القضاء المصري بين الاستغلال السياسي والتهديد بالتدويل

قضاة مصريون لا يستبعدون إدخالهم «بيت الطاعة» الإخواني

المستشار حلمي السلاموني
TT

يعد قانون السلطة القضائية الذي تقدم به حزب الوسط الإسلامي بمجلس الشورى، أخيرا، وسانده أعضاء حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، محطة جديدة في مسار توتر العلاقة بين القضاة المصريين وجماعة الإخوان المسلمين، الذي يظهر من حين لآخر، في ظل سيطرة «الإخوان» على رأس السلطة وجهاز التشريع الحالي.

بدأ الصراع بين الطرفين مبكرا، ومنذ جاء الرئيس المصري محمد مرسي إلى السلطة، لم تكد أزمة ما تهدأ بين مؤسستي الرئاسة والقضاء، حتى تشتعل أزمة جديدة، بدءا من أزمة عودة مجلس الشعب، رغم حكم المحكمة الدستورية العليا بحله، مرورا بالإعلانات الدستورية التي أصدرها الرئيس مرسي نفسه ثم عدل عنها، والإصرار على استمرار عمل النائب العام رغم تحفظ القضاة على طريقة اختياره، وصولا إلى أزمة قانون السلطة القضائية الذي أحدث جدلا واسعا، وأثار مخاوف كبيرة من تسييس القضاء المصري وأخونته، على حد وصف المعارضين، خاصة في ظل ما يتردد حول ما يترتب على القانون من استبعاد 3500 قاض من العمل القضائي، بينما يجري الحديث عن تعيين جهات شرعية قضاة تابعين لـ«الإخوان».

الصراع بين السياسة والقضاء في مصر عميق الجذور ويرجع إلى سنوات بعيدة، فقد شهدت الحقبة الناصرية صراعا محتدما بين الفقيه الدستوري الكبير ورئيس مجلس الدولة آنذاك، عبد الرزاق السنهوري، ومؤسسة الرئاسة، بسبب إصرار الأول على ضمان وجود سلطة قضائية محايدة ومستقلة، إلا أن عبد الناصر أخرج السنهوري من منصبه ونجح في إصدار قانون سلطة قضائية سياسي. كما تكررت المعركة بين ناصر والقضاة عام 1969 فيما عرف بمذبحة القضاة التي جرت خلالها محاولات لتصفية القضاة المعارضين وإقصائهم.

ورغم محاولات الرئيس السادات إصلاح العلاقة مع القضاء بإعادته القضاة المفصولين في العهد الناصري، فإنه اصطدم بهم حينما أراد تقييد استقلال القضاء بإنشاء محاكم استثنائية، مثل محكمة القيم ومحكمة العيب، بالإضافة إلى صدام السادات مع بعض القضاة المعارضين لاتفاقية كامب ديفيد، وكان من بينهم رئيس نادي القضاة وقتذاك المستشار ممتاز نصار.

وبطبيعة الحال، نال القضاء ما ناله من تدخل خلال حكم الرئيس السابق محمد حسني مبارك، بشهادة الكثيرين، حين شهدت عقود حكمه صراعات عدة بين الرئاسة والقضاء، من أشهرها أزمة قانون السلطة القضائية عام 2006، والكشف عن تزوير وقع في الانتخابات لصالح مرشحي الحزب الحاكم، واعتداء الأمن على المظاهرات التي اندلعت، في حينه، دفاعا عن استقلال القضاء، ووصل الأمر إلى تحويل بعض المستشارين، ومنهم المستشاران هشام البسطويسي ومحمود مكي، إلى التحقيق أمام نيابة أمن الدولة العليا، ثم إلى لجنة الصلاحية لاحقا، بسبب مواقفهم المعارضة للرئاسة في موضوع استقلال القضاء.

واستحكمت الأزمة بين القضاة والرئاسة في عهد الرئيس مرسي، وبلغت أخيرا مرحلة خطرة، حين طالب المستشار أحمد الزند رئيس نادي قضاة مصر، الرئيس الأميركي بالتدخل، وهذا ما عرض الزند لانتقادات بعض من اعتبروا ذلك استقواء منه بأطراف خارجية، ومحاولة لتدويل أزمة القضاء.

المستشارة تهاني الجبالي، نائبة رئيس المحكمة الدستورية العليا، سابقا، وصاحبة أشهر المعارك القضائية مع مؤسسة الرئاسة وجماعة الإخوان المسلمين في مصر على خلفية الإطاحة بها عقب إعلان الدستور المصري الجديد، قالت لـ«الشرق الأوسط» إن ما يحدث في مصر هو هدم منظم لسلطات الدولة ومؤسساتها واستقلالها، ومحاولة لإدخال القضاء المصري إلى بيت الطاعة الإخواني، لكن القضاء المصري راسخ وشامخ وعريق، ولمؤسساته تاريخ. وقد تعرضت للعدوان من السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الدولة، ومن السلطة التشريعية من خلال هذه القوانين المشبوهة التي تعمل على تقويض أركان القضاء والنيل من استقلاله.

وأكدت الجبالي حدوث مواجهة قانونية وقضائية مباشرة، ومقاومة ذاتية من السلطة القضائية، ممثلة في جمعياتها العمومية، وأن هناك رفضا لتلك الإجراءات التعسفية ومحاولة الهدم. وقالت إن على قوى المجتمع التنبه إلى ذلك، لأن ما يحدث لا يخص القضاة وحدهم، ولا السلطة القضائية باعتبارها المسؤولة عن إدارة العدالة، وإنما هو أمر وطني عام.

