صدام حسين كما يتذكره أحد أصدقاء الطفولة وزملاء الدراسة (3)

في شبابه ضاق بالسياسة والحزبية... وبعد فشله في الدراسة ضاقت به سبل العمل فاتخذ زعامة الحزب ورئاسة الدولة وظيفة دائمة

TT

* بداية علاقة صدام بالحزب

* صدام لم يكن في وارد التفكير بالانتماء إلى الحزب (حزب البعث) قبل .1959 فقد كان لغاية 1958 يضيق بنا، نبيل نجم وعدنان خير الله ونزار الناصري وأنا، حين نتحدث عن الحزب والسياسة وهمومها. وأستطيع أيضا أن أحدد بدقة تاريخ دخوله إليه في أوائل عام 1959، وهو ابن الثالثة والعشرين، نصيرا متدربا. ثم كُلف، حتى قبل أن يصل إلى درجة نصير، بأن يشارك في أخطر عملية مصيرية يقدم عليها الحزب، وهي محاولة اغتيال الحاكم الأوحد عبد الكريم قاسم. وعملية خطيرة من هذا النوع تفترض السرية الكاملة، وأن يكون القائمون بها على درجة عالية جدا من الثقة بالحزب، ومن ثقة الحزب بهم كذلك. وفجأة وجد (النصير المتدرب) صدام التكريتي نفسه بين أعضاء أعلى قيادةٍ حزبية. يجالسهم، يأكل معهم، يقتسم معهم شقة صغيرة، فيسمعهم ويراهم ويتأملهم عن قرب، وقد تحلل الواحد منهم من قناع القيادة وتبسط وتصرف بتلقائية، فظهرت عيوبه الإنسانية، خصوصا حين يكون يافعا لم يتجاوز العشرينات إلا بقليل. في تلك الأيام القليلة، وفي الأيام التي تلت فشل خطة الاغتيال والهرب إلى سورية والإقامة فيها في شقق حزبية مع القياديين أنفسهم الذين عاش معهم أيام التحضير للعملية، ومع قياديين آخرين هربوا خوفا من العقاب، كان طبيعيا أن يتعرف على خلافات وصراعات هؤلاء. هنا أدرك صدام هشاشة أغلب أولئك القادة وانحراف أخلاق بعضهم وجبن البعض الآخر منهم. لكنه أدرك أهمية هذه الرفقة، باعتبارها الفرصة الذهبية الوحيدة التي تنعش احساسه بقيمته وأهميته وبخطأ خاله خير الله طلفاح الذي اعتبره فاشلا لا يصلح لشيء أكثر من الخدمة في منزل الخال، ورعاية النساء في غيابه. لقد حسبها صدام بوضوح : ماذا لو تمكن حزب البعث من أن يقتنص السلطة في العراق؟ إنه بكل تأكيد سيحصل على مركز مرموق في الدولة. وما ضاعف في خياله الأمل أن أعضاء القيادة الذين أصبحوا رفاقه وأصحابه، سيحكمون العراق ذات يوم، الأمر الذي يضمن له مقعدا في الحكومة، وهو أقصى ما يحلم به، بعد أن ترك دراسته ويئس من الحصول على الوظيفة بالطرق الاعتيادية المألوفة. وفي عام 1963 تمكن أعضاء القيادة القطرية الجديدة من اقتناص السلطة. وكان المؤتمر القطري الذي تمخضت عنه هذه القيادة قد أدان محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في أغسطس (آب) 1960، واعتبرها خرقا لعقيدة الحزب. فلم يجد صدام، العائد من القاهرة في مارس ( آذار) 1963، التعويض الذي كان يحلم به من الرفاق الذين يعتبرهم أدنى منه شجاعة، وأقل أحقية في تبوؤ المراكز المهمة في الحزب والسلطة. فقد أهملوه ورفيقه أحمد طه العزوز، إذ تم تعيينهما عضوين في المكتب الفلاحي التابع للحزب، في شقة صغيرة ضيقة في مبنى بسيط مقابل مبنى الإذاعة. وهي وظيفة تافهة وهامشية إلى أقصى حد. وكان صدام يشكو من ذلك ويعلن عداءه للقيادة الجديدة ونقمته عليها.

