هذه الأسباب قد تعني أن لا انتخابات برلمانية ممكنة في لبنان

وسط أفقين مسدودين أمني وسياسي

TT

بنهاية الأسبوع المنصرم وبالتحديد ليل الثاني والعشرين من مارس (آذار) أعلن رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي عن استقالة حكومته بعد مرور 19 شهرا على تشكيلها، وذلك في خضم مناخ سياسي - أهلي - طائفي ضاغط أوصل البلاد في الآونة الأخيرة إلى حافة الانفجار على جميع الصعد، بدءا من الشارع ووصولا إلى الاقتصاد.

وواضح أن الاستقالة هذه، التي أتت قبل الموعد النظري لإجراء الانتخابات النيابية بثلاثة أشهر، جاءت في أجواء من الانقسام الحاد العمودي والأفقي بين القوى السياسية والطائفية في لبنان حول قانون انتخابي جديد تجري بموجبه الانتخابات اللبنانية. ولقد حظيت الانتخابات النيابية المقبلة بأهمية قصوى باعتبارها ستأتي بمجلس نيابي جديد، ستنبثق عنه حكومة جديدة، كما أنه سينتخب رئيسا جديدا للجمهورية خلفا للرئيس الحالي العماد ميشال سليمان الذي تنتهي ولايته في شهر مايو (أيار) 2014.

كل هذا عنى أن الانتخابات النيابية المقبلة من شأنها أن تحدد ملامح المرحلة المقبلة في لبنان، فضلا عن أنها تحين في زمن الاشتباك الإقليمي الكبير الإيراني - العربي، الذي صارت سوريا ساحته الأولى في العامين الماضيين.

من الناحية النظرية يجب أن تكون الانتخابات النيابية في لبنان يوم 9 يونيو (حزيران) المقبل، لكون ولاية مجلس النواب الحالي تنتهي في العشرين منه، ولكن دون حصول الانتخابات عقبات كبيرة.. لا بل استحالات هائلة.

أولى - وأبرز - هذه العقبات أو الاستحالات الصراع حول قانون انتخابي جديد، وثانيها تأثيرات الأزمة السورية المباشرة على الوضعين الأمني والسياسي في لبنان مع بلوغ حال التوتر والاستقطاب المذهبيين مستويات خطرة تنذر بما يسميه البعض في لبنان بـ«شر مستطير». والحال أن غالبية نيابية عابرة للانقسام العمودي بين فريقي «8 آذار» و«14 آذار» تشكلت لترفض العودة إلى قانون الانتخاب المعمول به أي «قانون عام 1960» معدلا، الذي كان جرى الاتفاق حوله خلال «مؤتمر الدوحة» في مايو 2008 إثر أحداث 7 و11 مايو التي شهدت إقدام حزب الله على شن عملية عسكرية أمنية ضد بيروت ومنطقة الجبل الدرزي أفضت إلى أزمة سياسية وأمنية كبيرة وسقط خلالها عشرات الضحايا.

كيف وصل لبنان إلى أفق مسدود حول الانتخابات، أضيف إليه أفق مسدود على مستوى السلطة التنفيذية مع استقالة حكومة نجيب ميقاتي؟

للإجابة عن السؤال لا بد من عودة إلى الوراء: لقد سقطت - بل أسقطت - حكومة الرئيس سعد الحريري في الثاني عشر من يناير (كانون الثاني) 2011 في الوقت الذي كان يهم فيه بالدخول إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض في واشنطن لمقابلة الرئيس الأميركي باراك أوباما. في تلك اللحظة السياسية استقال عشرة وزراء من تحالف قوى «8 آذار» الذي يقوده حزب الله من الحكومة، وتبع ذلك استقالة الوزير الحادي عشر المحسوب من حيث المبدأ على رئيس الجمهورية ميشال سليمان. وكان الوزراء العشرة المستقيلون قد أعلنوا بلسان وزير الطاقة آنذاك جبران باسيل، عضو «التيار الوطني الحر» بزعامة النائب ميشال عون، أن سبب الاستقالة يعود إلى «التعطيل الذي أصاب الجهود الرامية إلى تخطي الأزمة الناتجة عن عمل المحكمة الخاصة بلبنان»، الناظرة في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، واتهم باسيل يومذاك «الفريق الآخر بالرضوخ للضغوط الخارجية لا سيما الأميركية».

