البصرة... مهد النحو والفكر والشعر

بناها عتبة بن غزوان وشهدت موقعة الجمل وثورة الزنج وخرج منها سيبويه

TT

عززت القوات البريطانية وجودها في البصرة امس في اليوم التاسع عشر على بدء الحرب. والبصرة التي ارتبط اسمها بالحصى لها تاريخ عريق.

فلو عدت حواضر الاسلام لكان للبصرة مكان مقدم. فقد لعبت منذ مصّرها ـ او بناها ـ الصحابي عتبة بن غزوان دوراً عظيماً في الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية للعالم الاسلامي واستقبلت القرن الفائت ميناء للعراق وحاضرة لجنوبه، ومركزاً من مراكز ثروته النفطية والزراعية.

ومع ان البصرة هي اول مدينة مصّرها المسلمون في العراق في سنة 14هـ/ 635م ـ قبل الكوفة بستة أشهر ـ كما تشير المراجع التاريخية، فإنها تعد نسبياً حديثة العهد عند تذكر انها تقع في قلب منطقة جنوب بلاد ما بين النهرين حيث ولدت الحضارة الانسانية، وشيّدت اوائل حواضر البشرية كأورو واوروك ولغش وأكد وغيرها.

البقعة التي قامت فوقها البصرة عمرت في العهد الساساني بين 226 و636م. وفي تلك الحقبة أسس الساسانيون الفرس إمارة اسمها ميشان (ميسان) بين نهري دجلة (فعلياً شط العرب) وكارون اشتهرت من مدنها عاصمتها ميشان، والأبلّة التي عرفت بـ«ثغر الهند» على اعتبار انها باب الخروج الى الهند وفارس من ارض الجزيرة العربية.

وحسب عبد الرزاق الحسني (في كتابه «العراق قديماً وحديثاً»)، عند الفتح الاسلامي أمر الخليفة ابو بكر الصدّيق (رضي الله عنه) خالد بن الوليد بالتوجه نحو العراق قاصداً الأبلّة، وسار خالد بجيشه عام 12هـ/ 633م ومعه من القادة المثنى بن حارثة وعدي بن حاتم، واخذ هناك يناوش الفرس ويضايقهم ويغنم اموالهم، حتى وفاة أبي بكر. فلما صارت الخلافة الى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بلغه نجاح الفتوحات فجعل سعد بن ابي وقاص قائداً عاماً على الجيش الاسلامي في العراق. وقد بعث سعد على الاثر عتبة بن غزوان المازني الى جهة موضع البصرة، فسار عتبة فنزل حيال «الجسر الصغير». ولما بلغ القائد الفارسي نزوله توجه لقتاله، فوقعت معركة انتصر فيها المسلمون، الذين استولوا على عدد من الحصون والمسالح بينها وهشتاباذ اردشير، التي هدمها المسلمون وسموها «الخريبة» ـ تصغير «خربة».

الا ان اهل الأبلّة نهضوا لمقاومة عتبة، فتوجه لقتالهم وجعل قوة عليها قطبة بن قتادة السدوسي وقسامة بن زهير المازني في مؤخرة الجيش لحمايته ومنع انهزام من ينهزم منه. وانتصر عتبة عليهم ودخل مدينتهم عام 14هـ/ 635م. ثم كتب عتبة الى عمر يعلمه بما حدث وبحاجة المسلمين الى «منزل يشتون به اذا شتوا ويسكنون به اذا انصرفوا عن غزوهم فكتب اليه ان اجمع اصحابك في موضع واحد، وليكن قريباً من الماء والمرعى، واكتب لي بصفته. فكتب إليه: إني وجدت أرضاً كثيرة القصبة (وقيل القضة اي الحصى الصغيرة) في طرف البر الى الريف ودونها مناقع ماء فيها قصباء. فلما قرأ (اي عمر) الكتاب قال هذه أرض نضرة قريبة من المشارب والمراعي والمحتطب، وكتب إليه ان أنزلها الناس فأنزلهم إياها، فبنوا مساكن بالقصب، وبنى عتبة مسجداً من قصب وذلك في سنة اربع عشرة». (كما ورد في «فتوح البلدان» للبلاذري).

