السلفي الديمقراطي

أسئلة الديمقراطية وأحلام الخلافة.. كيف يفكر السروريون في الخليج؟

TT

حين جرت أول انتخابات للمجالس البلدية في السعودية في 10 فبراير (شباط) 2005، كتب الدكتور إبراهيم الناصر، وهو من أبرز رموز السلفية الحركية في السعودية (يعرّفها مخالفوها بـ«السرورية») وتشكل كتاباته رؤية وتصورا بين كوادر التيار، في موقع «الإسلام اليوم» مقالا نشر في 20 مارس (آذار) 2005، بعنوان «مذاهب الناس في الانتخابات»، قدم فيه التصور الفكري والحركي للتعامل مع هذه «النازلة» وهي الانتخابات البلدية، والموقف الشرعي والسياسي «الصحيح» في التعاطي معها.

في البدء يؤكد الناصر أن الديمقراطية في الأصل انبثقت من الأسس الفكرية التي قامت عليها الحضارة الغربية الحديثة، التي تقوم على مبدأ العلمانية واستبعاد الدين، فهي في أصلها «مخالفة ومناقضة لشريعة الإسلام، وتتنافى مع إقامة الدين وتحقيق التوحيد».

بعد تأكيده على مناقضة أصل الديمقراطية لأصل الإسلام (الموقف العقائدي)، قدم الناصر «الموقف السياسي» الذي يرجحه للتعامل مع النظم الديمقراطية القائمة في العالم الإسلامي، وهو: «رفض الديمقراطية فلسفة وقيما وآلية وقبولها ممارسة - بضوابط - باعتبار أنها حاجة عامة تنزل منزلة الضرورة، فأصحاب هذا الموقف يمارسون هذه الآلية ليس باعتبار جوازها، وإنما باعتبار الضرر الذي يحصل بالإعراض عنها».

وهكذا حافظ الناصر على موقفه الرافض المكفر للديمقراطية، وفي الوقت نفسه لم يكن هذا الموقف معوقا ومعطلا للمزاحمة على السلطة، والمشاركة في المجالس النيابية والبرلمانية.

كشفت التطورات السياسية في دول «الربيع العربي» ونتائج انتخاباتها عن تقارب أو تحالف واضح بين فئات وجماعات الإسلام السياسي، «الإخوان المسلمين» بفئاتهم، والسلفيين الحركيين بأطيافهم، ففرقاء الأمس المختلفون فكريا أصبحوا اليوم في خندق واحد من أجل حماية مشروع «حكم الإسلاميين» وإنجاحه في دول «الربيع العربي» الذي تقوده جماعة الإخوان المسلمين، ويحظى بمباركة ودعم من رموز السرورية.

يجدر التأكيد هنا أن السلفية الحركية (تسمى السرورية نسبة إلى أشهر رموزها محمد سرور زين العابدين، سوري الجنسية قدم للتدريس في السعودية منتصف الستينات) تختلف عن السلفية التقليدية بطموحها السياسي، حيث تُوصف بأنها تجمع بين المنهج السلفي في الفقه والعقيدة، والإطار الإخواني في التنظيم والحركة، وبالمجمل يشكل ابن تيمية وسيد قطب الرؤية الشرعية والفكرية لأبناء الحركة. بينما تتمسك السلفية التقليدية بالمنهج السلفي التاريخي في السمع والطاعة لـ«ولي الأمر»، وتحريم الخروج عليه، ومناصحته إذا أخطأ. تنفر من السياسة وتنشط في التعليم الديني، والتوجيه والإفتاء والإرشاد والقضاء.