وفي الخامس والعشرين من يناير 2011 صدر مرسوم بتكليف نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة إثر جولة من المناورات السياسية والنيابية والأمنية أدت إلى انتقال رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط بعد انقسام كتلته النيابية إلى الفريق الذي أيد تكليف ميقاتي على حساب سعد الحريري الذي أيدته كتل قوى «14 آذار». تكليف ميقاتي بتشكيل الحكومة الجديدة حمل معه صدمة كبيرة في الشارع السني في لبنان، حيث اعتبرت شريحة كبرى منه أن «تطيير» حكومة سعد الحريري إنما حصل بالإكراه، أي عبر تلويح حزب الله بعملية أمنية - عسكرية مشابهة لما حصل في مايو 2008، مما غير من تموضع بعض القوى السياسية وأطاح القوة التمثيلية الأكبر سنيا من السلطة التنفيذية. والأهم أن الأمر حصل بضغط من قوة سياسية - عسكرية - أمنية منتمية إلى البيئة الشيعية ومتحالفة مع نظام بشار الأسد في سوريا، وهو ما اعتبره كثيرون ضربة جديدة وجهت إلى السنة في لبنان.

وباشر الرئيس المكلف نجيب عملية تشكيل الحكومة، ولكن مع تأخره في تقديم تشكيلته، انطلقت شرارة الثورة السورية من درعا في الثامن عشر من مارس 2011، وكان سبق ذلك سقوط نظامي الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والرئيس المصري حسني مبارك وانطلاق شرارة الثورة في ليبيا وبدء الحراك الثوري في اليمن. وفي الواقع واجهت عملية التشكيل صعوبات المرحلة المتغيرة عندما استقر موقف القوى الأساسية المؤلفة للحكومة العتيدة على خانة انتظار التطورات في سوريا. وفي منتصف يونيو (حزيران) من العام نفسه أعلن ميقاتي عن نجاحه في تشكيل حكومة جديدة وشاءت «المصادفات» السياسية أن تأتي متزامنة مع إطلاق قوات النظام في سوريا عملية عسكرية واسعة في ريف إدلب، وبالتحديد في منطقة جسر الشغور المحاذية لتركيا. وقيل يومها إن الحكومة شكلت في إطار الهجوم المعاكس الذي شنه النظام في سوريا الذي كان قد اتخذ قراره النهائي بانتهاج العنف المفتوح وسيلة لتصفية الثورة الشعبية.

وانطلقت حكومة ميقاتي في جو من التأزم الكبير في سوريا، وكان على ميقاتي أن يواجه الاستحقاق الأول الصعب أمام حكومته، وهو الاستحقاق المتمثل في تمويل لبنان حصته في ميزانية المحكمة الخاصة بلبنان. ولقد نجح خلال العام الماضي في دفع حصة لبنان من دون الحاجة إلى طرح الموضوع داخل مجلس الوزراء، وبالتالي من دون أن يضطر حزب الله، الراعي الأساسي للحكومة، إلى الاعتراف بالمحكمة إن مباشرة أو بشكل غير مباشر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مكتب المدعي العام في المحكمة المشار إليها كان سبق له أن وجه تهما لأربعة من مسؤولي الحزب بالتورط في جريمة اغتيال الرئيس الأسبق للحكومة اللبنانية رفيق الحريري.

في 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2012 اغتيل اللواء وسام الحسن، رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، بسيارة مفخخة زرعت في قلب حي سكني في بيروت. وكاد ميقاتي يقدم استقالته جراء هول الحدث وتداعياته نظرا لكون الحسن ضابطا أمنيا رفيعا جدا، إلى جانب كونه من منطقة الشمال التي ينتمي إليها ميقاتي، وكان يعتبر رمزا سنيا كبيرا في الدولة. وبعد أقل من خمسة أشهر قدم ميقاتي استقالته بينما البلاد في انقسام شديد حول قانون الانتخابات إلى حد جعل من إجرائها في موعدها أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا.

استقالة الحكومة زادت من تعقيدات الوضع وأيضا من احتمالات تعذر حصول الانتخابات هذا العام.