* اسم البصرة

* ويبدو ان اسم البصرة مرتبط بالحصى، إذ يشير ياقوت في «معجم البلدان»: «قال ابن الانباري البصرة في كلام العرب الأرض الغليظة وقال قطرب البصرة الأرض الغليظة التي فيها حجارة تقلع وتقطع حوافر الدواب... وقال غيره البصرة حجارة رخوة فيها بياض وقال ابن الاعرابي البصرة حجارة صلاب، قال وانما سميت بصرةً لغلظها وشدتها.... وذكر الشرقي بن القطامي ان المسلمين حين وافوا مكان البصرة للنزول بها نظروا اليها من بعيد وأبصروا الحصا (كذا) عليها فقالوا هذه أرض بصرة يعنون حصبة فسميت بذلك.... وذكر احمد بن محمد الهمداني حكاية عن محمد بن شرحبيل بن حسنة انه قال: انما سميت البصرة لأن فيها حجارة سوداء صلبة».

بعدها تتابع تشييد الدور والمساكن التي كان معظمها في البداية خصاصاً واكواخاً قصبية في وسطها رحبة او ساحة جعلت سوقاً للتجارة. وبعد وفاة عتبة عام 14هـ خلفه المغيرة بن شعبة في الامارة على البصرة ولما عزل تولى الامارة ابو موسى الاشعري الذي وقع في عهده حريق كبير اتى على الدور فاستأذن الخليفة في تشييد دور من الطين، فأذن له في كتاب قال فيه :«افعلوا ولا يزيدن احدكم على ثلاثة ابيات ولا تطاولوا في البناء والزموا السنة تلزمكم الدولة» (ابن الاثير في «الكامل في التاريخ»). وهكذا بنيت فيها الدور والمساكن الطينية وشقت الشوارع وجعلت المدينة خططاً لكل قبيلة خط. وشيد ابو موسى المسجد ودار الامارة.

* موقعة الجمل

* من أشهر الاحداث التاريخية التي مرت على البصرة موقعة الجمل عام 36هـ/ 656م، التي انتهت بانتصار جيش الخليفة الامام علي بن ابي طالب (رضي الله عنه) على مناوئيه وعلى رأسهم السيدة عائشة بنت ابي بكر زوجة الرسول (صلّى الله عليه وسلم) وحليفاها الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله (رضي الله عنهما)، وفيها وبعيدها قتل طلحة والزبير ودفنا في محيط البصرة، وما زالت محلة الزبير حيث مرقد ابن عمة رسول الله معروفة بهذا الاسم ليومنا هذا.

بعدها عاشت البصرة عصراً ذهبياً في عهد معاوية بن ابي سفيان، مؤسس الدولة الاموية، تحت ولاية زياد بن ابيه الذي حسن المسجد وزاد فيه زيادات كبيرة فصار من أحسن المساجد، واضحت المدينة مقر إمارة العراق. ثم نمت البصرة نمواً أعظم في العصر العباسي واصبحت ميناء تجارياً عامراً تصل سواد العراق وبلاد العرب بأرض الهند والصين، وازدهرت فيها التجارة فصارت فيها القصور والدور الفخمة والاسواق العامرة المزدهرة، صارت لها شهرة عظيمة في مجالات الادب والفقه والفكر والنحو، إذ اشتهرت فيها «مدرسة البصرة» في النحو وعلى رأسها سيبويه (توفي عام 796م) في وجه «مدرسة الكوفة» وعلى رأسها الكسائي. وقدّر تعداد سكانها بمليون نسمة، فلقبت «قبة الاسلام» و«خزانة العرب».