* وجـد ضالتــه في الحزب

* بسرعة وسهولة أدرك صدام أن أعضاء القيادة الذين اقترب منهم وعرفهم عن كثب، ليسوا أعضاءَ قيادة مثلما كان يظن، بل إنهم في الأغلب مجموعة من الفاشلين في الدراسة، أو المطرودين من المدارس لأسباب مختلفة. وفي ضوء هذا الاكتشاف وجد أن عليه أن ينغمس في هذه الأجواء إلى هامة رأسه. حتى أن جميع المذكرات والكتب والرسائل المنشورة تؤكد أنه كان موجودا وفاعلا في جميع الصراعات، العلنية والمخفية، الشفاهية واليدوية، الصغيرة والكبيرة، على حد سواء، إلى أن انهار الحزب تماما. والمضحك أنه كان مشاركاً في مؤسسات الحرس القومي ولجان تحقيقاته الشهيرة. إلا أنه كان، على الجانب الآخر، يمد جسورا مع خصومه، وفي مقدمتهم ابن عمه أحمد حسن البكر وكتلته من العسكريين التكارتة أمثال رشيد مصلح وطاهر يحيى وحردان التكريتي وحماد شهاب وذياب العلكاوي وغيرهم من الذين أسقطوا الحزب وسلموه لعبد السلام عارف، في ما أطلق عليه البعثيون اسم «ردة تشرين» عام .1963 ويقال إن صدام سافر إلى دمشق لإقناع ميشيل عفلق بحل قيادة فرع بغداد من جماعة الحرس القومي، فلم يتفق عفلق معه في الرأي فقط، بل عينه سكرتيرا ثم أمينا لقيادة قطرية مؤقتة في فبراير (شباط) .1964 وخلال المؤتمر السادس للحزب وقف صدام بقوة ضد علي صالح السعدي والى جانب ميشيل عفلق، الذي أوصى في عام 1964 ـ وربما لهذا السبب ـ بترقيته إلى الدور الأعلى في الحزب. (19) هذا معناه أن عفلق كان في حاجة إلى أي مساند لزعامته. وقد رأى أن الساحة خلت إلى حد كبير من المريدين والأتباع، فرأى في الشيخلي وصدام عكازتيه المناسبتين، مؤقتا على الأقل، في مواجهة المتمردين عليه وعلى مكانته التاريخية. وكالعادة، أخذ كل فريق يغلف نفسه بالشعارات والأفكار والألوان، ليبرر انشقاقه وليقنع نفسه قبل غيره بأنه الأحق في البقاء. فجماعة الحرس القومي، (بقايا أعوان علي صالح السعدي) أسست ما أسمته بالقيادة القطرية لحزب البعث اليساري. في حين أن الفريق المقابل، وهو جناح عفلق (المؤقت) ظهر إلى الوجود بعد تسلل عبد الكريم الشيخلي من سورية إلى العراق في أوائل مايو (ايار) 1964، حاملا معه تفويضا من القيادة القومية (عفلق).

وبناء على اتصالاته تم تشكيل القيادة القطرية من :

عبد الكريم الشيخلي ـ أمين سر (قتله صدام فيما بعد) صدام التكريتي حسن العامري (سممه صدام فيما بعد) محمد صبري الحديثي (أعدمه صدام فيما بعد بتهمة التآمر) صفاء الفلكي (هارب حاليا يقيم في هولندا) ثم انيطت بصدام مسؤولية المكتب العسكري المركزي ومكتب بغداد العسكري وجهاز حنين وجهاز الضباط الاحتياط.