ماذا عن الاحتمالات؟ ولماذا تبدو الانتخابات وكأنها من المستحيلات؟

لقد أجريت انتخابات 2009، التي تمخض عنها مجلس النواب الحالي، وفقا للقانون المعروف بـ«قانون 1960» الذي يعتمد تقسيمات للدوائر الانتخابية تعود إلى ستة عقود خلت، ولقد رأى عون، زعيم «التيار الوطني الحر»، الذي هو الكتلة المسيحية الأكبر في مجلس النواب، «أنها أعادت إلى المسيحيين حقوقهم التي هدرتها قوانين انتخابية سابقة». ولكن بحلول مطلع العام الحالي رمى عون بورقة جديدة قلبت اللعبة السياسية عندما تبنى مشروعا انتخابيا اقترحه أحد التجمعات المسيحية الأرثوذكسية القريبة من قوى «8 آذار»، حليفة النظام في سوريا وحزب الله، برئاسة رئيس مجلس النواب الأسبق إيلي الفرزلي، وهو يقوم على أن تجرى الانتخابات على أساس أن ينتخب اللبنانيون نوابهم استنادا إلى انتمائهم المذهبي، أي أن يحصر حق انتخاب أي من النواب في المنتمين إلى مذهبه حصرا، بمعنى آخر، جعل كل طائفة لبنانية تنتخب ممثليها في المجلس النيابي بصرف النظر عن التقسيم الجغرافي.

غير تأييد عون المقترح الذي سمي جوازا «مشروع القانون الأرثوذكسي» قواعد اللعبة بل حتى التحالفات، إذ سارعت أكبر الكتل المسيحية الحزبية المتحالفة ضمن «14 آذار»، وعلى رأسها حزبا «القوات اللبنانية» و«الكتائب اللبنانية»، إلى تبني الاقتراح وتأييده حتى قبل أن تتشاور مع حلفائها من النواب والشخصيات المسيحية المستقلة، فضلا عن القوى ذات التمثيل الإسلامي الوازن في «14 آذار» كـ«تيار المستقبل». كذلك أحرج موقف «القوات» و«الكتائب» الزعيم الدرزي النائب وليد جنبلاط الذي كان يعد العدة للتحالف انتخابيا مع قوى «14 آذار» في دوائر جبل لبنان وبيروت والبقاع الغربي. وهكذا أدى طرح ما يسمى بـ«مشروع القانون الأرثوذكسي» إلى إرباك الوضع السياسي وإعادة خلط التحالفات، إذ غدا بعض «14 آذار» متحالفا مع بعض «8 آذار»، وبعض الوسطيين متحالفا مع بعض «14 آذار». وبدت تناقضات السياسة اللبنانية الغريبة في أبهى تجلياتها مع لجوء أبرز مؤيدي جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة ينتخب فيها كل اللبنانيين على قاعدة النسبية جميع النواب (أي قادة الثنائي الشيعي حزب الله وحركة أمل) مؤيدين لمشروع رأى فيه البعض أنه مشروع للفصل المذهبي بين اللبنانيين.

وما زاد من غرابة الوضع الخلاف المتقاطع بين من أيدوا قانونا انتخابيا يتبع النظام الأكثري البسيط، وأولئك الذين أيدوا قانونا وفق نظام النسبية، وأيضا الذين أيدوا، ثالثا، قانونا يعتمد نظاما مختلطا يجمع بين الأكثرية والنسبية، ويزيد من تعقيد العملية بالنسبة إلى المواطن اللبناني العادي. وهكذا «ضاع» اللبنانيون بين قانون ساري المفعول هو «قانون 1960»، وآخر هو «الأرثوذكسي» الذي يتمتع بأكثرية دفترية - أي نظرية - داخل المجلس النيابي لإقراره ولكنه يخالف روح الدستور حول العيش المشترك والتوافق الوطني الجامع الذي لا يستثني قوى لها تمثيلها الطائفي الوازن، وبالذات في ما يخص «تيار المستقبل» بالنسبة إلى السنة والحزب التقدمي الاشتراكي بالنسبة إلى الدروز.