* ثورة الزنج

* الا ان البصرة تعرضت عام 255هـ/ 868م لخراب عظيم عندما تفجرت فيها ثورة الزنج في ايام الخليفة المهتدي بالله العباسي. وطالت سيطرة قائد الثورة علي بن محمد بن عبد الرحيم الورزنيني سبع سنوات، امتدت خلالها سطوته الى الاحواز وواسط، وجعل لنفسه عاصمة قرب البصرة اسماها «المختارة»، قبل ان يجرد عليه الخليفة المعتمد على الله جيشاً كبيراً بقيادة اخيه الموفق بالله. فتمكن الموفق من إلحاق الهزيمة به عام 261هـ/ 883م وقتله وقطع رأسه وبعث بها الى بغداد، واستعاد المدينة بعدما خربت، ومنذ ذلك الحين راجت عبارة «بعد خراب البصرة» (راجع الطبري في كتاب «تاريخ الرسل والملوك» وابن خلدون في «كتاب العبر»).

غير ان اعمال اعادة الاعمار استؤنفت بعد إخماد ثورة الزنج، بنى الموفق مدينة دعيت بـ«الموفقية» ثم عرفت بـ«البصيرة» (صيغة تصغير للبصرة) وقد نمت هذه المدينة وازدهرت وتوسعت وأقبل على السكنى فيها فصارت نواة المدينة المعمرة بعد خرابها.

* كما رآها الرحالة والزوار

* كذلك تعرضت البصرة ايضاً لمعاناة وخسائر على ايدي القرامطة، قبل ان تدخل في حكم بني بويه. وقد وصفها ناصر خسرو (عاش بين 1003و1088م) الشاعر والاديب والداعية الاسماعيلي والرحالة الشهير في «سفرنامه» عندما مر بها عام 443هـ/ 1050م فقال «للبصرة سور عظيم يحيط بها ما عدا الجزء المطل على النهر، وهذا النهر هو شط العرب ويلتقي دجلة والفرات عند حدود مدينة البصرة ـ يلتقيان في الواقع عند القرنة الى الشمال من البصرة، وتلتقي بهما ايضاً قناة الحويزة فيسمى النهر شط العرب. وتتفرع من شط العرب هذا قناتان كبيرتان بين منبعهما مسافة فرسخ ومن هاتين القناتين شقت ترع كثيرة مدت في كل الاطراف، وغرست اشجار النخيل والحدائق على شواطئها، والجنوب الغربي للبصرة صحراء ليس بها عمران ولا ماء ولا شجر مطلقاً، وكان معظم البصرة خراباً ونحن هناك، والجهات العامرة متباعدة جداً من واحدة لأخرى نصف فرسخ من الخراب ولكن بابها وسورها محكمان وقويان وبها خلق كثير ودخل سلطانها كبير...».

وعام 725هـ/ 1324م زارها الرحالة الشهير ابن بطوطة وقال عنها «ومدينة البصرة احدى امهات العراق الشهيرة الذكر في الآفاق، الفسيحة الارجاء، المونقة الافناء ذات البساتين الكثيرة والفواكه الأثيرة، توفر قسمها من النضارة والخصب لما كانت مجمع البحرين: الاجاج والعذب وليس في الدنيا أكثر نخلاً منها فيباع التمر في سوقها بحساب اربعة عشر رطلاً عراقية بدرهم ودرهمهم ثلث النقرة... ويصنع بها من التمر عسل يسمى السيلان هو طيب كأنه الجلاب. والبصرة ثلاث محلات احداها محلة هذيل وكبيرها الشيخ الفاضل علاء الدين بن الاثير من الكرماء الفضلاء، أضافني وبعث الي بثياب ودراهم، والمحلة الثانية محلة بني حرام كبيرها السيد الشريف مجد الدين موسى الحسني ذو مكارم وفواضل أضافني وبعث إلي التمر والسيلان والدراهم، والمحلة الثالثة محلة العجم كبيرها جمال الدين ابن اللوكي. وأهل البصرة لهم مكارم اخلاق وايناس للغريب وقيام بحقه فلا يستوحش بينهم غريب. وهم يصلّون الجمعة في مسجد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه... وهذا المسجد من أحسن المساجد وصحنه متناهي الانفساح مفروش بالحصباء الحمراء التي يؤتى بها من وادي السباع..».

