سكان بغداد لا يبدون قلقين من الحرب لكنهم يتطلعون إلى «تغيير الأمور» من دون قنابل

TT

يتكون معظم زبائن دكان عطارة محمد جاسم من أولئك المتابعين للأخبار في بغداد، فأغلبهم معلمون ورجال أعمال وموظفون حكوميون وهؤلاء يتجنبون متابعة الأخبار عبر محطة التلفزيون الرسمية، وبدلا عن ذلك فهم يفضلون الاستماع إلى المحطات الأجنبية التي تصلهم عبر موجات الأثير القصيرة. لذلك فهم لا يظهرون اهتماما كبيرا في أحاديثهم مع بعضهم بعضاً أثناء وجودهم في هذا المحل بتقارير الإعلام العراقي التي تدور حول النجاح الديبلوماسي الذي حققته الحكومة العراقية وحول التعاون مع مفتشي الأسلحة. فهم قد سمعوا الرئيس الأميركي عبر الأثير يؤكد مرارا أنه ينوي إسقاط حكومة صدام حسين بالقوة. وقال صاحب الدكان محمد جاسم: «كل الناس متأكدون من أن الأميركيين سيقومون بالهجوم. إنها مسألة أيام أو أسابيع». فبعد مرور أشهر على تجاهلهم للمخاطر وانصرافهم إلى أعمالهم أصبح الكثير من أهالي بغداد يعتبرون الحرب أمرا لا مفر منه.

لكن ما يثير حيرة جاسم هو أن أكثر زبائنه يبدون غير قلقين لهذا الاحتمال فهم لم يقوموا بشيء سوى جمع القليل من المواد الغذائية التي توزعها الحكومة عليهم. والقليل منهم راح يحفر آبارا في حدائق بيوتهم الخلفية، وعدد قليل من العوائل قررت البقاء مع الأقارب خارج بغداد لكن لا أحد يبدو، حسب رأي جاسم، حريصا على ادخار سلع بكميات كبيرة.

وتدفع التحذيرات الحكومية في الولايات المتحدة من احتمال وقوع هجمات إرهابية، الناس ليشتروا أشرطة لغلق حافات الأبواب وأغطية بلاستيكية تحميهم من أسلحة الدمار الشامل، أما في العراق فحينما حذر الرئيس العراقي الأسبوع الماضي من احتمال وقوع حرب وطالب الناس بحفر خنادق في حدائقهم لم يندفع الكثير من الناس لشراء مجارف.

وتبدو العاصمة العراقية الواسعة هادئة من الخارج، إذ ما زال المرور يتجمد فوق الجسور وقت خروج الموظفين من دوائرهم، وما زال الناس يواصلون الذهاب إلى العمل أو المدارس، وهم يذهبون إلى قاعات السينما والمطاعم حيث ما زالت هذه الأمكنة محتشدة بزبائنها. كذلك يستمر عمال البناء في ترميم جدار المقر العام لحزب البعث الذي سبق أن دمّرته صواريخ كروز عام 1998 والذي سيكون على الأكثر هدفا مرة أخرى لأي هجوم أميركي آخر.

وهذا النزوع لمواصلة الحياة بشكل طبيعي ناجم عن هيمنة الاستسلام والثقة في آن واحد على تفكيرهم. فهم يتذكرون تلك الأشهر التي مرت عليهم أثناء حرب الخليج الثانية سنة 1991، حينما انقطع الماء والكهرباء عن بغداد، وحينما أصبح الطعام نادرا والأوبئة متفشية فيها وهذا ما يجعلهم الآن يتساءلون إن كان أي قدر إضافي من الاستعداد سيكون كافيا لتغطية متطلبات أي حرب أخرى وما تحمله من نتائج مجهولة. بل حتى إذا كانوا يريدون خزن الأغذية فإن أكثرهم أكدوا عدم قدرتهم على توفير أسعارها، فالعقوبات الدولية التي فُرضت بعد غزو العراق للكويت سنة 1990 قد استهلكت ما كانوا يمتلكونه من مدخرات.

وقال الموظف الحكومي محمد شاكر كنوش، 43 سنة، أثناء سيره وسط معرض مكرس لأجهزة الدفاع المدني في بغداد: «ماذا نستطيع أن نفعل؟ هل علينا أن نشتري كمية كافية من الماء والوقود تغطي حاجتنا لثلاثة أشهر؟ لستة أشهر؟ وأين نضعها؟ وكيف يمكننا تدبير أثمانها؟». ولم تمنح كنوش العروض المقدمة في هذا المركز الخاص بالدفاع المدني الكثير من الثقة في نفسه، فإحدى أدوات إطفاء الحرائق مصنوعة في سنة 1964، وتبدو أقنعة الغاز قديمة جدا أما جهاز التخلص من القنابل فتنقصه عدة قطع غيار. قال كنوش: «أنا أعتمد على الله. هذا هو خيارنا».