جماعة الإخوان المسلمين كانت قد حسمت موقفها بشكل مبكر من الديمقراطية والمشاركة في المجالس النيابية، وتحولت من التنظير إلى الممارسة، في حين أن السلفية الحركية التي تفاعلت واحتفلت كثيرا بأحداث «الربيع العربي» وجدت نفسها أمام مأزق فكري، وقضايا عاجلة، وأسئلة ملحة تستلزم تدخلا سريعا، فالموافقة والتأييد بشكل مباشر للانتخابات والديمقراطية سيعنيان هدما لتراث فكري متراكم وطويل يقوم على رفض ونبذ النظم السياسية الغربية الحديثة، كما أن الاطراد مع هذا التراث الفكري والقول بالرفض والاعتراض سيكون عبارة عن هدية مجانية للخصوم من «الليبراليين والعلمانيين»، وحجر عثرة في طريق «إخواننا الإسلاميين».

شكل الموقف السروري الجديد من الدستور المصري نموذجا تفسيريا لفهم المشكلة وحلها، كان نقطة التقاء بين الإمداد السلفي الحركي والمشروع الإخواني، فعلى الرغم من أن المشهد الأبرز على الساحة الإعلامية يكشف لنا عن أن الدستور المصري قد تسبب في حالة انقسام في الحالة المصرية بين الإسلاميين (إخوانا وسلفيين) الداعمين والمؤيدين للدستور، وبين الليبراليين والقوى المدنية الأخرى الرافضين لهذا الدستور باعتباره يؤسس لدولة دينية شمولية استبدادية، فإن هناك اختلافا آخر وارتباكا بدا واضحا بين أوساط السلفيين، حيث رأى بعضهم في الدستور المصري الجديد «ضلالات» و«شبهات»، و«قوادح تناقض الإسلام».

مثال ذلك ما أكده الشيخ السلفي المصري مصطفى العدوي لوسائل إعلام مصرية بحرمة التصويت بنعم على الدستور، قائلا «إن من يصوت على الدستور بالموافقة فهو (آثم)، لوجود مخالفات عظيمة جدا في ثناياه لكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام».

وأيضا يتساءل الدكتور إبراهيم طلبة حسين، أكاديمي مصري مقيم في السعودية، مستغربا في مقال له «لا أدري لماذا هذه الضجة الكبيرة حول إسلامية الدستور، إنني أجد نفسي أميل إلى رأي بعض المشايخ الفضلاء الذين دعوا إلى التصويت بـ(لا) على الدستور لأن فيه ما يخالف الشريعة».

والمفارقة هنا أن الدعوات الرافضة للدستور اجتمعت بين طرف يرفضه باعتباره دستورا دينيا يؤسس لاستبداد الإسلاميين، وطرف يرفضه باعتباره دستورا فاسدا مخالفا لأحكام الشريعة الإسلامية.

بناء على ذلك، ولأجل توحيد الصف السلفي، و«تفويت الفرصة» على الليبراليين، كتب الشيخ ناصر العمر - أحد أبرز رموز السرورية في السعودية - عبر موقعه «المسلم» مقالا في اليوم المقرر للتصويت على الدستور المصري 15 ديسمبر (كانون الأول) 2012، وضح فيه الموقف السلفي الحركي تجاه التصويت على الدستور المصري، والموقف من الديمقراطية، والمشاركة في المجالس النيابية.

يقرر العمر أولا أن «الديمقراطية الغربية الليبرالية مناقضة لشريعة الإسلام، لكن البعض يتصور الحال في مصر، وكأن تطبيق الشريعة خيار متيسر فقط يحتاج من القوم دعوة الناس إليه، غافلا عن الكيد السياسي والإعلامي الذي يحرك دهماء الناس نحو قصر الرئاسة، وما يؤازره من مكر إقليمي ودولي».

ويؤكد العمر أن «الكفر لا يجوز الإقدام عليه إلا في حال الإكراه، لكن الفقيه هو الذي يفرق بين المفسدتين بالدوس على أدناهما، مدركا أن الكف (عن التصويت) سيكون أشد أثرا في نصرة الباطل».

