طقوس مؤتمرات بوتين الصحافية

مؤتمر العام الحالي شهد الكثير من الطرائف التي ساعدته على الخروج من مأزق اللحظة الراهنة

الرئيس فلاديمير بوتين في مؤتمره الصحافي السنوي
TT

عاد الكرملين هذا العام إلى «تقاليده» التي طالما حددت معالم الساحة السياسية والاجتماعية مع نهاية كل عام من خلال المؤتمر الصحافي السنوي للرئيس فلاديمير بوتين. وبغض النظر عن تغيير «مواعيد انعقاده» التي طالما تراوحت بين الصيف تارة، والشتاء تارة أخرى، جاء مؤتمر هذا العام في توقيت بالغ الأهمية واكب لحظات انهيار العملة الوطنية وتفاقم الأزمة الاقتصادية على خلفية احتدام الأزمة الأوكرانية وما نجم عنها من عقوبات نالت كثيرا من هيبة الدولة واستقرارها، وإن لم تُفقِدها الثقة في قدرتها على تجاوز اللحظة الراهنة.

وجاء المؤتمر الصحافي للرئيس بوتين فرصة ذهبية لاستعراض قدراته ومواهبه، انطلاقا مما يملكه من قدرات ومواهب، متسلحا بالوفير من المعلومات والتواريخ والأرقام، تختزنها ذاكرة حديدية صقلتها وشحذتها تدريباته في واحدة من أعتى المؤسسات الأمنية العالمية، تأكيدا على أنه كان ولا يزال في موسكو الأكثر جدارة بامتلاك ناصية القول والسرد.

مؤتمر هذا العام كان العاشر في سلسلة مؤتمراته الصحافية من موقعه كرئيس للدولة. وقد جاء انعقاده وللعام الثالث على التوالي بعيدا عن الكرملين، في قاعة خصصت له في مركز التجارة الدولية على ضفاف نهر موسكو، لأسباب قالوا إنها تتعلق بإصلاحات تجرى في المبنى رقم 14 بالكرملين والذي كان الرئيس الأسبق بوريس يلتسين خصصه كمركز صحافي بعد أن كان إبان سنوات الاتحاد السوفياتي مقرا للبرلمان «السوفيات الأعلى لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية». وعلى الرغم من عبثية «الحجج الواهية» التي يسوقونها مبررا لتأخر الإصلاحات في مبنى محدود المساحة لا يتمتع بكثير من زخارف وتراث قصور القياصرة، لمدة 3 سنوات كاملة، فهناك من العاملين في التلفزيون الروسي من كشف عن ارتياحه لنقل المؤتمر الصحافي السنوي إلى خارج أسوار الكرملين، بسبب ما كانوا يعانونه من متاعب لدى إقامة المؤتمر في الكرملين، وهو اعتراف فضفاض يحتمل مختلف التأويلات.

ونعود إلى مؤتمر بوتين لنشير إلى أن الاهتمام به كان كبيرا إلى الحد الذي ظل «ملء السمع والبصر» طوال ما يزيد عن أسبوع قبل انطلاقته ظهر الخميس الماضي، حيث «تفرغت» قناة «روسيا - 24» الإخبارية الفضائية الرسمية لمتابعة الاستعدادات لعقده، بداية من إعداد القاعة وتزويدها بأحدث معدات الصوت والضوء، وحتى استقبال الصحافيين وغير الصحافيين الوافدين من الأقاليم، الذين استن الرئيس بوتين تقليد دعوتهم خصيصا للمشاركة في مؤتمره الصحافي ليكونوا قناة اتصال جيدة مع قرى ونجوع روسيا المترامية الأطراف المتعددة القوميات، ينقلون له وعنه كل شاردة وواردة، بما في ذلك شكاواهم «غير التقليدية». ولعل ذلك يمكن أن يكون تفسيرا لكرنفال الأزياء و«التقاليع» التي طالما شهدتها قاعة المؤتمرات الصحافية للرئيس الروسي والتي تستهدف ضمنا لفت أنظار الرئيس للفوز بفرصة توجيه السؤال واستعراض المهارات والمؤهلات الصحافية وغير الصحافية.

ومن اللافت أن هذه «التقاليع» كانت ولا تزال خلفية مناسبة للأسئلة غير التقليدية من جانب الوافدين من «صحافيي الأقاليم والقرى والنجوع»، والتي طالما «تلقفها» الرئيس بوتين ليستعرض من خلالها «مواهبه وقدراته» على المزج بين الصرامة والجد، والدعابة والهزل، بكلمات وتعبيرات سرعان ما تتحول إلى ما هو أشبه بالأقوال المأثورة التي يتناقلونها عن الرئيس، تأكيدا لامتلاكه ناصية القول ولواذع الكلام والإلمام بمفردات اللحظة الراهنة.

تجمع في مؤتمر هذا العام ما يزيد عن ألفين ومائتين وخمسين صحافيا محليا وأجنبيا، توافدوا على مركز التجارة الدولية في وقت مبكر وقبل موعد انعقاد المؤتمر بما يزيد عن الـ4 ساعات تحسبا لإجراءات الأمن والتفتيش التي تتزايد وطأتها عاما بعد عام، ما يمكن أن يكون سببا لعزوف الكثيرين من قدامى الصحافيين في موسكو عن المشاركة في مثل هذه المؤتمرات. وبهذه المناسبة نشير أيضا إلى ما يقوله البعض أيضا إن المشاركة في مثل هذه المؤتمرات «تضييع للوقت» لأسباب منها ما يتعلق بصعوبة المشاركة وتوجيه السؤال من جانب، وتعذر النزول عند مستوى المشاركة بملابس مزركشة، أو غريبة، والتلويح باللافتات والشعارات للفت الأنظار من جانب آخر، وذلك كله ما يمكن تفاديه وتجنبه من خلال الجلوس إلى شاشات قنوات التلفزيون التي تتفرغ لنقل كل وقائع المؤتمر بكل دقائقه وخفاياه وما يدور وراء كواليسه، فضلا عن اللقاءات التي يجريها «المرسلون والمذيعون» القريبون من الكرملين، مع أبرز الشخصيات الرسمية وغير الرسمية.. وتلك خدمة جليلة حقا لو تعلمون!.

