استراتيجية الحرب الأميركية تحقق نجاحا في كسب عقول العراقيين ومعلومات من أحد المقربين لصدام حددت مكان وجوده

ضباط كبار بالحرس الجمهوري يجرون مفاوضات استسلام * واشنطن لم تلجأ لأسلوب الصدمة والرعب لتقليل الدمار وإعطاء الجنود العراقيين أطول فرصة للاستسلام

TT

قد يستهدف القادة العسكريون الاميركيون في الخليج، في الوقت الحالي، الرئيس العراقي صدام حسين بدون مصادقة مباشرة من البيت الابيض، وهو اجراء يهدف الى الاستثمار السريع للمعلومات الاستخباراتية التي ترد عن اماكن وجود الرئيس العراقي.

وجاء التغيير في التفويض بعد يوم واحد من هجوم بالصواريخ والقنابل على احد مجمعات صدام، صادق عليه الرئيس الاميركي جورج بوش، واستغرق ساعات عدة للوصول الى لحظة تنفيذه، ومن الجلي انه اخفق في «قطع رأس» النظام العراقي، وفقاً لما قاله مسؤولون في الادارة، وآخرون في اجهزة استخبارات اميركية.

ومع ذلك كانت هناك دلائل في اول يوم من ايام الحرب في الخليج على ان الولايات المتحدة حققت مكاسب في استراتيجيتها الشاملة، متمثلة في الفوز بقلوب وعقول العراقيين في وقت تلاحق فيه صدام للايقاع به وعزله عن الوحدات العسكرية التي تشكل العمود الفقري لنظامه.

وكان غائباً، على الاقل في المراحل الاولى من الحرب، هجوم «الصدمة والرعب» الجوي المدمر الذي يفترض ان يرغم العراقيين على الخضوع. وبدلاً منه كانت هناك خطة حددت، بعناية، لتقليل الدمار والاصابات، واعطاء الجنود العراقيين اطول فرصة ممكنة للاستسلام، وقتل الطغمة الدكتاتورية العراقية او الاطاحة بها. غير ان خيار الصدمة والرعب ما زال قائماً الى حد كبير.

وفي وقت متأخر من يوم الخميس الماضي قالت مصادر استخباراتية اميركية ان بعض الزعماء العسكريين العراقيين ـ وبينهم ضباط كبار في وحدات الحرس الجمهوري الاكثر ولاء لصدام ـ اجروا مفاوضات مع مسؤولين اميركيين على استسلام يمكن ان يشتمل على خلع الرئيس العراقي صدام حسين.

وقالت مصادر استخباراتية اميركية رفيعة المستوى ان الضربة الجوية على مجمع صدام عكست مكسباً هاماً في الحصول على معلومات يصعب الحصول عليها بشأن تحركات وتنقلات الرئيس العراقي المراوغة. فقد ادت اتصالات مراقبة ومعلومات من احد المقربين من صدام بالمسؤولين الاميركيين الى تحديد موقع مجمع في جنوب بغداد كان يعتقد ان عدداً من المسؤولين العراقيين مجتمعون فيه في وقت متأخر من يوم الاربعاء.

ولم يكن الهجوم الذي اعقب ذلك جزءاً من خطة الحرب الرسمية، ولكنه كان متوافقاً مع الاستراتيجية الاميركية الشاملة.

وقال بوب سكيلز، جنرال الجيش المتقاعد، والآمر السابق للكلية العسكرية ان «هذا يوضح الطريقتين اللتين تشن بهما الحرب عموماً. ففي الطريقة القديمة يمكن للمرء ان يقاتل مخترقاً العدو. وفي الطريقة الجديدة يقاتل المرء محيطاً بالعدو، ثم يهاجم الرأس الاول. وهذه عملية تفكيك سايكولوجي واسع النطاق».

وفي وقت متأخر من يوم الخميس كان مسؤولون عسكريون واستخباراتيون اميركيون يحاولون التوثق من تقارير اشارت الى ان احد افراد الدائرة االضيقة المحيطة بصدام ـ ربما واحد من ابنيه قصي أو عدي ـ جرح او قتل في الهجوم الاولي. وبعد الضربة الجوية شوهد صدام على شاشة التلفزيون العراقي وهو يرتدي بدلة عسكرية ويعتمر بيريه اسود، ويضع نظارات كبيرة، ويقرأ بيانا يدين الهجوم.