ومما قيل في نخل البصرة وتمرها قول الاصمعي: سمعت الرشيد يقول نظرنا فإذا كل ذهب وفضة على وجه الارض لا يبلغ ثمن نخل البصرة. وقدّر الحسني ان في لواء (محافظة) البصرة وحده 11 مليون نخلة من أصل 23 مليون نخلة في عموم العراق.

* ما بعد العصر العباسي

* بعد انهيار الدولة العباسية عاشت البصرة وغيرها من مدن العراق تقلبات وفتنا ومحنا مع تصارع الدول، ومنها ما لحق بها من صراع الصفويين والعثمانيين، ومتاعب ابان فترات الولاة العثمانيين. ومع اقتراب العهد العثماني من أفوله كانت البصرة مدخل القوات البريطانية الى العراق، إذ دخلتها وهي زاحفة شمالاً في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1914، وصارت لفترة مركز تموين القوات البريطانية، وازدهرت فيها التجارة وعمرت مرافقها بسرعة وجذبت اليها من بغداد، حيث ظلت القوات العثمانية لبعض الوقت، العديد من الشباب الطموح الذي نشط في حركة البناء والعمران. وعام 1921 تسلمت البصرة الحكومة العراقية، فواصلت فيها مشاريع الاعمار. واستفادت المدينة كثيراً في العهد الاستقلالي، الملكي ثم الجمهوري وتجاوزت مع ضاحية العشّار، من حيث التعداد السكاني منافستها الشمالية الموصل، فأضحت ثاني كبرى مدن العراق من حيث عدد السكان. وانتعشت الثقافة فيها فأسست فيها جامعة، وتعززت ثروتها الزراعية ولا سيما التمور، وكذلك ثروتها السمكية الضخمة، كما صارت مركزاً نفطياً يقع بالقرب منها حقل الرميلة. اما على صعيد المواصلات فقد شقت فيها الطرق وسكة حديدية تربطها بباقي انحاء العراق، ووسع مرفأها وانشئ فيها مطار دولي، علماً بأنه تقع على مقربة منها قاعدة الشعيبة الجوية، احدى اهم قواعد الطيران الحربي العراقي. الا ان كل هذا النمو المطرد توقف وانكفأ مع تفجر حرب الخليج الاولى بين العراق وايران ، وفيها لحقت بالمدينة مجدداً أضرار كبيرة، حدت من نموها. اما عن كبار مشاهير هذه الحاضرة العربية والاسلامية العظيمة، فبينهم من العلماء والفقهاء والشعراء واللغويين والنحاة، كل من: ابو الاسود الدؤلي والفرزدق وبشار بن برد والحسن البصري وسيبويه (ابو بشر عمرو بن عثمان) والخليل بن احمد الفراهيدي والاصمعي وابن سيرين. كما اشتهر منها في العهود المتأخرة السيد طالب باشا النقيب، المطالب بعرش العراق، وعبد اللطيف المنديل وصالح باش أعيان، ومن الشعراء والكتاب الشاعر الراحل الكبير بدر شاكر السياب ـ من بلدة جيكور القريبة من المدينة ـ وسعدي يوسف ومحمد خضير ومحمود البريكان.

* معلومات سريعة عن البصرة ـ يقدر عدد سكانها بحوالي 630 الف نسمة.

ـ تبلغ مساحتها 19070مترا مربعا.

ـ مناخها دافئ شتاء وربيعها وخريفها معتدلا المناخ بينما صيفها حار ورطب.

ـ انهارها يبلغ عددها 635 نهراً متصلة بشط العرب، اهمها نهر الخندق ونهر العشّار ونهر الخورة ونهر الرباط.

ـ أهم معالمها الدينية: المسجد الجامع ومرقد الزبير بن العوام رضي الله عنه ومرقد طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ومرقد الحسن البصري.

ـ اهم معالمها الاخرى: شجرة آدم، على بعد 74 كلم عند مدينة القرنة التابعة لمحافظة البصرة، وجامعة البصرة ومكابس التمور.