ولعل المتابعين لكثير من المؤتمرات واللقاءات التي يعقدها بوتين بين جنبات الكرملين وخارجه يستطيعون رصد مدى ما يتمتع به بوتين من ذكاء متوقد، وقدرات متميزة تكفل له في غالبية الأحيان التخلص من المواقف الشائكة والخروج منها كما يقول المصريون «كالشعرة من العجين»، أو على حد قول الأوروبيين «كالسكين في قطعة الزبد»، استنادا إلى ما تراكم لديه من خبرات وقدرات تمرس عليها منذ سنوات تدريبه ودراسته في مدارس الـ«كي جي بي» (لجنة أمن الدولة) إبان الاتحاد السوفياتي السابق.

وقد شهد مؤتمر هذا العام الكثير من الطرائف التي ساعدت بوتين في الخروج من مآزق اللحظة الراهنة، وما تنوء به من مشكلات انهيار العملة الوطنية تحت وطأة التخفيض المتعمد لأسعار النفط والعقوبات الغربية. ومن هذه الطرائف ما ندا عن اليونا يفتياكوفا إحدى الصحافيات القادمات من مقاطعة فورونيج جنوبي روسيا، محملة بفكرة البحث عن «عروسة» لأهم «عُزاب» روسيا بعد طلاقه في العام الماضي. قالت إن صديقات خالتها ما إن عرفوا بأنها ستذهب للمشاركة في مؤتمر الرئيس حتى حملوها واجب سؤال الرئيس «أهم عُزاب روسيا اليوم» عن حياته الشخصية، وكيف يعيش وحيدا منذ انفصاله عن قرينته في العام الماضي. هنا وبعد تردد لم يدم طويلا استهل بوتين إجابته بقوله:

- بداية انقلي لصديقات خالتك تحياتي الحارة.. أشكرهن على اهتمامهن. وعموما كل شيء على ما يرام. أنا أرى من الحين إلى الآخر لودميلا ألكسندروفنا (زوجته السابقة) والابنتين. صحيح ليس كثيرا كما نريد.. لكن الأمور على ما يرام.

واستطرد بوتين ليخرج بعيدا عن مشكلات السياسة والاقتصاد ليقول:

- ذات مرة فاجأني أحد الساسة الأوروبيين بمحاولة معرفة إذا ما كانت هناك في حياتي امرأة أحبها.. «هل في حياتك حب»؟ وحين أجبته بالإيجاب، عاد ليقول: وهل هناك من يحبك؟

وكررت الإجابة بالإيجاب. وضحك الرئيس على نحو مفتعل ليضيف: «عموما كل شيء على ما يرام».

وحين بدا أن بوتين يستعيد حيويته وتوازنه، عاد ليحاول انتقاء محاوريه بنفسه حيث طلب إعطاء الكلمة لأحد المراسلين الأجانب الذي كان يلوح بلافتة مكتوب عليها اسم «تركيا».

ورنت القاعة بأنظارها إلى المتحدث الجديد..

تلقف الميكروفون مع مراسل آخر ما إن نطق باسمه.. فلاديمير ماماتوف مراسل صحيفة «ريبورتيور» من فياتكا، حتى داهمه السكرتير الصحافي للرئيس محتجا بأنه ليس المقصود لأنه ليس من تركيا.. رد قائلا:

- وماذا في ذلك.. ليس ذنبي!.

وضجت القاعة بضحك وتصفيق الحاضرين، ليواصل المراسل الروسي بالميكروفون مستهلا حديثه بشكر القاعة والحضور على التحية والاستحسان، فيما بدأ سؤاله بنبرة متثاقلة جعلت الرئيس بوتين يشك في أنه مخمور.

وكان سؤاله يتعلق برفض المتاجر الكبيرة قبول توزيع ما تنتجه مدينته من «كفاس» وهو مشروب يصنع من الخبز. قال إن هناك من يفضل الكوكاكولا ولا بد من تدخل الرئيس من أجل إرغام هذه المتاجر على توزيع «كفاس» الذي تنتجه مدينته «فياتكا». وأضاف أنه كان يريد أن يقدمه للرئيس حتى يختبر مذاقه.. «لكن الحراس والأمن».... ولم يكمل تحت وقع قهقهة الحاضرين.

لم تتوقف القاعة عن الضحك حتى بعد أن حاول بوتين تحويل الموضوع إلى مسار الجد من خلال ترديده ما يقال حول أضرار مشروب «الكوكاكولا»، مؤكدا ضرورة الاهتمام بالمشروبات الوطنية غير الكحولية.

وبهذه المناسبة كان هذا الموضوع محور حديث الكثير من البرامج التلفزيونية مساء يوم انعقاد المؤتمر والتي كشفت عن أن الصحافي الوافد من «فياتكا» لم يكن مخمورا، وعزت تثاقل نطقه وبطء حديثه إلى أنه كان تعرض أخيرا لإحدى الأزمات القلبية!.

النوادر كثيرة ومتنوعة، وفيها ما يجعلنا نأمل في أن يكون للحديث بقية نستمدها من دعابات بوتين التي طالما أذهل بها محاوريه ومستمعيه ومشاهديه خلال لقاءاته ومؤتمراته الصحافية في موسكو وخارجها منذ جاء إلى سدة السلطة في الكرملين.