في مستشفى العلوية ببغداد: الحوامل يلدن مبكرا قبل بدء الحرب.. والأمهات موزعات بين المواليد الجدد في الحاضنات والأطفال الأكبر في البيوت

TT

انطلقت صفارات الانذاز محطمة هدوء ما قبل الفجر.. ثم ظهرت الاضواء الصفراء لطلقات المدافع المضادة للطائرات، مضيئة سماء العاصمة العراقية. ثم توالت اصوات انفجار هذه الطلقات.

كانت الساعة حوالي الخامسة والنصف فجرا في بغداد حينما بدأت الحرب.

في الوقت نفسه تقريبا، كان من الممكن رؤية ضوء ساطع اكبر في جنوب غرب المدينة، في محيط مطار صدام الدولي او بالقرب من حي المنصور. وربما كان ذلك إشارة الى تعرض المنطقة لهجوم بصواريخ كروز الاميركية، بالرغم من ان الامر لم يكن واضحا، عما اذا كان الصاروخ قد اصاب اي هدف.

في الساعة 5.36 بدأ ارسال التلفزيون العراقي لفترة قصيرة ليعلن ان صاروخا سقط على المدينة، ثم انقطع الارسال مرة اخرى، وحلت محل صفارات الانذار اصوات المؤذنين في مساجد المدينة. ثم بدأت الحياة تدب في المدينة بهدوء وحذر.

وامام فندق الرشيد، حيث يقيم العديد من الصحافيين الاجانب بدأت الباصات والسيارات في الظهور في الشوارع التي كانت هادئة. وفي حوالي الساعة السادسة صباحا، ظهرت سيارتا اسعاف كانتا تسيران بسرعة كبيرة على الطريق المطل على نهر دجلة.

وعندما تحدث الرئيس الأميركي جورج بوش بعد 45 دقيقة من الغارات الأولى، ليعلن ان الهجوم على العراق قد بدأ، كانت اضواء اعمدة الانارة تتلألأ، وكان من الممكن سماع اصوات انفجارات جديدة من بعيد. ومشاهدة وميض طلقات المدافع المضادة للطائرات جنوب وسط المدينة. واستأنف التلفزيون الرسمي ارساله مرة اخرى، هذه المرة بمشاهد لمعارك قديمة، وهو من الامور العادية في التلفزيون العراقي.

وفيما عدا الطلقات، لم يكن هناك اي شيء اخر ـ عدا شاحنتين محملتين بمجموعتين من الجنود ـ تشير الى ان بغداد مدينة في حالة حرب. وأبدى العراقيون الذين قابلناهم الدهشة من القصف، وهم لم يعرفوا اين سقطت الصواريخ.

قال هادي احمد: «لقد بدأوا. ستحرق اميركا في الجحيم بسبب جرائمها».

جاء اول فجر للحرب الجديدة بعد يوم بدت فيه الحياة في العاصمة العراقية في حالة سكون حيث كانت الشوارع خالية، وارفف المحلات التي أغلقت قبل غروب الشمس فارغة.

وفي مستشفى العلوية للولادة، توازت مشاعر الخوف، بطريقة ما، مع امال المستقبل. ولكن حتى المستشفى كان خالياً تقريبا. وكانت ردهاته تعد لجرحى الحرب. وكان ممرضان غير حليقين يشرفان على المواليد الجدد. احد المواليد كان احمر البشرة يرقد في حضانة من البوليرثان، اسم الام عشتار محمد، كتب على شريط كان يغطي صدر الوليد الذي كان عمره 13 ساعة فقط، وترك الطفل الذي ولد قبل موعده ولم يسم بعد وحيدا. فقد عادت امه الى المنزل لرعاية باقي اطفالها. لم يكن احد يعلم متى سيمكنها العودة لطفلها. ومضى من الوقت 16 ساعة قبل ان تهز الانفجارات المدينة.

وكان الطفل الصغير ـ مثل ثلاثة او اربعة من الاطفال الآخرين الذين ولدوا مبكرا، قد خرج للحياة بعملية قيصرية لان الام لم ترد ان تمر بحالة المخاض والقنابل تتساقط، حسبما قال الاطباء والممرضات.

وفي الايام العادية، تأتي 25 امرأة للمستشفى للانجاب. وأول من أمس، حضرت للمستشفى 4 نساء، كما ذكر كبير الاطباء طارق البياتي. واختارت الامهات اللائي كان من المفروض ان ينجبن هذا الاسبوع بمخاض صناعي او عملية قيصرية، او بقين في منازلهن وسينجبن هناك، بمساعدة من القابلات المرخص لهن، كما اوضح البياتي.

وقال البياتي الذي عكس وجهه المتعب وعباراته القصيرة حالة التوتر العامة قبيل اقتراب انذار بوش لصدام في نهاية موعده «ليس من السهل مشاهدة النساء وهن ينجبن عندما تبدأ الحرب، ولذا فليس الامر سهلا هنا في الوقت الراهن».

