سكان بغداد يتهافتون على فرصة مجانية لتطمين الأقارب مع دخول الحرب إلى العاصمة

طبيب مسن: إذا قالوا سنعطيكم ما تحتاجونه ورحلوا سيكون أمرا عظيما ولكن لا أحد سيقبل حكم الجنرالات الأميركيين

TT

تسلق البعض على أصص الزهور بينما دفع البعض الآخر بقوة بوابة المدخل. كانوا يحركون أياديهم في الهواء وبين أصابعهم راحت تهتز بطاقات عمل شخصية أو قطع أوراق مصفرة أو مزق من جرائد.. كان الكل يحمل أرقام هواتف تتجاوز حدود العراق.

طوقت حشود واسعة المركز الصغير لهيئة الصليب الأحمر الدولية أمس في منطقة العلوية. فمع تعطل الخطوط الهاتفية كلها في بغداد وصلتهم شائعات ـ اتضح صدقها لاحقا ـ بأن أهالي بغداد يستطيعون استخدام الهاتف مجانا وإلى أي بلد في العالم. ولديهم ثلاث دقائق للتحدث مع أصدقائهم وأقاربهم عن حياتهم أثناء الحرب.

وقال المهندس الكهربائي ليث حازم، 41 سنة، والذي كان ينتظر دوره للتحدث مع أخيه لؤي المقيم في استوكهولم: «كل العائلات لديها أفراد في الخارج قلقون عليها. فهم قلقون على حياة أقاربهم في الداخل وحول المخاطر التي يواجهونها».

وظل حازم ينتظر دوره على الممشى الغارق بضوء الشمس لعدة ساعات كي يهاتف أخاه، في الوقت الذي كانت الصواريخ والمضادات الأرضية تدوي بعنف ضمن مسافة ميل واحد أقرب بكثير مما هو عليه في الأيام السابقة منذ بدء الغزو الأميركي، لكنه قال مقللا من أهمية الخطر: «الحرب هي شيء خطير جدا».

تقدمت فظائع الحرب أمس أكثر داخل بيوت أهالي بغداد، فسيارات الإسعاف راحت تتحرك بسرعة في الشوارع وبشكل مستمر مطلقة العنان لصفاراتها الحادة. والمستشفيات بدأت تعالج مئات من المصابين الجرحى من مدنيين وعسكريين أصيبوا على خطوط القتال الواقعة في ضواحي بغداد. وخلال ساعات نهار أمس كانت أصوات الانفجارات المدوية تتصاعد من تلك المعارك المتنامية.

وبعد أيام من الفرار الجماعي المحموم أصدرت الحكومة قرارا بعدم السماح لأي شخص بالخروج من بغداد بين الساعتين السادسة مساء والسادسة صباحا وأصبحت الشوارع مهجورة في الليل، وظلت الخطوط الهاتفية التي تعطلت بعد الهجمات الجوية الأميركية التي جرت الأسبوع الماضي خالية من الحياة، وحذرت الحكومة المواطنين من عقوبات صارمة في حالة العثور على هاتف جوال متصل بالأقمار الصناعية خوفا من استخدامه لأغراض التجسس. وأدى انقطاع الكهرباء إلى انقطاع الماء عن أجزاء كبيرة من المدينة.

وبحثا عن السلامة قام بعض سكان بغداد بأخذ بعض بطانياتهم وفرشهم وحقائبهم من الضواحي الجنوبية للعاصمة العراقية وذهبوا إلى مناطق قريبة من مركز المدينة. والكثير من هؤلاء بدون سيارات وبعضهم تجرأ بالخروج وسط القتال للسير وسط الشوارع المليئة بالجنود ورجال المليشيا والمدنيين الحاملين قاذفات القنابل المحمولة على الكتف والبنادق والرشاشات. أما الآخرون ففضلوا البقاء في بيوتهم غارقين في الظلام على أمل أن يسمعوا كلمة من أقاربهم الموجودين على بعد أميال قليلة منهم.

وقال طبيب كبير في السن يقيم في حي المنصور الراقي: «الجميع هربوا... الجميع هربوا من بغداد». وظل هو في البيت لوحده مقدما لضيفه عصيرا. وأرسل زوجته إلى الخارج أما ابنه فيعيش في الولايات المتحدة في الوقت الذي تعيش ابنتاه في بغداد لكنهما خائفتان جدا لترك بيتيهما والقيام بزيارته. وبغياب مراقبين حكوميين تحدث هذا الطبيب عن العراق وعمن يحكمه وعمن سيحكمه لاحقا: «نحن اكتفينا حقا بما لاقيناه... كفاية ما وقع لنا». وسبّب أزيز الطائرات الحاد صمتا مؤقتا دفعه إلى التنفس بعمق منتظرا استقرار القنبلة فوق هدفها. قال وهو ينظر إلى النافذة التي وضع فوقها شريطا لاصقاً منعا لتكسر الزجاج: «دائما بُم بُم بُم». ثم انهالت شكاواه في تلك اللحظة ومع غياب الرقيب الحكومي. فهو يكره الحكومة ولا يفهم لماذا لا يتخلى صدام حسين عن الحكم «من أجل شعبه ومن أجل وطنه». وعدّد هذا الطبيب الجرائم التي قامت بها الدولة العراقية: الحكم الوحشي، تهجير عشرات الألوف من الناس وثمانية أعوام من الحرب مع إيران ثم غزو الكويت سنة 1990.