وقالت مصادر استخباراتية رفيعة ان «تحليلاً اولياً للصوت» اظهر ان الرجل الذي ظهر في شريط التسجيل كان صدام وليس احد اشباهه الذين يستخدمهم لاسباب امنية.

وقد اتفق على ذلك الكثير من الباحثين ممن درسوا الرئيس العراقي وقالوا انه بدا متزعزعاً. واكد آخرون، انه لم يكن الرئيس العراقي، وقالوا ان الرجل الذي ظهر في شريط الفيديو كان يفتقر، بين امور اخرى، الى شامتين مميزتين في وجه صدام. ولكن معظم المتحدثين اتفقوا على انه حتى اذا كان الرجل الذي ظهر في الشريط هو صدام، فان الشريط يمكن ان يكون مسجلاً قبل الهجوم، وبالتالي فانه، بحد ذاته، لم يكن، بالضرورة، دليلاً على ان صدام حي.

ويوم الخميس عرض التلفزيون العراقي صدام وهو يترأس اجتماعاً لحكومته، وكان يرتدي بدلة عسكرية. ولم تكن هناك اشارة الى موعد انعقاد الاجتماع.

واشار قادة عسكريون اميركيون الى انه اذا ما نجا صدام من الهجوم، فقد لا يكون متمتعاً بسيطرة كاملة على قواته ـ ربما لانه اكثر تفكيراً بالهرب والنجاة من قيادة بلده في حرب.

وقال وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد الخميس ان العسكريين الاميركيين يعتقدون ان كبار الزعماء العراقيين ما زالوا يتمتعون بالحرية واعلن انهم مستهدفون بضربات جوية قادمة. وقال رامسفيلد عن الهجوم ضد صدام انه «كان الاول. ومن المحتمل ألا يكون الاخير. ان ايام نظام صدام حسين محدودة».

وقال مسؤولون عسكريون ان الهجمات الاخيرة جاءت متوافقة مع الخطة الاولى لإسقاط صدام حسين مع تفادي الدخول في نزاع واسع النطاق.

ومن جانبه قال رامسفيلد ان هذه الحرب ليست ضد شعب وإنما ضد نظام حاكم. يذكر ان الولايات المتحدة ظلت تشن حملة إعلامية تهدف الى القضاء على تأييد الرئيس العراقي والى تصوير الحرب وكأنها من اجل شعب مقهور، كما ان البنتاغون قرر إسقاط العديد من المنشورات وتوجيه رسائل بريد إلكتروني وبيانات إذاعية الى المدنيين والمسؤولين العسكريين العراقيين، واصفا الهجوم المقبل بأنه حرب لتحرير الشعب العراقي وطالبا مساعدة الكثير من هؤلاء. وكرر رامسفيلد ذات الموضوع مناشدا القادة العراقيين والضباط والمدنيين الوقوف الى جانب إطاحة نظام صدام حسين. فبدلا من القذائف والقنابل اسقطت على العراقيين خلال ساعات الحرب الاولى منشورات تحتوي على إرشادات مفصلة حول كيفية عدم تعريض انفسهم للموت دفاعا عن صدام حسين. كما أشار رامسفيلد الى ان الجنود والضباط العراقيين يجب ان يسألوا انفسهم عما اذا كانوا يريدون الموت دفاعا عن نظام ساقط لا محالة ام يريدون البقاء وما اذا كانوا يرغبون في مساعدة الشعب العراقي في تحرره من النظام الحالي ولعب دور في صياغة عراق ينعم الجميع فيه بالحرية. ويعتقد الجنرال الاميركي المتقاعد آندي بيسفيتش ان ظهور وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بدا وكأنه موجه الى القادة العسكريين والجنود العراقيين اكثر منه الى الاميركيين، مما يعتبر امرا خارجا عن المألوف. ويرى رامسفيلد ومسؤولون عسكريون آخرون ان الولايات المتحدة كسبت الحرب الاعلامية وان اعدادا كبيرة من القادة العسكريين والجنود باتوا يفكرون مليا في مسألة حمل السلاح عند تقدم قوات الحلفاء صوب بغداد. وفيما راعت الغارات الاميركية نسبيا تجنب تدمير البنيات التحتية العراقية، تتضمن الحرب النفسية للبنتاغون محاولة إقناع الضباط العراقيين بتوخي نفس الحذر، اذ وصف رامسفيلد خلال تنوير ألقاه يوم اول من امس من يقدمون على حرق آبار النفط العراقية والسدود بـ«مجرمي الحرب». ومن المتوقع ان تتعرض خلال الساعات المقبلة منازل صدام حسين والقصور الرئاسية ودور حزب البعث الحاكم وقوات الأمن لنيران القصف. وأوضح مسؤول عسكري اميركي بارز ان جزءا مهما من الخطة الاميركية التي ترمي الى تغيير رأي العراقيين يكمن في تنفيذ معظم عمليات القصف المكيف خلال ساعات النهار حتى يرى العراقيون عملية تفكيك نظام صدام حسين أمام اعينهم والابتعاد عن المقاومة. ويعتقد سكيلز ان مثل هذه الاستراتيجية تناسب تماما الانظمة الدكتاتورية مثل النظام العراقي الحالي، وقال ان الديمقراطية تستمر وتظل موجودة في حالة سقوط قادتها، إلا ان الدكتاتوريات تزول بزوال حكامها. والتقييم الاولي لنجاة الرئيس العراقي من عمليات القصف يشير الى صعوبة تعقب فرد يتمتع بحراسة مشددة في دولة بمساحة العراق، كما يشير التقييم ايضا الى انه حتى في اشد حالات الطوارئ فإن عملية إشراك الرئيس وكبار مسؤولي الحكومة في اتخاذ قرار حول شن هجوم جوي يوفر فرصة للفرار والاختباء أمام الشخص المستهدف. ويعتقد مايكل اوهانلون، من معهد بروكينغز الاميركي، ان القوات الاميركية أضاعت فرصة القضاء على صدام، اذ ان الضربة التي وجهت بغرض القضاء عليه حدثت بعد ست ساعات من تلقي معلومات تفيد بوجوده في الموقع الذي تعرض للقصف. ويؤكد اوهانلون ان استغلال مثل هذه الفرص يتطلب التصرف على وجه السرعة دون ادنى إبطاء.

