سكان مدن الجنوب العراقي خائفون من القصف ويؤكدون سيطرة «البعث» وقصص المعاناة تصل إلى بغداد عبر الأقارب وسائقي الحافلات

TT

في محطة الحافلات القريبة من جامع بُنِّية بالكرخ كان السائقون يعبئون حافلاتهم المتداعية بزوار العتبات المقدسة والجنود والعائلات. وقال بعض هؤلاء السائقين إن الطريق مفتوح. لكن بعد مضي أسبوعين على الحرب يصف المسافرون المدن الجنوبية بأنها في حالة حصار.

وفي حوارات مع سائقي الباصات والعائلات المسافرة من وإلى بغداد ومع الناس الذين ظلوا على صلة عبر الهاتف بأقاربهم، راحت القصص تنقل مشاعر السكان الخائفين والمعزولين والذين يعتمدون على ما تعطيه الحكومة لهم من حصص غذائية، إذ هناك فزع شديد من الهجمات الجوية الأميركية المتواصلة. وفي لحظات من الصراحة كان هؤلاء المسافرون يشكون من كونهم وقعوا في الوسط بين الهجوم الأميركي وخشيتهم من احتلال بلدهم وبين حكومة مكروهة من الناس وظلت تستخدم القمع في مناطق الجنوب.

بدون استثناء ظل الجميع يصر على أن حزب البعث الحاكم لا يزال مسيطرا على «ما لا يقل عن 90 في المائة» من العراق حسبما قال أحدهم. فمع آلاف الكوادر الذين تم نشرهم بملابسهم الكاكية ورشاشاتهم تمت السيطرة على كل مبنى وعلى كل نقطة تقاطع لمنع سقوط مدن مثل البصرة والناصرية والحلة وكربلاء. وقال أحد أقارب مسافر عابر: «إذا نزعت فردة من فردتي حذائك ورميتها بشكل عشوائي فإنها ستسقط على رأس واحد من البعثيين».

وكشفت تلك الحوارات مدى ولاء الكثير من الشيعة في جنوب العراق للرئيس العراقي صدام حسين. وهي تمنح فهما أعمق لهشاشة هذا الولاء. وقال المقيمون في الجنوب إن عدد أعضاء حزب البعث قد ازداد كثيرا في فترة التسعينات لأن أعضاء الحزب الحاكم يتسلمون 15 دولارا في الشهر وهذا هو واحد من المصادر النادرة لكسب العيش بالنسبة للعائلات الفقيرة في المنطقة. وسمح ذلك للحكومة بتحقيق سيطرة كاملة على الشوارع عن طريق ملئها بهؤلاء، لكن السؤال يظل مطروحا إلى متى ستبقى هذه القوى متماسكة بدون أن يظهر على نسيجها أي شقوق. وقال هذا الشخص القادم من الجنوب: «لم يكونوا يعرفون أنهم سيخوضون حربا».

وقال المسافرون القادمون من الجنوب إن الحكومة ما زالت تسيطر هناك على الرغم من غياب أي شعبية لها بين الناس. وخلال الأسبوعين الماضيين لعبت الحكومة على مشاعر النقمة العميقة التي أثارتها عمليات القصف الأميركي بين المدنيين. ويبدو أن الشكوك العميقة في نية الولايات المتحدة يعود إلى ما عاناه سكان جنوب العراق بعد أن انتفضوا ضد الحكومة العراقية سنة 1991، إذ لم يترتب على ذلك سوى أنهم خُذلوا من قبل الولايات المتحدة.

والكثير من الشهادات جاءت من كربلاء المدينة التي تستغرق الرحلة إليها من بغداد 90 دقيقة. فمنذ بدء القتال قرب كربلاء تم تدمير مقرين تابعين للاستخبارات العراقية وملأ الزجاج المهشم شوارع واحدة من أكثر المدن قداسة بالنسبة للشيعة. ويبعد مكتب الاستخبارات عن ضريح الإمام الحسين مسافة تقل عن ميل واحد. وليس هناك إلا القليل من الدبابات أو الأسلحة الثقيلة داخل كربلاء، لكن السائقين قالوا إن حزب البعث قد قسم المدينة إلى قواطع ويقع احد مكاتب الحزب الحاكم على بعد 500 ياردة عن الضريح، واتخذ عدد من أفراد الميليشيا مواقع داخل الضريح نفسه. وقال علي مجبل الذي زار أسرته في كربلاء في عطلة نهاية الأسبوع: «في كل مكان وفي كل نقطة الحزب موجود».