ويصل العمر لتوضيح الموقف السروري العام من الانتخابات قائلا «يمكن الأخذ بالآليات الانتخابية في ظروف معينة، والعمل على أسلمتها بفرض قيود لا تتعداها؛ كأن تستبعد في الاختيار النساء من مناصب معينة مثلا، أو تستبعد مشاركة الأحزاب الكافرة وكذا الفاجرة، التي تدعو إلى الرذائل مثلا، فالمشاركة في العملية الانتخابية لأجل تخفيف منكرات النظام، ومعارضة كلِّ تشريع يخالف حكم الله، والدعوة إلى إعادة صياغة الدستور صياغة إسلامية، جائزة، وليست من الرضا بالدستور المذكور في شيء».

هذا المقال جاء تعليقا على فتوى سعودية شهيرة أكدت أن الدستور المصري يتضمن مواد كفرية، ومع ذلك فالتصويت عليه «إن لم يكن واجبا فهو جائز، وليس في ذلك إقرار بالكفر ولا رضا به، فما هو إلا دفع شر الشرين واحتمال أخف الضررين. وليس أمام المستفتين من المسلمين إلا هذا أو ما هو أسوأ منه، وليس من الحكمة عقلا ولا شرعا اعتزال الأمر بما يتيح الفرصة لأهل الباطل من الكفار والمنافقين من تحقيق مرادهم»، بحسب نص الفتوى.

وعلى الرغم من أن الفتوى تتناول شأنا مصريا خاصا، فإنها تشكل نموذجا يمكننا أن نفهم من خلاله التصور السياسي والتنظير الشرعي لدى التيار السروري في تعامله مع تطورات «الربيع العربي»، وتعاطيه مع النظم السياسية الحديثة، كالديمقراطية والمشاركة في المجالس النيابية ومؤسسات المجتمع المدني.

أثارت الفتوى ردود فعل واسعة ما بين مؤيد ومعارض داخل الأوساط السلفية، كان التساؤل الأكثر جدلا كيف يُقر كفر الدستور المصري، ثم يقال بوجوب أو جواز التصويت له؟.. أو بعبارة أخرى هل يجوز الوقوع في الكفر لأجل المصلحة؟

يجيب عن مثل هذه الأسئلة الشيخ محمد المنجد، وهو داعية وخطيب سوري مقيم في السعودية، الذي كتب عبر حسابه الشخصي في «تويتر»: «الدستور الحالي يتضمن مواد كفرية لا يجوز إقرارها ولا الرضا بها، وتجب إزالتها عند القدرة»، لأن «إقرار هذا الدستور سيكون دعما لبقاء أفضل الرؤساء المتاحين حاليا والبديل عند سقوطه سيكون علمانيا معاديا للدين أو جاهلا بأمر الله أو فاقدا للأمانة» حسب رأيه. ويضيف «التصويت لهذا الدستور بالموافقة سيكون طريقا إلى دستور خير منه يأتي لاحقا، يكون فيه الاعتماد التام لشريعة الإسلام».

وفي السياق ذاته، يرى الشيخ بندر الشويقي، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وفقا لما نقله عنه موقع «شبكة طريق السنة»، أن الجميع يتفق على أن هذا الدستور «يتضمن مواد مناقضة للشرع». لكنه يستدرك «فكون الدستور يتضمن مواد كفرية لا يعني أن التصويت عليه يكون كفرا بإطلاق. وبيان ذلك يكون بالنظر في مأخذ التكفير في الاحتكام لغير شرع الله، فالذي يكفر بالحكم بغير شرع الله، إنما هو من يدع شرع الله مختارا غيره. أما العاجز عن التحاكم لشرع الله، فالنصوص هنا لا تتناوله».

فالتصويت بالموافقة، بحسب الشويقي، هو حيلة العاجز أو المضطر لذلك، لأن «التصويت بصورته الحالية اختيار بين سيئ وأسوأ منه. فمن اختار السيئ على الأسوأ، لا يقال إنه راض بالسيئ». ويؤكد الشويقي أن «معاني الاضطرار المؤقت لا بد أن تكون حاضرة في الخطاب الإسلامي، حتى لو كان أمد هذا الاضطرار طويلا، ومتى غفل الإسلاميون عن هذا فإن جيلهم القادم سيكون عرضة للذوبان في المفاهيم الليبرالية والقيم العلمانية».