* يتحدى زعيمه علنا

* كانت تلك الفترة من أكثر الفترات التي كنا نلتقي فيها. كان ينتظرني في مكتب الجمعيات الفلاحية إلى أن أنتهي من عملي في الإذاعة ثم نلتقي. فنبقى في الشقة ذاتها ونطلب غداءنا أو عشاءنا أو نذهب إلى أي مكان آخر. كنت أستطيع أن أتدبر له إذنا بدخول الإذاعة لزيارتي وانتظاري إلى ان أنتهي من العمل، لكنه كان يتفادى ذلك، خصوصا أن علي صالح السعدي (أمين سر الحزب ونائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام) كان يتردد أحيانا على الإذاعة، وصدام لا يريد أن يلتقي به. وقد حضرت ذات مرة لقاء ساخنا بينهما بالصدفة. ففي حفل كان مقاما في قاعة الخلد ببغداد برعاية السعدي، كنت المذيع المكلف بنقل فقراته إذاعيا وتلفزيونيا وعريفه أيضا. وبعد أن قدمت مطربا، توقعت أن لا ينتهي قبل ساعة على أقل تقدير، أردت أن أستريح وأن أتمشى قليلا في حدائق القاعة. فوجئت بصدام وأحمد طه العزوز يقفان على جانب سلم مدخل القاعة، يتسكعان ويتفرجان على الداخلين والخارجين. وقفت أسلم عليهما وأتبادل معهما الحديث، فإذا بعلي صالح السعدي يخرج من القاعة في تلك اللحظة مغادرا قبل انتهاء الحفل الذي يرعاه. وحين شاهدنا استدار واقترب منا مؤنبا ومعنفا ومتهما إيانا بقلة الأدب والتحرش بالنساء. أما أنا فقد اعتذرت منه، وهممت بالعودة الى داخل القاعة. أما صدام فقد تصدى بهدوء بالغ لأمين عام حزبه علي السعدي وفاجأه متحديا: إذا لم تخرس وتنقلع من هنا فسوف أهينك على مرأىً من حراسك وبقية الناس. صمت علي بضع ثوان أظنه حسبها مع نفسه ففضل تلافي الفضيحة، ثم استدار وغادر المكان دون كلام. بعدها عاتبت صدام لأنه أشركني في موقف التحدي والمشاكسة وعرضني للفصل من وظيفتي. فرد علي ساخرا مني ومن القادة (الجبناء) الذين أخشى أذاهم. وكان لا يتوقف عن السخرية من علي السعدي ومن أعضاء آخرين في القيادة وينعتهم بالجبن والنفاق. لذلك كان طبيعيا ومنطقيا أن ينخرط صدام، وعلى الفور، في أي عمل ينال من تلك القيادة. وقد شارك بفاعلية وحماس في الانقلاب الذي ما زال البعثيون يعتبرونه عملا خيانيا ويطلقون عليه اسم (ردة تشرين)، الذي قام به عبد السلام عارف والعسكريون البعثيون طاهر يحيى ورشيد مصلح واحمد حسن البكر وحردان التكريتي ضد قيادة الحزب والحرس القومي.

بلغ الصراع درجة عالية من التوتر، وبدأت عناصر حزبية وعسكرية تتسلل ليلا إلى القصر الجمهوري للاجتماع بالبكر وعارف وطاهر يحيى وتنقل لهم ما كان يدور في الاجتماعات والمؤتمرات الحزبية وما تطالب به قواعد الحزب وقياداته الدنيا. وكان في رأس هؤلاء المخبرين صدام حسين التكريتي وطه العزوز وطارق عزيز وحسن الحاج ودّاي العطية وآخرون.

في يوم 15 اكتوبر (تشرين الأول) عام 1963 تم اعتقال أعضاء المكتب الفلاحي وصدام أحدهم ـ كما أسلفت ـ باعتبارهم أعداء الحرس القومي. وبعد ثلاثة أيام، عينه حردان التكريتي مشرفا سياسيا على الإذاعة، كما عين ابن خاله عدنان خير الله طلفاح آمراً لقوة حماية الإذاعة.

وبعد أن سيطرت قوات الانقلابيين على دار الإذاعة بدأ صدام التكريتي وطارق عزيز يوجهان البرامج ويذيعان النداءات باسم القيادة القومية مطالبين البعثيين بالكف عن المقاومة، والتعاون مع الحكم الجديد.

كان يزورني هو وعدنان خيرالله في غرفة المذيعين يوميا ويقضيان معنا ساعات تعرفا خلالها على بعض المذيعين وعلى أسلوب عملهم. وكان صدام يتطوع فيطلب الطعام للموجودين من مطعم قريب من الإذاعة. إلا أنه لم يمكث طويلا في الإذاعة. فجأة غاب هو وانقطع عدنان عن الزيارة اليومية للمذيعين. علمنا بعد ذلك بأن عبد السلام عارف قد انقلب على حردان وأحمد حسن البكر وطردهما من السلطة، الأمر الذي لم يترك لصدام خياراً سوى الهرب والاختفاء. أما عدنان فقد نقل إلى موقع آخر.

