أميركا توظف دروس أفغانستان في ملاحقة صدام

واشنطن تأمل أن يدفع تركيزها على الرئيس العراقي بقية عناصر الحكم إلى إعادة النظر في ولاءاتها واختياراتها

TT

ربما كان الغموض سمة مميزة لبداية الحرب على العراق التي انطلقت امس، فقد بدأت اول ضربة في الفجر اعقبها بيان مقتضب من الرئيس الاميركي جورج بوش ثم ساد صمت مطبق بعد ذلك. بيد ان خبراء التخطيط العسكري ظلوا خلال الفترة السابقة يؤكدون باستمرار ان هذه الحرب لن تكون مثل النزاعات الاخرى التي وقعت خلال العقود السابقة، بما في ذلك حرب الخليج السابقة عام 1991، ويبدو ان هذا الرأي اثبت صحته.

فبدلا من ضربة «الصدمة والرعب» التي وعد بها الجنرالات الاميركيون، جاء الهجوم على بغداد في صورة ضربة جوية خاطفة ودقيقة التصويب وجهت في الاساس للقضاء على الرئيس العراقي صدام حسين او اعضاء قيادته الآخرين. اذ يلاحظ انه لم تكن هناك نيران كثيفة، فقد اظهرت المشاهد الاولى للهجوم من خلال شاشات التلفزيون شروق شمس هادئا وسماء رمادية خالية.

ولم يتضمن بيان الرئيس بوش مناشدات بتحرير العراق كما لم يحتو على العبارات المؤثرة التي كانت سمة مميزة لبيانات الحرب التي كان يلقيها الزعيم البريطاني الراحل وينستون تشرشل، بل تضمن البيان 30 جملة عادية حول «المراحل المبكرة للعمليات العسكرية».

واشار مسؤولون الى ان الغارة التي تعرضت لها العاصمة العراقية وقعت بسبب ظهور «سانحة لإصابة هدف محدد»، بيد ان هذا لم يكن الحدث الرئيسي بل ضربة اضافية ضمن المرحلة الاولى، اذ ان الطائرات البريطانية والاميركية التي تعمل في مراقبة مناطق الحظر الجوي ظلت لمدة اسابيع تهاجم الدفاعات الجوية العراقية. وخلال تصعيد آخر تعرضت مواقع المدفعية العراقية بالقرب من الحدود مع الكويت الى قصف من جانب قوات الحلفاء، لكن القوات البرية البريطانية والاميركية لا تزال في مواقعها بالصحراء في انتظار صدور تعليمات بالزحف صوب العراق. وتقول ميشيل فلورنوي، المستشارة السابقة في البنتاغون والتي تعمل حاليا في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، ان الضربات التي وجهت للعراق فجر امس ليست هي الطريقة التي من المفترض ان تبدأ بها الحرب الجوية. وأوضحت فلورنوي ان المحللين العسكريين كانوا يتوقعون ان تنطلق الحرب الجوية في جنح الظلام باستخدام نيران كثيفة، بيد ان شيئا من ذلك لم يحدث.

وتشير الضربات الاولى المرتجلة فيما يبدو التي استهدفت منطقة سكنية في احد اطراف العاصمة بغداد الى ان خبراء التخطيط والاستراتيجية الاميركيين يأملون في نهاية سريعة للحرب بقتل صدام حسين، كما انها تعكس ايضا بعض دروس الحرب الاخيرة في افغانستان حيث خسرت القوات الاميركية فرصة توجيه ضربة الى اسامة بن لادن بسبب بطء استجابتها للتقارير التي تحدثت حول مكان وجوده. وتعتقد المحللة العسكرية الاميركية لورين تومبسون ان القوات الاميركية لا تريد تكرار ما حدث في افغانستان، فضربات فجر امس التي استهدفت العاصمة بغداد تشير الى ان القوات الاميركية تعتزم تغيير خطتها بالتركيز على البحث عن صدام حسين. ويبدو ان التغيير في الخطة جاء بسبب ما وصفه مسؤولون عسكريون بـ«معلومات تستدعي التحرك»، اي تقارير موثوق حول اماكن وجود قيادات عراقية بارزة.

وتضيف فلورنوي أن ذلك يعكس ان النشاط الاستخباراتي الاميركي داخل العراق زاد بصورة هائلة، بل تتوقع ان يقرر العراقيون ان يكونوا ضمن الطرف المنتصر مما يدفعهم الى محاولة تجنب الحرب وبالتالي الى الحديث والإدلاء بمعلومات مهمة. وقال مسؤولون عسكريون اميركيون ان الحملة العسكرية الارضية والجوية في العراق تشتمل على جوانب اخرى غير متوقعة الغرض منها إثارة فزع النظام العراقي الحاكم وإرباكه، اذ من المحتمل ان تتضمن الحملة مزيدا من الغارات الانتقائية التي قال مسؤولون انها ستنفذ بدقة نسبة لإمكانية استخدام القنابل الدقيقة التصويب وإسقاطها من طائرات تحلق على علو شاهق بعيدا عن مدى المضادات الارضية العراقية.

