«سي. آي. ايه» أبلغت بوش أنها رصدت صدام فانقلبت خطط الحرب وتقرر شن هجوم عاجل ينتهز الفرصة

تينيت قال لرئيسه إن أجهزته استطاعت تتبع الرئيس العراقي الى دار جنوب بغداد بل تعرف أين سيكون في الساعات اللاحقة

TT

قبل الرابعة بقليل من بعد ظهر اول من امس، طرح مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي ايه) جورج تينيت على الرئيس جورج بوش إمكانية واقعية تكاد تكون أغرب من الخيال، وهي أن الطلقات الاولى في هذه الحرب يمكن أن تحدد مسارها بصورة كاملة. وقال تينيت ان «سي آي ايه» استطاعت أن تحدد موقع صدام حسين. فقد وقع صدام، «وبعض أكبر المستويات القيادية في نظامه»، وهم في العادة الأكثر استعصاء على المتابعة، في براثن شبكة الرصد الاميركية. لم تكن تلك المعلومات متوقعة كما أنها إذا كانت صحيحة في لحظة فربما لا تكون صحيحة في اللحظة التالية. ولذلك فهي توفر ما سماه احد المسؤولين الاميركيين «هدفا لحظيا مواتيا» ربما لا يتكرر بعد ذلك.

وقال تينيت ان وكالته لا تعرف موقع صدام في تلك اللحظة فحسب، بل «هناك احتمال كبير» انها تعرف أين سيكون على مدى عدة ساعات قادمة، مجتمعا مع مستشاريه في دار خاصة بجنوب بغداد. وحكى مساعدو بوش، أن الرئيس كان يستمع في صمت، بينما كان تينيت يكشف مصادر معلوماته وحدودها، وقابليتها للصدق والخطأ، والمدة التي يمكن لصدام ان يقضيها في ذلك الموقع قبل أن يتحرك الى موقع آخر يختبئ فيه. ومع أن الرئيس العراقي يملك عدة قصور إلا انه يتفاداها جميعا في حالات الخطر القصوى. وقال تينيت انه ربما لن تلوح فرصة اخرى لتحديد مكانه.

وخلال الساعات الثلاث اللاحقة انصرف بوش وكبار مساعديه الى فحص جدول العمليات الذي نسقته بصورة دقيقة القيادة العامة للقوات الاميركية خلال عدة شهور. ويقول المسؤولون ان الحاضرين في المكتب البيضاوي في تلك اللحظات كانوا هم نائب الرئيس ديك تشيني، وزير الخارجية كولن باول، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ومستشارة الامن القومي كوندوليزا رايس، ورئيس موظفي البيت الابيض اندرو كارد، ورئيس هيئة الاركان المشتركة الجنرال ريتشارد مايرز. وعندما وقع بوش الأمر بتسديد الضربة الساعة السادسة والنصف مساء، اضيفت إليه عبارة صيغت على عجل، بان الضربات الاولى يجب تخترق سقف وحيطان هذا المنزل المجهول في بغداد وان تنفذ عميقا في الارض أملا في الخلاص من القيادة العراقية بضربة واحدة فقط. وصرح مسؤول حكومي ملم بتسلسل الاحداث: «إذا كنت ستسدد مثل هذه الضربة فيجب أن يكون هدفك هو رأس النظام. إنها ضربة واحدة متميزة».

وكان ضباط العمليات على متن الطائرات الحربية المرابطة بالخليج والبحر الأحمر، يبرمجون صواريخ توماهوك وفق معلومات رقمية مبثوثة من رئاسة «سي آي ايه» في لانغلي بفيرجينيا، تحدد الاهداف المراد ضربها. وقامت فصيلة من طواقم مقاتلات الشبح «اف 117 ايه - ستيلث» بالتقاط الطيارين من غرفهم وزودتهم بالتعليمات الجديدة. كانت الطائرات المقاتلة والصواريخ مزودة برؤوس حربية موجهة من قبل الاقمار الصناعية. وتزن القنابل التي تحملها هذه المقاتلات 2000 رطل، وهي من مدمرات المخابئ المصممة لاختراق طبقات الصخر والحديد.

وبعد ثلاث ساعات من اصدار بوش لامر الهجوم، وفي الساعة 33:5 صباحا بالتوقيت المحلي، اهتزت الاجزاء الجنوبية من بغداد بسلسلة من الانفجارات، حسبما افاد شهود عيان. لكن نتائج الانفجارات بقيت غير معروفة على وجه التحديد. وبعد عدة ساعات من الانفجارات، أصدر التلفزيون العراقي، الذي يصعب عليه حاليا ضمان موقع في الاثير من جراء منافسة الاذاعات الاميركية الموجهة الى العراق، بيانات قال فيها إن صدام ما يزال على قيد الحياة وانه سيوجه خطابا الى الشعب بعد قليل. وقد بدأت إذاعة البيان حوالي الساعة 30:12 بالتوقيت المحلي. وصرح المسؤولون الاميركيون بأن اجهزة استخباراتهم ستحتاج الى بعض الوقت قبل ان تتمكن من التحديد الدقيق للاصابات التي أوقعتها الضربات والاشخاص الذين كانوا في موقع الحدث، ومع أن حرب 1991 شملت مئات الضربات الموجهة الى «أهداف قيادية» إلا أن الرئيس جورج بوش الاب ومستشاريه لم يقروا ان تلك الضربات كانت موجهة الى صدام شخصيا. وقد اتضح بعد نهاية الحرب أن الحملة الجوية بقيادة الولايات المتحدة فشلت في تسديد ضربات الى الرئيس العراقي رغم محاولاتها المتعددة. ولكن تلك المحاولات لم تكن في بداية الحرب، إذ أن الاهداف الاولى كانت بطبيعة الحال الدفاعات الجوية ومواقع القيادة العسكرية العراقية. واذا كانت «سي آي ايه» قد حصلت على المعلومات الاستخبارية الحالية عام 1991 لما كان في مقدور القوات الاميركية تسديد ضربة الى تلك الدار في بغداد بالسرعة الكافية. كان من الممكن ان تدير صواريخ توماهوك محركاتها، وكان يمكن لاجهزة الجيروسكوب أن توجه مسارها، ولكن لم يكن من الممكن إدخال معلومات التهديف الدقيق في ظرف دقائق او حتى ساعات. كانت الصواريخ تحتاج وقتها إلى خرائط موقعية ثلاثية الابعاد يستغرق تصميمها عدة أيام.

ولكن خلال السنوات التي انصرمت منذ نهاية حرب الخليج طورت نظم التوجيه الخاصة بصواريخ توماهوك، لترتبط بنظم تحديد المواقع العالمية من خلال الاقمار الصناعية. واصبح من الممكن للبحرية حاليا ان تحمل إحداثيات رقمية جديدة مباشرة من قسم الاستخبارات التابع للقيادة العامة للقوات المسلحة الاميركية. إن «المعلومات الاستخبارية الدافعة للفعل»، وهي السلاح الأكثر مضاء في يد قوات عسكرية متقدمة تكنولوجياً يواجهها عدو ضعيف ولكنه مراوغ، تحتاج الى التصرف السريع لتكون فعالة. وبصرف النظر عن نتيجة ضربة الخميس، فان مزيدا من الاستهداف السريع ومزيدا من الفرص غير المتوقعة ستكون ظواهر محسوسة قبل نهاية هذه الحرب،

*خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الاوسط»