* خال الحزب والثورة

* كانت علاقتي بالحاج خير الله طلفاح الذي سأكنيه هنا بـ(الحاج) امتن من علاقتي بولده عدنان وابن اخته صدام. فمنذ البداية، وبالتحديد من اوساط الخمسينات كنت معه اكثر انفتاحا ومكاشفة ومزاحا. وكان يثق بي اكثر من كثيرين من اقرب اقربائه. وقد توثقت علاقتي به اكثر منذ بدأت العمل في الاذاعة والتلفزيون. وازدادت وثوقا بعد ان تسلم ابن عمه احمد حسن البكر وابن اخته صدام حسين وابنه عدنان السلطة، واصبح هو محافظ بغداد. وبسبب نزوعه الشديد الى الشهرة وطموحه الزائد الى الحاق نفسه بالمفكرين والمربين والمؤرخين والمنظرين السياسيين الاستراتيجيين فقد وجد في نشاطي الاعلامي نافذة مناسبة يحقق من خلالها ما يزيده بريقا ولمعانا. كان الحاج مثل الكثيرين ضعيفا امام اغراء الشاشة الفضية الصغيرة. كانت لي معه صولات وجولات على الشاشة يذكر العراقيون اغلبها الى اليوم. ولم تتوقف الندوات الى ان اتصل بي رئيس الجمهورية احمد حسن البكر ومنعني رسميا من استضافة الحاج.

كان، مرتين او ثلاثا في كل اسبوع، يطلب مني زيارته في مكتبه. وفي كل مرة ازوره فيها يمنع دخول احد عليه، ويعطل اشغال الناس، ويترك زواره الكثيرين مركونين لدى نزار النقيب مدير مكتبه، ويبدأ بقراءة عشرات الصفحات من كتاباته طالبا رأيي فيها او أن اصحح له بعض اخطائها اللغوية، وكنت احول اقناعه باعطائي الاوراق لاقرأها بنفسي، الا انه كان يرفض ويقول ممازحا: لكي تتجاوز في قراءتك المتعجلة سطورا وربما صفحات. فكان علي ان اغفو ـ ذهنيا ـ ولا اسمع الا بعضا قليلا مما يقرأ علي. واحيانا كثيرة كان الموظفون يغادرون المبنى، ونتناول غداءنا في مكتبه، ليكمل القراءة. كان طامحا الى ان يتبوأ مركز رئيس وزراء العراق. ووعدني اكثر من مرة بالغاء الشرطة العراقية واقتطاع فرق كاملة من الجيش وجعلها شرطة العراق، لان الشرطة المتوارثة من العهود السابقة ـ في رأيه ـ فاسدة مرتشية، من السهل ان تبيع البلد واهله بأبخس الاثمان.

وللأمانة اقول ان الحاج لم يكن راضيا عن اداء ابن اخته صدام حسين منذ البداية. حتى قبل ان يتسلم منصب (النائب).

دخلت عليه مرة فوجدته عصبيا يكيل الشتائم لشخص مجهول لا يذكر اسمه. راح يخاطبني قائلا: «هذا (البُشْت) اي (السفيه الارعن او الولد الشرير او مجهول الاصل) سيفسد علينا كل شيء». طبعا لم اسأله عن المقصود، لانني اعرفه جيدا، وتصنعت الانصات. ورن جرس الهاتف ورفع الحاج سماعته. وفجأة رقت كلماته وعاد اكثر حنانا ومودة وهو يرد على المتحدث «اهلا خالو، حاضر خالو، امرك خالو». (كلمة خالو تقال لابن الاخت تحببا)، ثم وضع سماعة الهاتف، والتفت الي وقال «انه الُبشْت نفسه».

وفي الاشهر الاولى التي اعقبت نجاح اهل العوجا في اقتناص الحكم دخلت على مدير مكتب الحاج، فهب على الفور رجل اسمه نعمان عبد الله الصميدعي ليصافحني ويطلب مساعدتي في التوسط له بمقابلة الحاج لامر هام جدا. كان نعمان ـ حسب علمي ـ مديرا لشرطة العاصمة، وله اخ اخر اسمه عبد الموجود يعمل مديرا لشرطة النجدة، واخ ثالث اسمه عبد المالك يعمل بائع قماش في تكريت.