يتضح من خلال الآراء السابقة أن موقف السلفية الحركية تجاه الديمقراطية والنظم السياسية الحديثة متكون من شقين، الأول «عقائدي/ ثابت» يرى أن الديمقراطية منهج غربي كفري يقوم على إعطاء حق التشريع للبشر، ومنح السيادة للشعب، بدلا من أن تكون للشرع، وشق آخر «سياسي/ متغير» براغماتي نفعي يقوم على تقدير المصلحة من عدمها في المشاركة والدخول في اللعبة الديمقراطية «الكفرية» ويتأرجح الحكم بين الجواز والوجوب أو المنع بحسب ظروف الواقع وطبيعة الحاجة والمصلحة.

وبناء على النصوص السابقة يمكننا تتبع التكييف الفقهي لدى السلفية الحركية للحكم بجواز المشاركة في الديمقراطية، وهو حكم يقوم على القواعد الأصولية التالية:

- أن يكون في ذلك دفع لشر الشرين، واحتمال أخف الضررين.

- أن يكون محققا للمصلحة، وسبيلا للتدرج في تطبيق الحكم الإسلامي - أن يكون ذلك مؤقتا، فمتى انتفت الحاجة بطل الجواز.

أبرز مثال على الموقف المصلحي من الديمقراطية ما قاله الشيخ ناصر العمر في مقاله السابق ردا على من يتهم السلفية بأنها انقلبت على موقفها المحرم للديمقراطية والمشاركة الانتخابات: «بعضهم يقول بالأمس تحرمون المشاركة في الانتخابات واليوم تحللونها! وفي الحقيقة هذا سوء تصور، فعلماء الدعوة السلفية من أقدم الناس بيانا لحكم المشاركة، أما عدم مشاركتهم قبل فلأن الأحوال لم تكن مهيأة وكانت المشاركة عبثية، فلا معنى لتبديد الأموال والجهود في غير كبير طائل».

وفي فتوى للشيخ عبد الرحمن المحمود، أستاذ العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، منشورة على موقعه الشخصي في 16 مايو (أيار) 2007، سأله سائل من فرنسا عن حكم الانتخابات والمشاركة في التصويت أو الترشيح، فأجاب «النظام الديمقراطي هو من الأنظمة الوضعية المنافية للإسلام، فالأصل هو المنع من المشاركة لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة، ومنها: الركون إلى الظالمين وحضور مجالسهم واختلاط الحق بالباطل، وعدم ظهور راية أهل الإيمان وتمايزهم عن أهل الكفر والطغيان.. ولكن إن رأى العلماء الراسخون أن المشاركة في هذه المجالس النيابية تقتضيها مصلحة شرعية معتبرة، كرفض الباطل أو التخفيف منه أو إظهار الحق أو بعضه دون الموافقة على إقرار باطل أو رد شيء من الحق، فلا مانع منها حينئذ.. فالحكم يختلف باختلاف الزمان والمكان والاجتهاد».

