناهضة لتوجهات الرئيس فلاديمير بوتين وسياساته، فيما يُعَرج في بعض حلقاته لاستعادة الكثير من مشاهد تاريخ الماضي القريب والبعيد على حد سواء على نحو يتسق فيه مع ما يملكه من قدرات فنية وثقافية يسخرها لتأصيل توجهاته القومية المتشددة.

ورغم أن هذا البرنامج الذي تقتصر مساحته الزمنية على ثلاثين دقيقة لم يظهر إلى النور سوى منذ ما يقرب من الشهر فقط، فإنه استقطب اهتمام الأوساط الإعلامية والسياسية إلى حد كبير بما أثاره من موضوعات يتواصل حولها الجدل ويجعلها محور الكثير من البرامج الحوارية «توك شو» في عدد من القنوات التلفزيونية والإذاعات الرسمية وغير الرسمية طوال الأسابيع الأخيرة. وكان نيكيتا ميخالكوف المعروف عالميا بقدراته الفنية وثقافته الموسوعية توقف بالكثير من النقد والإدانة لعدد من أبرز نجوم الساحة الروسية الفنية والإعلامية لما اتخذوه من واقف سياسية تقف على طرفي نقيض من سياسات الكرملين.

وهنا قد يكون من المناسب وقبل التطرق إلى جوهر ما يقدمه ميخالكوف، التوقف عند إحدى حلقات برنامج «بث مباشر» على القناة الأولى للتلفزيون الروسي، والتي تناولت أسباب ظهور برنامج «بيسوغون»، وأعادت إلى الأذهان الكثير من أوجه الشبه مع ما تزخر به المواقع العربية في الشبكة الدولية ومنها «الفيسبوك»، من صفحات كانت ولا تزال تحفل بالكثير من التجاوزات و«البذاءات» التي تتناثر كما البثور على الجسد العليل، بعد أن وقع بعض أصحابها والمشاركين فيها من ذوي «العاهات الفكرية» إلى شرك الشتائم و«شخصنة» القضايا العامة، دون الالتفات إلى قضايا الوطن، أو الرد على ما يورده خصوم الرأي من حقائق، دون تجريح أو تطاول.

وكان نيكيتا ميخالكوف وعدد من المشاركين في هذه الحلقة توقفوا عند مثل هذه الأساليب التي يُجْمِع الكثيرون حول أنها تعكس عجز أصحابها وتفضح قصور تفكيرهم ودنو ثقافتهم. وبهذا الصدد قال ميخالكوف بأنه يتوجه ببرنامجه إلى الشرفاء ممن لا يستطيعون الرد على ما ينالهم والمجتمع من تطاولات وتحريف للحقائق وأكاذيب شمولية، على حد قوله. أما عن الحلقة الأكثر إثارة في سلسلة حلقات «بيسوغون» فقد ظهرت بتاريخ 30 أغسطس (آب) الماضي، وتناولت اثنين من أبرز نجوم الساحة الروسية الثقافية والإعلامية وهما أندريه ماكاريفيتش مغني الروك والموسيقي الروسي الشهير منذ سنوات البيريسترويكا، وكسينيا سوبتشاك الإعلامية الشابة التي استمدت الكثير من مواقعها وشهرتها من كونها ابنة الراحل اناتولي سوبتشاك نجم الحركة الديمقراطية إبان سنوات البيريسترويكا، وعمدة سان بطرسبورغ الأسبق وأستاذ فلاديمير بوتين الذي كان أول من قدمه إلى الحياة العامة في تسعينات القرن الماضي.

ونتوقف هنا لنقول: إن ميخالكوف ضمن قائمة تضم قرابة الخمسمائة من أبرز ممثلي الأوساط السياسية والاجتماعية والثقافية بما في ذلك نجوم السينما والمسرح، كانوا قد بعثوا برسالة إلى الرئيس بوتين أعربوا فيها عن تأييدهم ودعمهم لما اتخذه من قرارات وخطوات لضم القرم ودعم فصائل المقاومة في جنوب شرقي أوكرانيا. وقد أثار توقيع هؤلاء على هذه الرسالة تحفظات واعتراضات ممثلي الأوساط المعارضة لسياسات الكرملين ولبوتين شخصيا، وكان من هؤلاء أندريه ماكاريفيتش الذي سرعان ما اتخذ موقفا يتناقض مع هذه التوجهات. فقد سافر ماكاريفيتش إلى أوكرانيا ليشارك في عدد من الفعاليات الثقافية التي أعدها الكثيرون من الجانبين الروسي والأوكراني بمثابة الإعلان عن مواقف مغايرة لما اتخذه زملاؤه من الفنانين والنجوم الروس تجاه سياسات بوتين. ومن هنا كانت المناظرة غير المباشرة بين «رفاق الأمس القريب».