وفي الأسبوع الماضي أجبر القتال الدائر عند ضواحي كربلاء مئات من الفلاحين والقرويين على الذهاب إلى مركز كربلاء طلبا للسلامة خصوصا مع توفر الكثير من الفنادق المخصصة لاستقبال من يأتي لزيارة العتبات المقدسة، حسبما قال السائقون. وحسب كل الشهادات ظل القصف مستمرا بكثافة شديدة وذلك يعمق مشاعر النقمة بين المدنيين مع استمرار الحصار المضروب على المدينة. وتم التحدث مع السائقين بوجود رجال أمن من الحكومة العراقية.

وقال محسن عدي، 33 سنة، السائق الذي توجه صباح امس إلى كربلاء: «كل الناس في بيوتها. بعض العائلات شعرت بالأمان لأنها ظنت أن الضرب سيكون موجها لمكاتب حزب البعث فقط لكن هذه المكاتب قريبة منهم وهذا ما أدى إلى إصابتهم بالأذى».

وتعتبر الطرق المؤدية إلى كربلاء والنجف الأكثر ارتيادا في العراق بسبب زيارة العتبات المقدسة فيها. وقال سائق إن جنود الحرس الجمهوري المعروفين بشارات مثلثة الشكل وبملابسهم العسكرية الخاصة، نصبوا على الأقل ثلاث نقاط تفتيش من بغداد إلى كربلاء. والطريق الى النجف قد تم إغلاقه بسبب المخاطر الشديدة التي نجمت عن المعارك المكثفة هناك. ودخلت قوات أميركية برية أمس بعد وقوع معركة قوية مع المقاتلين العراقيين هناك.

ووصف نجم عبد الرضا، داخل غرفة مضاءة بفانوس بعد أن ضُربت الكهرباء في بغداد، ما حدث لأسرة عايدة عفص في الأسبوع الماضي حينما تجاهلت تحذيرات الآخرين وذهبت إلى النجف لدفن جثمانها هناك. فبعد أن وضعوا تابوتها فوق باص صغير رمادي اللون مع خمسة أقارب والسائق بدأت الرحلة في الساعة السادسة صباحا.

لكن بعد ساعتين وبالقرب من مدينة الكفل قال نجم عبد الرضا إن صاروخا أميركيا ضرب السيارة. وأدى ذلك إلى قتل مسافرين مباشرة، وتحت وابل من رصاص البنادق أصيب الأربعة الآخرون بجراح سببت نزفا شديدا لهم لكنهم تمكنوا من الهروب من المكان. وقال نجم إن أخاه علي عبد الرضا، 58 سنة، هرب شمالا على طريق جانبية لمدة ساعتين. وعلى الرغم من إصابته في ركبته وذراعه اليسرى وفخذه الأيسر تمكن من المشي لساعتين حتى شاهد مجموعة من الفلاحين يعملون في حقول على نهر الفرات فنقلوه إلى مستشفى في مدينة الحلة حيث تلقى اسعافا أوليا. ثم استقل سيارة تاكسي مع آخرين ليصل إلى بيته في الرحمانية الساعة الخامسة عصرا.

أما الناجون الآخرون فعادوا تدريجيا إلى بيوتهم، إذ عاد السائق حبيب علي بعد فترة قصيرة من وصول أخيه علي عبد الرضا. بينما عاد ريسان صغير حوالي العاشرة مساء وظهر آخر الناجين مهند هادي بعد ثلاثة أيام في حي الرحمانية. وقال الجميع إنهم لا يعرفون ما حدث للقريبين الآخرين اللذين قُتلا أو لتابوت الأم عايدة عفص.

وقال نجم واصفا القوات الأميركية: «إنها تريد تخويف الناس. إنه عمل غير انساني وكل شخص بلا انسانية يصبح قاسيا وهمجيا».