بيد ان مسؤولا استخباراتيا اميركيا قال من جانبه ان الضربة التي وجهت الى المبنى الذي كان يعتقد ان صدام حسين وبعض القادة العراقيين موجودون داخله جاء في وقت مناسب بعد تأكيد المعلومات حول الموقع المذكور وإطلاق الصواريخ عليه. ويرى بعض المحللين ان العثور على قائد للعدو يعمل باستمرار لتفادي الوقوع في قبضة الطرف الآخر امر صعب للغاية، كما من الصعب ايضا معرفة مكان وجوده خلال الساعات المقبلة. وهذا النوع النادر من المعلومات هو ما وضعه مدير وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية، جورج تينيت، أمام الرئيس جورج بوش نهار يوم الاربعاء. وأشار شن الهجوم على الموقع المذكور بوضوح الى نجاح وكالة الاستخبارات المركزية في الحصول على معلومات حول تحركات صدام حسين واماكن اختبائه ليلا. ويقول مسؤولو استخبارات ان صدام حسين ربما يكون الآن قد بدأ تغيير عاداته وتحركاته ومن المحتمل ايضا ان يكون قد بدأ في تطهير المقربين منه من كل من يشتبه في انه جاسوس مما سيعقد من مساعي الولايات المتحدة في العثور عليه. وكان ثلاثة مسؤولين في البيت الابيض ومسؤول استخباراتي بارز قد ذكروا ان الادارة الاميركية قررت اتخاذ التحرك المناسب وفقا للمعلومات التي وردت الى الرئيس بوش بواسطة جورج تينيت حول اعتزام صدام حسين والمقربين منه قضاء ساعات الليل في ما اعتبره رامسفيلد «مقرا لكبار القادة العراقيين».

وبناء على طلب تينيت، فإن الرئيس بوش عقد اجتماعا عاجلا في حوالي الساعة الثالثة واربعين دقيقة بعد ظهر الاربعاء. وذكر ثلاثة مسؤولين اميركيين في ثلاث مقابلات منفصلة ان معلومات من مصادر بشرية واتصالات تم التنصت عليها وصوراً استخبارية، تم تجميعها معا لتطوير المعلومات التي اعتمدت عليها الغارات المبدئية للحرب.