الأمر نفسه نحاه الشيخ الكويتي حامد العلي، الأمين السابق للحركة السلفية بالكويت، في فتوى منشورة بموقعه الشخصي في ديسمبر 2006، قرر فيها أن «الديمقراطية إن قصد بها معناها الأصلي، وهو منح الشعب حق الحكم المطلق حتى لو خالف أحكام الله، فهي الشرك بعينه، وهي الكفر باسمه ورسمه». لكن في فتوى أخرى نشرت في التاريخ نفسه بعنوان «حكم دخول المجالس النيابية» يقول العلي «حكم دخولها يختلف باختلاف البلاد، وطبيعة تلك المجالس، وحالة الدعوة الإسلامية في تلك البلاد، وأهم الشروط عند القائلين بالجواز أن يكون الداخلون قادرين على إبطال ما يخالف الإسلام من غير إكراه، ولا يكرهون على ما يناقض التوحيد، وأن يكون دخولهم مؤثرا في إزالة المنكر أو تقليله.. وأنه لا يمكن دفع هذا الضرر الأكبر بطرق أخرى تغني عن الدخول، لأن الدخول تصاحبه أمور مخالفة للشرع غالبا، فلا يجوز ما لم يتعين لدفع ضرر أكبر». إذن موقف السلفية الحركية من تكفير الديمقراطية ثابت لم يتغير، ففي حوار مفتوح معه بعنوان «نظرات تفاؤلية في أحداث الربيع العربي» في 2 فبراير 2013 يؤكد الشيخ ناصر العمر، المشرف على موقع «المسلم»، بكل حسم أن الديمقراطية «منهج غربي كفري».

وعلى الرغم من أن الشيخ سفر النحو، أحد أبرز رموز السلفية الحركية في السعودية، في تصريح نقله موقع «المسلم» منتصف ديسمبر 2011، قال في مؤتمر إسلامي في تونس إنه على «الدول العربية التي لم يزرها الربيع العربي بعد أن تأخذ العبرة مما جرى، وأن تتصالح مع شعوبها وتقوم بإصلاحات شاملة وتفتح المجال لقيام أحزاب سياسية ونقابات مهنية وإقامة انتخابات حرة ونزيهة».. فإننا نجد فتوى قديمة منشورة على موقعه الشخصي، بعنوان «معنى الديمقراطية وحكم الإسلام فيها»، حيث يقول إن «الديمقراطية كفر وشرك، لأن الله عز وجل يقول: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)».

تلتقي السلفية الحركية مع السلفية الجهادية في الموقف العقائدي الأول، فكلا التيارين يؤمن بتكفير الديمقراطية ورفضها منهجا وفكرا، لكن تفترق عنهم السلفية الجهادية بأنها تكفر وتحرم المشاركة في المجالس النيابية، أو الدخول في العملية الديمقراطية بأي غرض كان.

يؤكد ذلك ما صرح به القيادي الجهادي المصري محمد الظواهري، شقيق زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، الذي قال في حديث خاص لصحيفة «الشرق الأوسط» في أغسطس (آب) 2012 إن «الديمقراطية كفر ودخول الإسلاميين الانتخابات غير جائز شرعا».

إذن الديمقراطية في نظر السلفية الحركية والجهادية تعبر منهجا غربيا مرفوضا، هذا الحكم بطبيعة الحال سينسحب على القيم والمفاهيم الاقتصادية والقانونية والاجتماعية المرتبطة بها، ويؤكد ذلك الدكتور عبد الرحيم بن صمايل السلمي، عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى، في مقال له بعنوان «الأزمة الواقعية للديمقراطية»: «لقد فتن الناس بالديمقراطية، وبهرتهم شعاراتها، مثل الحرية، والضمانات الإجرائية في الاتهام والمحاكمة، وحقوق الإنسان، وحرية العبادة، والحريات الشخصية، ولهذا اندفعوا نحوها، وأصبحت هي الدين الجديد في العصر الحديث».

فـ«هي بمجموعها تمثل بوابة نحو الفتنة الفكرية التي تعصف بالأمة».. هكذا كتب الدكتور عابد السفياني، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى، في كتاب سماه «موقف أهل السنة والجماعة من المصطلحات الحادثة ودلالاتها»، قال فيه «إن من أخطر هذه المصطلحات الحرية، والانفتاح، والتعايش السلمي، والمشروع النهضوي، والإصلاح».

أما الدكتور عبد العزيز العبد اللطيف، أستاذ العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فيقول في أحد سجالاته الكثيرة المنشورة بموقعه الشخصي: «الألفاظ المتداوَلة - كالإنسانية والمجتمع المدني والحريات وغيرها - لا تنفك عن ملابسات فكرية وعقدية، فلا يمكن تصوّر هذه المصطلحات بعلم وعدل إلا باستصحاب هذه النشأة وتلك الملابسات».