واستطرد قائلا «معظم مرضانا تركوا المستشفى بسبب الظروف»، مضيفا ان النساء اللائي انجبن في المستشفى خرجن بعد الولادة بساعة او ساعتين.

وربما يبدو الامر غير انساني ان تترك الأم وليدها، ولكن العاملين في المستشفى قالوا انه مع احتمال سقوط 3 آلاف قنبلة خلال 48 ساعة في المرحلة الاولى للهجوم الاميركي، فإن بعض الآباء يشعرون ان المستشفى يمكنها التعامل بطريقة افضل مع وليد جديد اكثر مما يمكنهم هم.

وتعهد البياتي بان العاملين في المستشفى لن يتخلوا عن المواليد الجدد، مهما كان صوت الانفجارات مرعبا في المدينة التي من المتوقع ان تتحمل العبء الاكبر من الهجوم. واضاف متعهدا «نحن هنا لتقديم المساعدة، ليلا ونهارا. يجب علينا القيام ذلك».

وفي ممرات المستشفى شبه الخالية التي ينتشر فيها الغبار من جراء عاصفة رملية هبت على بغداد، كان صدى اصوات الخطوات يتردد فيها وكانت المجموعة المحدودة من افراد طاقم المستشفى تبدو قلقة.

ووضع 15 سريراً في ممرات المستشفى تغطيها الملاءات البيضاء. تتوضع الى جوارها انابيب اوكسجين صدئة واعمدة الحقن الوريدي. وقال ممرض رفض ذكر اسمه، انهم ينتظرون ضحايا الصدمات.

واضاف «لقد اعددنا كل شئ، الاسرة والادوية والاوكسجين. وفي الواقع اعددنا ذلك قبل شهرين، والآن حان الوقت».

واقتربت امرأة من مراسل صحافي وقالت بالعربية «يمكنك المغادرة الآن. لماذا انت هنا حتى الآن؟» ثم قالت زميلتها بالانجليزية «شكرا».

وفي جناح الاطفال المبتسرين عرض فرج علوان مرضاه الرضع وقال ان اثنين من الاطفال يمكن خروجهم، الا ان المستشفى لم يسمع اي شئ من ذويهم.

واوضح «انهم يخشون على مواليدهم، ولذا تركوهم هنا معنا».

وكان وليد عشتار محمد يبدو الاكثر صحة بين باقي الاطفال الخمسة، ويتحرك بنشاط في حاضنته، ويفتح عينيه الزرقاوين بدرجة بسيطة وفي لحظة من اللحظات كان يبدو مبتسما قبل أن تنتابه موجة بكاء.

وكان الاب الوحيد في المستشفى هو حازم، العامل في وزارة الصناعة، 33 سنة، لم يترك المستشفى منذ ولادة ابنه علي قبل يومين. وكان جلد علي يبدو محمرا وفي حاجة الى اوكسجين لمساعدته على التنفس. وغادرت امه المستشفى عائدة الى منزلها بعد الولادة لرعاية باقي اطفالها وهم ثلاثة، الا ان زوجها ذكر انه لن يترك ابنه وحيدا سواء نشبت الحرب او لم تنشب.

وقال وهو يراقب ابنه عبر نافذة يغطيها شريط لاصق شفاف لحمايتها من الانفجارات «لم آكل شيئا منذ يومين». واوضح حازم ان خوف زوجته من الحرب هو الذي ادى الى جعلها تنجب قبل موعدها، ثم تعقدت الامور لتعرضها لنزيف. وقد ولد علي بعد حمل استغرق 36 اسبوعا ولا يزيد وزنه عن 4 ارطال.

وقال انه «كانت ترتعش طوال الأسابيع الثلاثة الماضية ولا تعرف ماذا تفعل. واخيرا طلبت مني نقلها للمستشفى لانها لا تستطيع تحمل الخوف. والطفل ليس في حالة صحية جيدة لعودته للمنزل.

وقال الممرض علوان «يحتاج الى يومين آخرين لكي يصبح في حالة جيدة. معظم الآباء يريدون تسلم اطفالهم حتى ولو لم يكونوا في وحالة صحية جيدة».

وحمل الممرض على الحرب التي تقودها الولايات المتحدة. وقال «هؤلاء ابرياء لماذا يقتلونهم؟ اذا نشبت الحرب، ستكون هناك نسبة عالية من الضحايا، وليس هناك اسوأ من مثل هذه المخلوقات الصغيرة البريئة التي تصارع من اجل الحياة. في عام 1991 فقدنا الكثير خلال الحرب. لم يكن هناك اوكسجين ولا كهرباء. ولم نتمكن من انقاذهم».

ولكن عندما بدأ طفل عشتار في البكاء، شعر بالانشراح «البكاء علامة جيدة ويعني ان الوقت قد حان لتغذيتهم».

* خدمة «لوس انجليس تايمز» خاص بـ «الشرق الأوسط»