وكان ابناء عبد اللطيف الصميدعي هؤلاء من شركاء التكارتة واطيبهم واكثرهم تقوى ومخافة من الله. لم يسمع عنهم التكارتة الا الخير والذكر الحسن. اخبرني نعمان، على عجل وباختصار، بانه واخاه عبد الموجود طردا من الخدمة فجأة دون اية اسباب. وبعد مدة علما بان الطرد جاء بأمر من الحاج خير الله طلفاح نفسه. لذا جاء ليقابله ويلتمس منه العدل رحمة بأسرتيهما. وعلمت بان الدافع الى قرار الطرد هو ان بلدية تكريت فرزت قبل انقلاب 17 ـ 30 تموز (يوليو) 1968 مجموعة من قطع الاراضي السكنية في شمال المدينة، لانشاء حي جديد واعلنت عن بيع تلك القطع. فبيعت كلها ما عدا واحدة حجزها صدام حسين دون ان يدفع ثمنها وينجز الاجراءات الرسمية اللازمة لتسجيلها، حسب ما كان متعارفا عليه. ثم اختفى نهائيا ولا احد يعرف شيئا عن مصيره. فعادت بلدية تكريت واعلنت من جديد عن رغبتها في بيع القطعة المتبقية، ويشاء الحظ العاثر ان يذهب الاخ الثالث (عبد الملك) ويشتري قطعة الارض (المشؤومة) من البلدية.

دخلت على الحاج واخبرته بان نعمان ينتظر السماح بلقائه منذ ثلاث ساعات فقال: «اعرف ذلك وانا الذي طلبت من مدير مكتبي ان يتركه (مركونا) الى ان اطلبه. وحين رجوته بالسماح له بالدخول امر بادخاله، وكنت اظن انه سيستمع اليه ويفهم الحكاية فيأمر بالغاء قرار الطرد. لكنه فور دخوله انهال عليه بالاهانات من كل نوع ومن كل وزن، زاعما بأنهم من اراذل اهالي تكريت وجبنائها، طالبا مني ان اشهد وان اؤيد شتائمه، وانا العارف تماما بانه يفتري. تماسك نعمان، وراح يقص على الحاج حكاية الارض، وهو واقف، لم يسمح له بالجلوس. قال له: يا حاج، ان قطعة الارض التي اشتراها اخي لم تكن ملكا لاحد، ولم يكن معروفا من الذي حجزها او اراد شراءها. ثم ان البلدية اعلنت عن الرغبة في بيعها فاشتراها اخي. هذا من ناحية، ومن الناحية الاخرى فانني واخي عبد الموجود نعمل ونقيم في بغداد ولا نعلم بما يفعله اخونا في تكريت. فلماذا لا تذهبون وتسترجعون منه الارض وتتركونا مع اسرنا نعيش في سلام، او على الاقل احيلونا على التقاعد لنحصل على راتب تقاعدي نستطيع به ان نعيل اولادنا. لم تنفع المرافعة، بل زادت شتائم الحاج وسخريته الجارحة. فما كان من نعمان الا ان تعوذ بالله من الشيطان ولاذ بالصمت وخرج مكسور الخاطر، وانا ساكت لا ادري ماذا افعل.

* اللقــاء الأخيــر

* في شتاء عام 1973 طلبني الصحاف لأمر هام، وحين ذهبت لأراه وجدت على مدخل مكتبه رجالا مدججين بالسلاح لا تستقر عيونهم على مكان، يراقبون كل شيء. فهمت على الفور أن مسؤولا غير عادي يقوم بزيارتنا ذلك اليوم. دخلت عليه كعادتي فإذا بي وجها لوجه وعينا بعين مع صدام حسين. تراجعت وأردت أن أغلق الباب ورائي، لكنه دعاني إلى الدخول. وأنا في طريقي إليه كنت أفكر بالصيغة التي أسلم بها عليه. هل أناديه (أبو عدي)؟، قد لا يحب أن أظهر أمام الصحاف تلك الإلفة التي كانت بيننا. هل أناديه (السيد النائب) ؟ قد يظنني أنافقه. هل أناديه: أستاذ صدام؟ ربما سيظن أنني أتهرب من مناداته بـ (سيدي) ترفعاً وكبرياء؟ كل هذا دار في رأسي في تلك الثواني القليلة وأنا في طريقي من باب مكتب الصحاف إلى حيث صدام يقف ويمد يده استعدادا للمصافحة. ألهمني الله بأن أسلم عليه بصيغة وسط لا تغضبه ولا تحرجني. قلت: السلام عليكم. فصافحني وجلس وجلست. كان الصحاف يجلس على أحد الكرسيين الموضوعين أمام مكتبه. فنهض وتنازل لي عن كرسيه ومضى يسحب كرسيا ثالثا. فجأة بدأ صدام يسألني عن الحال والعمل والأولاد والأهل في تكريت. كان يحادثني وعيناه تدوران يمينا وشمالا. وكلما التقتا بعينيَّ يبعدهما بسرعة. كانت دقائق ثقيلة مملة طويلة. نهضت واستأذنت بالانصراف بحجة أنني لا أريد أن أشغله أكثر، وقد يكون لديه حديث خاص مع الصحاف. وخرجت.