في عددها السابع والستين الصادر في سبتمبر (أيلول) 1993 قدمت مجلة «البيان» التي تصدر من لندن - تعد من أهم الأصوات الإعلامية المعبرة عن التيار السروري - لقرائها كتاب «الإسلاميون وسراب الديمقراطية.. دراسة أصولية لمشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية»، في طبعته الأولى الصادرة في العام نفسه، لمؤلفه عبد الغني الرحال الذي استهل كتابه قائلا «بعد أن غابت شمس الخلافة الإسلامية عام 1924، أضحت الأمة الإسلامية كيتيم بلا والدين، فتشتت أجزاء، وتناثرت أشلاء، وآل حال الأمة الإسلامية إلى تنحية شرع الله، والاحتكام إلى القوانين الوضعية البشرية المستوردة». ويصل المؤلف في دراسته الأصولية إلى نتيجة مفادها «الديمقراطية منهج غربي كفري، والمجالس النيابية تناقض التوحيد».

وفي مقال بعنوان «مناقضة الديمقراطية للإسلام» نشرته مجلة «البيان» أيضا في عددها (301) في أغسطس 2012، يؤكد الدكتور إبراهيم الحقيل أن الديمقراطية «نظام سياسي عَلماني يُعنى بأمور الدنيا ولا يلتفت للآخرة لا من قريب ولا من بعيد، وليست له علاقة بالدين مطلقا».

في مقابل النظام الديمقراطي يقول الحقيل مستشهدا بنص لابن عاشور يقرر فيه أن الآيات تدل على «حاجة البشر لإقامة خليفة؛ لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم، إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر دون ذلك، وقد بعث الله الرسل، وبيَّن الشرائع.. فالإسلام قرن بين الرسالة والخلافة، ولهذا أجمع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد وفاة النبي (عليه الصلاة والسلام) على إقامة الخلافة؛ لحفظ نظام الأمة، وتنفيذ الشريعة». وفي الكلمة الافتتاحية لعدد مجلة «البيان» (300) الصادر في يوليو (تموز) 2012 التي جاءت بعنوان «الإسلاميون بين أنغام الديمقراطية وألغامها»، تدعو المجلة بعد أن قررت اقتران الديمقراطية بالعلمانية المناهضة للدين، وفشلها في العالم العربي والإسلامي، إلى «صياغة نظام سياسي إسلامي بديل يرعى العقيدة ويعلي من شأن الشريعة، لنتحول شيئا فشيئا من الشرعية العلمانية، إلى الشرعية الإسلامية».

أما الدكتور الكويتي حاكم المطيري، الأمين السابق للحركة السلفية، والذي شارك في تأسيس حزب الأمة كأول حزب في الكويت التي تحظر تأسيس الأحزاب السياسية، فيقول في حوار معه بموقع «لقاء العرب»، أجراه الدكتور ساجد العبدلي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2001 إن «الديمقراطية بمعناها الآيديولوجي الذي يجعل للشعب حق السيادة المطلقة في تشريع ما يشاء تحليلا وتحريما، كفر بلا خلاف بين المسلمين».

وفي كتابه الصادر في منتصف 2012 بعنوان «السنن النبوية في الأحكام السياسية - والسنن الواردة في السياسة الراشدة»، يضع المطيري «الخلافة الإسلامية» نموذجا أكمل للحكم السياسي، مقررا أن «هذا النموذج محل إجماع الفقهاء والمصلحين على اختلاف عصورهم، فلا خلاف بين طوائف الأمة ومذاهبها وأئمتها في كونها النموذج الأكمل الذي يجب الاقتداء به، بخلاف المحدثات السياسية القديمة أو الجديدة سواء كانت بثوب إسلامي كولاية الفقيه، أو مستوردة كالديمقراطية والليبرالية والاشتراكية». ولهذا فإنه وحسب المطيري «يجب معرفة منهاج النبوة والخلافة الراشدة التي يجب على الأمة إقامتها».