فبعد أن اتهم ميخالكوف «زميله» مغني الروك ماكاريفيتش بدعم خصوم الوطن، وتفنيد ما قاله بأن الحفلة التي أقامها، كانت لصالح أطفال أوكرانيا وليست لقياداتها، وهو ما قال: إنه لا يعفيه من تبعات «جريمة التعاون مع الفاشيين الأوكرانيين»، تحول إلى تلاوة ما قاله ماكاريفيتش في معرض أحد أحاديثه الصحافية التي أدلى بها في يوليو (تموز) الماضي. وقال ميخالكوف بأن ماكاريفيتش يؤكد أن القرم لم تنضم بمحض إرادتها إلى روسيا، وأن الأمر كان بمثابة احتلال بين من جانب موسكو لأراض أوكرانية. ووصف المغني الروسي هذه العملية بأنها تعسف يتسم بالكثير من النفاق، في حق بلد يحاول الإفلات من براثن الحضارة الروسية. بل وعاد ليقول: إن ما نسميه «حضارة روسية» مسألة جدلية، تحتاج إلى تفسيرات كثيرة. ومضى ليقول: إن الجيران الأوكرانيين لا يريدون العيش كما يعيش الروس، بل يريدون الحياة على غرار بلجيكا وفرنسا والسويد. واتهم روسيا بأنها تفتقر إلى الكياسة والمكانة التي تؤهلها لإقناع جيرانها بالعيش معها ولا تملك سوى التعسف كسبيل لفرض إرادتها. واستطرد ميخالكوف ليورد ما قاله مغني الروك الرافض لسياسات الكرملين، حول أن سكان القرم سيندمون على قرارهم حول العودة إلى التبعية الروسية، مشيرا إلى شكوكه في نتائج الاستفتاء الذي أقرت نتيجته رغبة سكان القرم في ذلك، وكان ذلك ردا على تعليق المراسل الصحافي حول أن القرم كانت أرضا روسية ولم تخضع للتبعية الإدارية لأوكرانيا أكثر من ستين عاما. وكان ماكاريفيتش كشف أيضا عن دهشته إزاء معارضة روسيا لظهور قاعدة للناتو في القرم، مشيرا إلى أنه لا يرى غضاضة في ظهور مثل هذه القاعدة العسكرية في القرم، فضلا عما قاله حول ضرورة جلاء الأسطول الروسي عن شبه الجزيرة.

هنا انفجر ميخالكوف ليؤكد عبثية اعتبار ماكاريفيتش ظهور قاعدة للناتو في القرم «مسألة عادية» لا تدعو إلى الغرابة، فيما تساءل عن عقلانية مثل هذا التفكير، ومنطقية تناسي التضحيات الهائلة التي قدمها الآباء والأجداد، والدماء الطاهرة التي أُريقت دفاعا عن شبه جزيرة القرم ضد تطاولات الغزاة الأجانب على مدى التاريخ، بما في ذلك إبان سنوات الحرب العالمية الثانية. ولم تقتصر انتقادات ميخالكوف على تعداد أخطاء مغني الروك الروسي الشهير، بل وتجاوزتها إلى حد التساؤل عن مدى أحقيته فيما حصل عليه من جوائز وأوسمة الدولة جزاء إسهاماته في تطوير الثقافة والفنون الروسية.

ومضى ميخالكوف في سخريته من ماكاريفيتش الذي نقل عنه ما يقترحه من خطوات للخروج من الأزمة الراهنة، ومنها حديثه عن ضرورة إعادة القرم، والكف عن التدخل في الشؤون الأوكرانية.

قال ميخالكوف بأن ذلك هو ما يقترحه مغني الروك للخروج من المأزق الراهن، ويعده أمرا طبيعيا، في نفس الوقت الذي يعرب فيه ماكاريفيتش عن دهشته إزاء ما يتعرض له من انتقادات، دفعته إلى التوجه برسالة شخصية إلى الرئيس بوتين يناشده فيه التدخل وحمايته مما يواجهه من ضغوط وهجوم.

وكان ميخالكوف انطلق في سخريته تجاه ما قاله ماكاريفيتش ليقول.. ولم لا؟ ألم يكن من المناسب أن تستسلم لينينغراد بدلا من صمودها على مدى ما يقرب من الألف يوم نالها وسكانها ما نالهم خلالها؟ في إشارة إلى استطلاع الرأي الذي أجرته قناة تلفزيون «دوجد» حول مدى جدوى تمسك ستالين بعدم استسلام لينينغراد إبان الحرب العالمية الثانية، وهو ما تسبب في الكثير من العقوبات ضد هذه القناة والتي بلغت حد إغلاقها، حتى عاد بوتين وأوعز إلى أصحاب القرار بمواصلة نشاطها. ومضى ميخالكوف في تساؤلاته ليقول: لماذا إذن كانت معارك ستالينغراد وكورسك وغيرهما من المعارك البطولية التي استشهد فيها الألوف من أبناء الوطن؟! ولماذا الاعتراض على وجود قاعدة للناتو في القرم؟ أليس من المناسب التخلي عن الأسطول الروسي وتفكيك سفنه وبوارجه للاستفادة من أخشابها لصناعة الغيتار والآلات الموسيقية؟

على أن ميخالكوف ومن مواقف قومية تبدو أقرب إلى الوطنية المتشددة، لم يكتف بالرد على مغني الروك الذي فقد الكثير من شعبيته، وجماهيرية الأمس القريب، بل وتحول لتفنيد ما أعلنته كسينيا سوبتشاك مقدمة البرامج التلفزيونية الحافلة بمضامينها «المثيرة» بشأن تبعات الحظر الذي فرضته الحكومة الروسية على استيراد المنتجات الغذائية والزراعية من بلدان الاتحاد الأوروبي وعدد من البلدان الأخرى.