كنت في غاية الارتباك. فقد أحسست بما لا يقبل الشك بأنه لا يطيقني ولا يريد رؤيتي. ثم تداعت في نفسي ذكريات الماضي كلها. أيام الجوع والفراغ والشقاء. وبدأت تتسارع في نفسي صور رفاق طفولته المقربين وقد بدأوا يتساقطون الواحد بعد الآخر، في ظروف وأسباب متفرقة. حوادث السيارات واغتيالات بأيدي مجهولين. وتأكدت من أنه لا يريد أن يلتقي بواحد من رفاق طفولته ممن يذكره بماضيه وبحكاياته الكثيرة التي لا تليق بمن أصبح ثاني رجل في الدولة ويخطط ليصبح الأول والوحيد. في تلك الساعة بالذات قررت أن أرحل عن العراق بأي ثمن وعن أي طريق. كان الصديق الشاعر الرقيق شاذل طاقة وكيلا لوزير الخارجية. ذهبت فورا للقائه في مكتبه وأخبرته بما حدث، ورجوته بأن يساعدني على الخروج. غضب مني وقال : إنك واهم. وساوسك هذه لا مبرر لها. إن أبا عدي زهرة الحزب وشباب الثورة.

قلت له:

أترك لكم هذه الزهرة، ودعوني أخرج من هنا على قدمين. حين وجدني مصرا وعدني خيرا، واقترح علي أن أوفد للعمل في السفارة العراقية في بيروت مديرا للمركز الثقافي المزمع افتتاحه هناك، ومستشارا صحفيا فيه. ولم يخلف وعده. وصدر أمر نقلي من الإذاعة إلى ديوان وزارة الإعلام، ومنه إلى الخدمة الخارجية. وتسلمت جواز السفر الديبلوماسي وبطاقة الطائرة وتم كل شيء بسرعة وهدوء. قبل موعد السفر بأيام مررت على الصحاف لوداعه وتسليم ما في عهدتي من أمور. فوجدته يضحك بخبث. وكنت أعرف أن ضحكته تلك تخفي خبرا غير سار. سألته عما يضحكه فاعتذر وقال: لا أريد أن أكون أنا من يبشرك، دع غيري يفعل ذلك. هنا تأكدت من أن شيئا في غاية السوء قد وقع. وحين ألححت عليه قال: يبدو أنك عائد إلينا. فقد ألغي أمر نقلك إلى بيروت والى الوزارة. لكنه لم يخبرني بمن ألغى الأمر ولماذا. زعم بأنه لا يعلم. وذهــبت إلى وزير إعلامنا (حامد الجبوري) فأنكر معرفته. فطلبت منه إجازة أسبوعين أقضيها خارج العراق للراحة والاستجمام، وأقنعته بأنني متعب ومتوتر ولا أستطيع العودة إلى العمل الآن. ووافق في النهاية. أخذت موافقته ونزلت بها على مدير الإدارة والذاتية في الوزارة الصديق (سعدي محمد صالح). سألني عن موعد المغادرة، فحددت له الموعد بعد يومين. وعاد وسأل عن موعد العودة، فقلت له إنه واضح أمامك من مدة الإجازة. أي أنني سأعود إليكم في الأسبوع الثالث من كانون الثاني (يناير). فابتسم ابتسامة خبيثة حميمة وسألني: من أي عام ؟ وهكذا كان. خرجت وامتدت الاسبوعان اياهما من اول عام 1974 الى اليوم. لم ينتهيا بعد.