وهذا السلوك أصبح مشتركا بين الكثير من سكان بغداد. وأصبح الذهاب إلى المساجد في تزايد خلال الأسابيع الأخيرة حسبما يقول أئمة المساجد. وحينما سئل عدد من العراقيين الذين كانوا موجودين في سوق مفتوح كان جوابهم مماثلا: «نحن نستعين بالله».

كذلك ولّدت الهجمات العسكرية التي وقعت في عامي 1991و1998 شعورا بالثقة وقناعة بأنه سيكون هناك هجوم أميركي آخر. قال المعلم والجندي السابق قيس جبار، 31 سنة: «نحن اعتدنا على القصف الأميركي. إنه مدمر جدا لكننا مع ذلك نجونا منه».

ويعتقد الكثير من سكان بغداد اليوم (حتى أولئك الذين يحصلون على المعلومات من محطات خارجية) أن أي غزو أميركي سينجم عنه هجمات جوية مماثلة لتلك التي وقعت سنة 1991 حينما راحت القنابل وصواريخ كروز تمطر فوق بغداد كل ليلة وهذا ما سمح للعراقيين بالتحرك أثناء النهار. لذلك عبر الكثيرون منهم عن استغرابهم حينما سمعوا أن البنتاغون يفكر بشن هجوم جوي متواصل لمدة لا تقل عن يومين. وقال ديبلوماسي في بغداد إن «الناس لا يفهمون. إنهم يعتقدون أن الحرب ستكون مثل حرب سنة .1991 هم لا يدركون أن الأميركيين لديهم استراتيجية مختلفة هذه المرة».

ويرى بعض السكان أنه من الحماقة بذل أي جهد لمواجهة الحرب في بغداد أما نتيجة للخوف من الهجمات الجوية أو نتيجة للقلق من أن تغيير الحكومة قد يجعلهم هدفا للانتقام. وأصبحت الطائرات المسافرة إلى سورية والأردن غاصة بأبناء العوائل الثرية لتمديد عطلاتهم وقضائها مع أقارب لهم هناك. وقال تاجر جلود وهو يحمل كومة من جوازات سفر عراقية حينما كان على متن طائرة متوجهة من بغداد إلى عمان مع أسرته: «نحن لدينا نقود ولدينا هذه. إنه من الحماقة البقاء».

مع ذلك فإن الكثير من الذين لديهم الإمكانيات للهروب قرروا البقاء خوفا من فقدانهم لمنازلهم على يد الناس الفقراء الذين قد يخرجون من أحيائهم صوب المناطق الغنية في حالة وقوع تغيير سياسي.

ولكن، السؤال الذي يشكل اكبر مصدر للقلق هنا بين سكان بغداد هو: كيف سيكون رد فعل الأصدقاء والجيران والأعداء في حالة وقوع غزو بري أميركي. فعبر الحوارات التي جرت مع عشرات الأشخاص أثناء ارتيادهم للمكتبات والمعارض والمقاهي والفنادق الراقية ـ بعيدا عن تلك المظاهرات الصاخبة التي تنظمها الحكومة ـ لم يكن هناك رأي مشترك لما قد يحدث.

وردد البعض منهم بحماسة أن أعضاء حزب البعث وقوات الحرس الجمهوري سيقاومون بشدة مثلما يؤكد المسؤولون الحكوميون. لكن ليس هنا سوى القليل من الجامعيين الذين يصرون، بغياب المسؤولين الحكوميين، على انهم سيطلقون النار على الأميركيين في حالة وصولهم إلى مناطق سكناهم. أما البعض الآخر فيؤكد أن معظم السكان سيبقون في بيوتهم أثناء الغزو الأميركي، وهم سيرحبون بهدوء وبحدوث التغيير الحكومي، ويتوقع هؤلاء أن أي مقاومة للأميركيين ستتلاشى بعد بضعة أيام. وقال رجل أعمال: «الجميع يريدون تغييرا سياسيا لكن الجميع خائفون مما سيحدث. نحن نأمل أن ذلك سيجري بسرعة لكننا غير واثقين من ذلك». لكن رجل الأعمال وآخرين تحدثوا بشكل حر، قالوا إنهم ما زالوا يأملون أن يتم «تغيير النظام» بدون حرب. وأضاف هذا الشخص: «ألن يكون شيئا رائعا إذا تغيرت الأمور بدون قنابل». لكنه استدرك قائلا: «قد يكون ذلك مجرد حلم. على الأكثر ستكون هناك الكثير من القنابل».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»