ويرى ايليوت كوهين، المحلل العسكري في مدرسة «جونز هوبكينز للدراسات المتقدمة»، ان القوات الاميركية ستنفذ هذه الحرب بطريقة مختلفة، مشيرا الى انه من الممكن ان تعكس هذه القوات قدرة متميزة على العمل بفعالية وكفاءة عندما تكلف بتنفيذ مهمة محددة. اما الكولونيل غاري كراودر القائد بسلاح الجو الاميركي، فقد ابلغ الصحافيين خلال مؤتمر صحافي في البنتاغون اول من امس ان الخطط العسكرية تتضمن إطلاق 3000 قذيفة خلال اول يومين في الحملة، أي 10 أضعاف عدد القنابل والصواريخ التي استخدمت خلال الايام الاولى في حرب الخليج السابقة. وعلق كراودر خلال حديثه قائلا ان «لا فكرة لدى العدو في ما يبدو بما هو آت». يضاف الى ذلك ان الغالبية العظمي من القذائف التي ستستخدم في الحرب ستكون دقيقة التصويب مما سيمكن القوات الاميركية من اصابة الجيش العراقي بالشلل وتعطيل نظم الاتصال باستخدام ضربات اقل عددا والتسبب في اضرار اقل حجما في البنى المحيطة. واوضح كرودر انه ليس مطلوباً من القوات الاميركية مهاجمة كل شي ولا تدمير كل شيء في العراق، في إشارة الى ان الخطط تتضمن اهدافاً محددة. وعلق قائلا ان «بغداد لن تكون مثل دريسدن»، في إشارة الى الدمار الذي تسببت فيه عمليات القصف المكثف والشامل الذي حول هذه المدينة الألمانية الى أطلال خلال الحرب العالمية الثانية.

اما الرئيس جورج بوش، فقد قال في كلمته فجر امس ان الانتصار في هذه الحرب ربما لا يكون سريعا، وعلق قائلا: «ان حملة في التضاريس القاسية لدولة في حجم ولاية كاليفورنيا ربما تكون اطول اكثر صعوبة مما يتوقع البعض». كما حذر الرئيس بوش لأول مرة من انه حتى اذا نفذت خطة الحرب بنجاح وحققت اهدافها فإن الولايات المتحدة ستشارك في جهود طويلة وشائكة ضمن عملية «بناء عراق جديد». ويشير خبراء عسكريون الى ان صدام حسين ربما يكون قد وضع خططا لتنفيذ ضربات انتقامية وهجمات مضادة من المحتمل ان «تتسبب في إحداث مفاجآت غير سارة»، على حد تعليقه. هوعبر تيري ديبيل، خبير الاستراتيجية بالكلية الوطنية العسكرية، ان ما أثار دهشته هو المستوى الهائل للمخاطر في النزاع الحالي، واشار الى ان الولايات المتحدة ستنتصر في نهاية الامر بيد ان تحقيق ذلك ربما يكون بتكلفة عالية، حسبما قال.

ولا يزال مساعدو بوش يتوقعون ان تكون الحرب الحالية قصيرة الامد وناجحة، اذ يبدو ان الرأي العام في الولايات المتحدة وبقية دول العالم قد تبنى هذا الافتراض، بيد ان خبراء السياسة الخارجية يرون ان هذه الحرب غير عادية وتختلف عن سابقاتها في كونها اول «حرب استباقية» اميركية في العصر الحديث فضلا عن انها حملة جريئة للاستيلاء على عاصمة شرق اوسطية وإطاحة النظام الحاكم فيها، وبذلك يكون النزاع الحالي اول تطبيق واسع النطاق لما اطلق عليه «نهج بوش» المستند إلى اعتقاده في ان الانظمة المعادية للولايات المتحدة التي تملك اسلحة كيماوية وبيولوجية ونووية تشكل خطرا يستدعي شن هجوم استباقي ضدها.

ويقول هيلموت سونينفيلت، الباحث بمعهد بروكينغز بواشنطن والمساعد السابق لوزير الخارجية الاميركية السابق هنري كيسنجر، ان ردود الافعال في مختلف دول العالم تعتمد على مسار الحرب، فإذا سارت بصورة سلسة وفعالة، كما يعتقد سونينفيلت، ستتلاشى صيحات الاحتجاج العنيفة. واذا اثبتت الحرب نجاحها واختفى صدام حسين مع العديد من مساعديه وتمكنت الولايات المتحدة من إقامة نظام بديل بعد انتهاء الحرب، فإن فكرة «الحرب الاستباقية» ستثبت صحتها. ولكن اذا سارت الامور عكس ذلك، طبقا لاعتقاد سونينفيلت، فستكون هناك صرخات احتجاج في الكثير من دول العالم وربما المزيد من الأعمال الارهابية ايضا.

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»