وتاليا، صار اللبنانيون أمام مأزق كبير جديد أضيف إلى جملة مآزقهم، وكل هذا أمام خلفية المشهد الإقليمي الذي كان يزداد سخونة مع بدء حصول تحول في الصراع في سوريا.. فلقد قررت الدول العربية الداعمة للثورة السورية رفع وتيرة مساعداتها العسكرية للثوار، في مقابل ازدياد تورط نظام بشار الأسد في حرب مفتوحة أوصلت عدد الضحايا إلى ما يناهز الـ100 ألف قتيل. ولعل العامل الأهم الذي جاء ليزيد من صعوبة حصول الانتخابات النيابية في لبنان في موعدها هو عامل غياب عنصري الصفقة السياسية الداخلية والمظلة الإقليمية - الدولية الراعية لصفقة من هذا النوع، وذلك على غرار ما كان يحصل عند كل استحقاق نيابي منذ انتهاء الحرب اللبنانية عام 1990.. ذلك أن كل الانتخابات النيابية التي أجريت بين عامي 1992 و2005 إنما أجريت تحت مظلة الوصاية السورية السابقة وكانت هذه الأخيرة ضامنة لها. أما أول انتخابات حصلت بعد خروج الجيش النظامي السوري من لبنان، في 26 أبريل (نيسان) 2005، فإنها نظمت بناء على توافق مسبق حول قانون انتخابي، وفي ظل حكومة حيادية ترأسها يومذاك نجيب ميقاتي، نفسه، مراعاة للنظام في سوريا، بتحالف رباعي ضم «تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» من قوى «14 آذار» - يومذاك - وحزب الله وحركة أمل من «8 آذار». واعتبر التحالف المشار إليه، في ظل مظلة عربية - دولية، ضمانة لحصول انتخابات بشكل سلس.

ومثلها أجريت انتخابات 2009 على أساس «اتفاق الدوحة» الذي تضمن اتفاقا مفصلا حول قانون انتخابي، هو «قانون 1970 معدلا».. وحظي برعاية عربية - إيرانية - دولية. وتزامن مع مرحلة ما سمي بمعادلة الـ«سين - سين»، أي التوافق السعودي - السوري الذي تحقق في أعقاب مبادرة المصالحة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز خلال قمة الكويت الاقتصادية في ديسمبر (كانون الأول) 2008، وبدء الانفتاح الغربي على النظام في سوريا بعد انتخاب نيكولا ساركوزي رئيسا للجمهورية في فرنسا.

وبناء على ما تقدم كان ممكنا أن تجرى، هذه المرة أيضا، انتخابات يحميها أو يظللها اتفاق سياسي محلي - عربي - دولي شامل يشكل الضمانة الأساسية لحسن سيرها من دون عوائق أو مشاكل، ولكن على مشارف الموعد المحدد للانتخابات ثمة سؤال جوهري مطروح، هو: كيف يمكن إجراء الانتخابات في غياب قانون متفق عليه، ومن دون توافق سياسي داخلي ورعاية عربية - عربية أو مظلة دولية؟

الجواب، بكل بساطة، هو أن حصول الانتخابات بات شبه مستحيل في غياب العناصر الأربعة المشار إليها آنفا، فضلا عن غياب حكومة عاملة تشرف عليها في أعقاب استقالة حكومة نجيب ميقاتي.

على أي حال، فإن لبنان الذي يوصف بأنه بلد التوازنات الدقيقة والصعبة في آن معا، وبلد التداخل العميق ما بين المحلي والإقليمي والدولي، يفتقر في هذه المرحلة إلى ما يمكن أن يسهل إجراء الانتخابات. ومن هنا يتوقع المتابعون المطلعون ألا تجرى في موعدها. وفي هذه الحالة ثمة سؤال آخر يتبادر إلى الذهن، هو: هل سيتمكن اللبنانيون من تجاوز تعقيدات المرحلة وعقد جلسة تشريعية يقر فيها تمديد ولاية المجلس الحالي لعام أو عامين.. أم أن الاشتباك السياسي، داخل لبنان وفي الجوار الإقليمي، سيحول حتى دون التمديد مما سيضع لبنان في فراغ خطير في السلطة التشريعية؟

إنها مرحلة يعيشها لبنان على تخوم الفراغ في مؤسسات الدولة.

* إعلامي وكاتب لبناني، وقيادي في «تيار المستقبل»