وتحدث السائق والناس الذين لهم أقارب في مدن مثل البصرة والناصرية والحلة عن شوارع فارغة وعوائل منعزلة، وأن عزلتهم تتنامى الآن مع تزايد قصف مراكز توصيل الهواتف. كذلك لم يعد التلفزيون العراقي يبث خارج بغداد لكن بعض العائلات ما زالت تستطيع الحصول على البث عن طريق الأقمار الصناعية بينما هناك من يستمع إلى محطتي الـ«بي بي سي» ومونت كارلو الناطقتين بالعربية.

وفي جنوب مدينة الناصرية دفنت عائلة فوزي مالك جثمانه على بعد عدة أقدام من باب البيت بعد أن اقتلعوا الزهور في الحديقة وحفروا حفرة هناك ليدفنوه بعد لفه بثوب تقليدي أبيض.

أما مالك، 50 سنة، والمشارك في حربي الخليج الأولى والثانية، فقد تجاهل تحذيرات أفراد عائلته للتجمع في الطابق الأرضي من البيت لكن حينما بدأ القصف هرب إلى حمام بعيدا عن زجاج النوافذ وخلال دقائق أصيب بجلطة قلبية فقام ابنه قصي، 25 سنة، باستدعاء سيارة الإسعاف التي احتاجت إلى ساعتين للوصول إلى المستشفى بعد إيقافها عند عدة نقاط تفتيش نصبها أعضاء حزب البعث. ووصل الأب متأخرا ساعة الى المستشفى إذ فارق الحياة أثناء الطريق.

وتدارست عائلته الكبيرة المكونة من 30 شخصا خيارين: فدفنه في المقبرة التي تبعد عن البيت 150 ياردة يعرضها للقصف الأميركي واحتمال وجود قناصين أميركيين يزيد من وقوع هذا الاحتمال. وفضلوا الخيار الأخير.

وقال ابن اخته مصطفى كامل، 33 سنة، الذي نقل القصة أمس من محله في بغداد: «كل ثانية كانوا في الخارج ظنوا أنهم سيموتون. شعروا أنهم وقعوا في فخ وأنهم مطوقون».

وقالت عائلة فوزي مالك إن القناصين الأميركيين عبروا الفرات الأسبوع الماضي لاقتناص المدنيين وهذه قناعة ترسخت في نفوس الكثير من الناس. وقال كامل الذي كان آخر من تكلم معهم يوم الجمعة الماضي إن النساء اللواتي يرتدين العباءات السوداء لا يتجرأن على الخروج من بيوتهن فهن يخشين من ظن الأميركيين أنهن من فدائيي صدام المقاتلين الذين ما انفكوا يضايقون القوات الأميركية والبريطانية.

وذكر كامل ان اسرته لديها التموين الحكومي من العدس والدقيق والسكر والحليب المجفف والبقول. كما لديهم امدادات اضافية من البطاطس، وهو طعام مفضل بسبب عمره الطويل، ولكنه يخشى من نقص مخزون الاسرة من المياه. والغريب في الامر ان نهر الفرات يقع على بعد 25 ياردة من نافذة المنزل، غير انها رحلة يوضح كمال انهم يعتبرونها خطرة للغاية.

وقال انها «مدينة اشباح. كل ما يسمعونه هو اصوات الانفجارات ومثلما هو الامر في كربلاء وغيرها من المدن، فإن الاستثناء الوحيد هو افراد ميليشيات الحكومة، الذين زاد عددهم منذ بداية الحرب».

وذكر عادل سعيد تعيش اسرته في البصرة، ان شقيق زوجته واسمه سالم نضال، كان يعمل كهربائيا في مكتب حكومي. ومع بداية الحصار اغلق المكتب ابوابه، وباعتباره موظف دولة نقل الى ميليشيات الحزب، وارتدى زيا رسميا اخضر، وقدمت له بندقية وتولى الحراسة ليلا بالقرب من مكتبه القديم وقال انهم لا يعملون ولا يشترون ولا يبيعون. بل يجلسون هناك فقط.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»