وفي مشهد يعيد الى الاذهان اختيار الرئيس بوش لأهداف فردية في «بدروم» البيت الابيض خلال حرب فيتنام، انكب كل من بوش وتينيت ونائب الرئيس ديك تشيني، ومستشارة شؤون الامن القومي كوندوليزا رايس ووزير الخارجية كولن باول وغيرهم من كبار المستشارين، على تفحص المعلومات المقدمة من تينيت. وأثاروا العديد من الاسئلة: اين يقع المجمع؟ وما مدى قربه من المناطق السكنية؟ وما مدى مصداقية تلك المعلومات حول بقاء صدام خلال الليل في هذا المجمع في جنوب بغداد؟

وذكر رامسفيلد «كان لدينا ما يمكن ان اصفه بمعلومات استخبارية في غاية الجودة على انه مجمع لكبار شخصيات القيادة العراقية».

وفي نهاية الاجتماع، الذي استغرق 4 ساعات، اقر الرئيس بوش الغارة، وأدى ذلك الى تنشيط سلسلة من الأوامر المعقدة التي قدمت الى مقر القيادة الوسطى في قطر ومن هناك الى العناصر البحرية والجوية في المنطقة. وبدأت الاطقم في 4 سفن وغواصتين في الخليج والبحر الاحمر في اعادة برمجة حوالي 40 صاروخا من طراز توماهوك التي ضربت المجمع المحصن، الذي يعتقد المسؤولون الاميركيون بوجود مخبأ تحت الارض به.

وتولت اطقم مقاتلات اف - 117 التي القت بقنابل زنة 2000 رطل المعروفة باسم «مدمرة المخابئ» تشغيل اجهزة التنسيق في القنابل الموجهة بالاقمار الصناعية.

واستغرق كل ذلك وقتا، ولكن الرئيس الاميركي وكبار مستشاريه لم يشعروا بالقلق لانه كان من المعتقد ان صدام وحاشيته يقضون الليلة في المجمع.

وذكر المسؤولون في البيت الابيض والبنتاغون ان بوش تخلى عن عادته المفضلة بتفويض اتخاذ القرارات القتالية للقادة الميدانيين لان المعلومات الاستخبارية حول مكان وجود صدام توفرت قبل عدة ساعات من انتهاء فترة انذار الرئيس، في الساعة الثامنة بالتوقيت الشرقي للولايات المتحدة، لصدام للتنازل عن السلطة لتجنب الحرب.

والآن وبعد بداية الحملة العسكرية، فقد اصبح للقادة سلطات واسعة لضرب القادة العراقيين باعتبارهم اهدافا مشروعة للحرب ولا يتعرضون لمناقضة القرار التنفيذي للرئيس بمنع الاغتيالات، كما اوضح المسؤولون. وأوضح جنرال القوات الجوية ريتشارد مايرز رئيس هيئة الاركان المشتركة يوم الخميس «ان مراكز القيادة والسيطرة لقيادة نظام ما هي هدف مشروع في اي نزاعات، وكان هذا هو الهدف الذي تم ضربه في الليلة الماضية».

والسبب الاخر وراء تصعيد غارة جوية منفردة للمكتب البيضاوي لإقرارها، طبقا لما ذكره مسؤول اميركي، هو القلق من ان بداية الحرب بغارة وحيدة يمكن ان يبعث بإشارات مشوشة في الوقت الذي تعهد فيه البيت الابيض بغزو شامل للعراق.

وأوضح مسؤول اميركي «ان ذلك سيؤدي الى تغيير اساسي فيما كانت تعتبر خطة الحرب، وعليك وضع تأثيرها في الاعتبار على الخطة الشاملة».

ودافع تينيت عن الغارة، كما ذكر المسؤول لان «اي وقت تتوفر لك الفرصة للحصول على قيادة كبرى للعراق ـ اذا كانت لديك بعض الثقة ربما تصبح ناجحا ـ عليك انتهاز الفرصة».

(قدم كيلي تقريره من الكويت ومونيز ودياموند من واشنطن. وشاركت محررة «يو اس ايه توداي» جودي كين ولورنس ماكولين في تغطية الموضوع ايضا).

*خدمة «يو اس ايه توداي» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»