والآن يتهيأ صدام حسين لخوض معركة من أجل بغداد يصرح الكثير من الناس سرا بأنها «انتحارية». وقال هذا الطبيب: «نحن لا نعلم متى ستنتهي هذه الحرب. أتمنى أن يكون ذلك غدا». لكن كراهيته لصدام تتوارى مع شكوكه بوعود الولايات المتحدة لتحرير العراق وتحقيق الديمقراطية فيه. وقال إن بغداد ستنتظر لتشاهد النتيجة لكنه توقع أن تكون الفرصة لتحقيق ذلك قصيرة ومحفوفة بالمخاطر. وأضاف: «أنت لا تريد أن تُحكم من قبل الغرباء... الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون هم نفس الشيء بالنسبة لنا».

وأضاف هذا الطبيب المسن: «إذا قالوا: حسنا هذا هو بلدكم نحن سنعطيكم كل ما تحتاجونه ثم نغادر فذلك سيكون رائعا لكن عندما تسمع أن الجنرالات الأميركيين قادمون لحكم العراق وأن ذلك سيستمر لعام واحد أو عامين أو ثلاثة أعوام أو لستة أشهر فإن هذا الموقف عسير تبريره للناس البسطاء الذين يشكلون الأغلبية فهذا سيكون صعبا ولن يكون ممكنا تقبله منهم... هم سيقولون من هو أفضل صدام أم الأميركيون? على الأقل صدام هو من هذا البلد بينما هم أجانب».

وفي صوت خفيض عبّر هذا الطبيب بشكل مباشر عن احتمال بقاء صدام. وظل يسأل عن الأخبار ويميز بين الأخبار المتناقضة التي سمعها عبر الراديو العراقي وعبر المحطات التي تبث بالعربية مثل مونتي كارلو والـ بي بي سي. وقال إنه في بعض الأيام لا يجد لديه ما يفعله سوى الاستماع لوحده إلى الراديو والانتظار: «الوقت بطيء... بطيء جدا».

وهو ليس وحده يعيش حالة من الارتباك بل ان أولئك السكان الذين أغرقوا عبر محطة الراديو العراقية بتصريحات المسؤولين التي ظلت تنكر وقوع أي تقدم للقوات الأميركية وأعلن محمد سعيد الصحاف وزير الإعلام ان الحرب تجري وفق الخطة العراقية وأن حرب الإنهاك قد بدأت توا وحذر الصحاف الناس من الاستماع إلى الشائعات التي أصبحت وسائل بواسطتها يستطيع أغلب الناس المعزولين في بيوتهم فهم ما يجري حولهم.

وفي مؤتمره الصحافي أنكر الصحاف مزاعم المسؤولين العسكريين الأميركيين من أن أكثر من 3000 عراقي قد قتلوا أثناء الغارة التي جرت يوم السبت على ضواحي بغداد وإن هناك غموضا ما زال باقيا حول عدد الضحايا. وبعد انقضاء عدة ساعات لم يكن هناك أي شخص يسير في شوارع بغداد بينما قال العاملون في الصليب الأحمر إن هناك أكثر من 100 مصاب يدخلون إلى مستشفيات بغداد وأن العدد وصل إلى مائة كل ساعة أثناء اشتباكات يوم الجمعة الماضي. وقالوا أيضا إن بعض المستشفيات قد تجاوزت قدراتها كثيرا وأن هناك طلبات متزايدة على الأكياس الحافظة للجثث.

وخلال فرصة قصيرة أجرت الحكومة العراقية للصحافيين الأجانب جولة قصيرة لمعرفة ما حققته من مكاسب عسكرية. إذ قام مسؤولون عراقيون بمرافقة الصحافيين لمشاهدة حطام دبابة أميركية محترقة يبدو أنها دُمرت خلال معركة يوم السبت التي استمرت ثلاث ساعات وكانت الدبابة واقفة بشكل عرضي على وسط طريق رئيسي بالقرب من مدرعة عراقية وبجانبها كانت هناك هوة عمقها عشرة أقدام. وتسلق بعض رجال المليشيا وجنود من الحرس الجمهوري فوقها وهم يحملون قاذفات صواريخ محمولة على الكتف وبنادق ويرددون هتافات مؤيدة لصدام.

لكن حينما بدأت الطائرات الأميركية بالتحليق على ارتفاع منخفض ركض الجميع وبضمنهم الصحافيون والمرافقون الرسميون لهم والجنود للعثور على ملاذ تاركين صحافيا واحدا يقف فوق الدبابة.

وتكرر مشهد مماثل آخر في مكتب الصليب الأحمر، فبعد انتظار بعض الأشخاص لمدة خمس ساعات للتمكن من استخدام الهاتف الوحيد المربوط بالأقمار الصناعية راح صوت القصف يقترب من المركز مما دفع الناس للإسراع في التحرك بحثا عن ملجأ تحت بوابة البناية الكونكريتية بينما راح آخرون يتقدمون إلى الأمام طالبين أقلاما كي يملأوا استمارات طلب قصيرة.

وقال سعد، 34 سنة، والذي كان واقفا عند الباب: «ليس هناك أي مكان آخر للمهاتفة. هذا كل ما في الأمر». من جانب آخر انتظر المهندس الكهربائي حازم دوره. حينما بدأت الحرب ظل يتحدث مع أخيه مرة أو مرتين كل يوم وآخر مرة تحدث معه كانت قبل ثمانية أيام. وقال إنه قُطع حتى عن أصدقائه في بغداد، وهو مثل غيره يحاول أن يتعرف على الحقيقة من خلال تمحيص الشائعات. وحسبما قال فإن صديقين له في الدورة هما علي وفارس عبد الرازق قد جرحا نتيجة للقصف. لكنه لا يستطيع التوثق من صحة ذلك. وأضاف حازم: «أنت مقطوع عن الآخرين الذين حولك. إنه ليس من السهل التمكن من الاتصال بالآخرين».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»