يجدر بالذكر هنا أن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في الجزائر تعتبر أحد أبرز النماذج السلفية التاريخية التي جمعت بين تكفير الديمقراطية وممارستها، حيث شاركت بكل قوتها في الانتخابات التشريعية في الجزائر عام 1991، وفي الوقت نفسه كان رجلها الثاني علي بلحاج ينشر سلسلة مقالات في صحيفة الجبهة بعنوان «الدمغة القوية في كفر الملة الديمقراطية»، وفقا لما أورده الكاتب المصري جمال سلطان في مقال له بمجلة «المجلة» (العدد 1309)، كما خرج بلحاج في خطاب علني فصرح «لنكن واضحين.. نحن لسنا ديمقراطيين، أنا كفرت بالديمقراطية هذه»، وفي خطبة أخرى يقول «لا نعترف بالأغلبية، من يصل ويحكم شرع الله فهو صاحبنا، ومن يصل وينحي شرع الله فإننا نحاربه حتى يهلك أحد الطرفين» (الخطب منشورة على موقع «يوتيوب»)، وإلى بلحاج ينسب القول إن الحكم في الجزائر سيصبح إسلاميا، وإن انتخابات 1991 سوف تكون الأخيرة بمجرد فوز الجبهة فيها. في محاولة منه للإجابة عن الاعتراضات والتناقضات التي تفرضها فكرة تكفير الديمقراطية وممارستها في الوقت نفسه، كتب الدكتور ناصر العمر في مجلة «البيان» (العدد 302، أغسطس 2012) مقالا بعنوان «إشكالية التلازم بين الرضا بالديمقراطية والتعامل معها»، وفيه يقرر بأن إجازة الدخول في الممارسة الديمقراطية والترشح في المجالس النيابية هي مسايرة لظروف الواقع وشروطه فإنه «على المسلم أن يزيل المنكر ما قدر، فإن لم يستطع إزالة المنكر لكن أمكنه التخفيف منه فذلك واجب عليه، فمن أصول الشريعة تقليل المفاسد إن لم تمكن إزالتها»، ويؤكد العمر أنه «لو أتيحت الفرصة للإسلاميين فما وسعهم إلا إقامة خلافة راشدة على منهاج النبوة».

ويبرر العمر موقفه من إجازة المشاركة في العملية الديمقراطية، بأن ذلك مطلب من أجل قطع الطريق على الليبراليين والعلمانيين «فنحن أمام واقع مفروض إما المشاركة في العملية الديمقراطية على قواعدها الغربية، وإما أن يستبد بأمر الحكم الليبراليون والعلمانيون والملحدون». وهنا يؤكد العمر أن المشاركة في العملية الديمقراطية لا يلزم منه الرضا بها أو تجويز نظامها وقيمها «فقد يدخل العمل الديمقراطي وبرلماناته المُقِرُّ لمبادئه، وقد يدخل فيه من يريد إصلاحه، وللتقريب يمكن أن ننظِّر ذلك بحانة يباع فيها الخمر، قد يدخلها من رضي بها، وجوز وجودها، ويريد أن يخالف الشرع بداخلها، وقد يدخلها في المقابل من يريد إراقة ما فيها أو الإنكار والمعارضة لمخالفة الشريعة أو الإصلاح بالدعوة لاستبدال طيبات أحلها الله بما فيها».ويختصر العمر المسألة ويحسمها بوضوح، فيؤكد أن دخول السلفيين في الانتخابات إنما كان «تعاملا مع واقع بغرض إصلاحه، ومتى ما تهيأ لهم إقامة نظام حكم إسلامي أو خلافة راشدة على منهاج النبوة، فسينبذون النظم الغربية، وليسمه من يسمه انقلابا على الديمقراطية».

* ينشر بالتزامن مع مجلة «المجلة»