وحول احتمالات تصعيد المواجهة بين مؤسسة القضاء ومؤسسة الرئاسة، قالت الجبالي إن هناك متابعة كبيرة من المجتمع الدولي ومؤسساته المعنية في العالم كله، لما يحدث في مصر من انتهاك للمعاهدات المرتبطة باستقلال القضاء. وأشارت إلى أن أزمة القضاة في مصر باتت مدولة بالفعل، بسبب ما يحدث من عدوان على القضاء، وأن ثمة استنفارا عالميا قد يدفع بعض المؤسسات إلى إصدار قرارات حاسمة ضد مصر، وإدراجها في قائمة الدول التي تنتهك القانون، عملا بقواعد الأمم المتحدة التي وقعت عليها مصر، بما يترتب على ذلك من نتائج سلبية.

وعن موقف القضاة المصريين من مؤتمر العدالة الذي ترعاه مؤسسة الرئاسة، قالت الجبالي إن الموضوع ليس «خناقة» بين أشخاص، لكن لا يمكن أن يكون هناك تفاوض مع الرئاسة بينما تهدم أحد أسس وأركان الدولة. فإما أن تحترم كل السلطات، أو تخرج عن الشرعية. وهذا ما حدث عندما انتهكت القضاء، لأن أي اعتداء على مؤسسة من مؤسسات الدولة هو اعتداء على الدولة كلها.

وأضافت أن الغموض يحيط بمؤتمر العدالة وبأهدافه. وثمة علامات استفهام عدة حول من يحضره، ومن توجه إليه الدعوة، واعتبرته التفافا على القضية؛ لأن من أثار الأزمة هو العدوان المتكرر من مؤسسة الرئاسة على السلطة القضائية، وكان يجب الرجوع في تلك القوانين الخاصة بالشأن القضائي، إلى القضاة أنفسهم من خلال جمعياتهم العمومية.

من جهته، قال المستشار زكريا عبد العزيز الرئيس الأسبق لنادي قضاة مصر وأحد رموز تيار الاستقلال ورئيس محكمة الاستئناف، في تصريحات خاصة بـ«الشرق الأوسط»، إن ما حدث هو أزمة مفتعلة ومصطنعة من كلا الطرفين: القضاة والرئاسة. كما أن أحد الأطراف أساء التعامل مع مؤسسة الرئاسة، والتعامل مع الأزمة لم يكن بمستوى تعامل القاضي الهادئ مع القضايا التي يفصل فيها، وحدث بها تجاوز من قبل بعض القضاة. ولا يصح أن يقوم أحدهم بتهديد الرئيس وإمهاله مدة زمنية، أو ساعات، لإجباره على تنفيذ أمر أو التراجع عن قرار ما.. هذا لا يجوز أبدا.

وأضاف عبد العزيز قائلا: «لا أنكر أن مؤسسة الرئاسة أخطأت أيضا في تعاطيها مع الأمور، لكن لا يمكن أبدا اختصار حل المشكلة كلها في خفض سن القضاة من خلال القانون المثير للجدل الذي تقدم به أحد الأحزاب».

وقال رئيس نادي قضاة مصر الأسبق: «رغم أنني مع خفض سن القاضي، فإنني لست متحمسا للقانون الذي يختزل كل المشاكل في قضية السن، فهذا غير كاف. كما أن رفع سن القاضي في العهد السابق كان للترغيب، وخفض سنه حاليا إنما هو للترهيب»، واعتبره استغلالا سياسيا. وأشار عبد العزيز إلى أن هناك مجموعة من الملفات لا بد أن تعالج بحسم، منها ملف التعيينات وضمان الابتعاد عن الوساطة والمحسوبية، ووضع قواعد لاختيار مستشاري النقض وأعضاء النيابة، وملف التبادل بين قضاة النقض والاستئناف لضمان إثراء الأحكام القضائية. بالإضافة إلى حسم ملف الإعارات، وقصره على مدة واحدة لكل قاض، حتى «نضمن استفادة أكبر عدد من القضاة المصريين منه»، إلى جانب ملف تقييم القضاة فنيا وسلوكيا.

وأكد المستشار زكريا عبد العزيز أنه لو وجدت إرادة سياسية لدى الجميع، وخاصة القيادة، لأمكن حل الأزمة بفتح الملفات التي يطالب بها القضاة أنفسهم ويوافقون عليها.

أما المستشار فؤاد راشد رئيس محكمة استئناف القاهرة، سابقا، فندد بممارسات «الإخوان المسلمين» على الساحة السياسية بمصر. وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «الإخوان» يتصرفون بدوافع لا تخفى على غالبية المصريين، منها أن الفرصة جاءتهم على غير انتظار، وغالبا ما لا تعود مرة أخرى، وهذا ما يفسر تعجلهم أخونة أجهزة الدولة بتسارع ظاهر؛ فهم يريدون أخونة الأجهزة؛ من الجيش إلى الشرطة، إلى القضاء، وكانت الحرب الأخيرة على القضاء شكلا من أشكال الانقضاض المباغت، وكأي انقضاض فقد رتب له بإطلاق المدفعية الثقيلة لدك حصون القضاء. لا أحد يصدق أن شباب «الإخوان» يهتفون ضد القضاة من دون تعليمات من المرشد العام للجماعة. مثل هذا الكلام فاقد للحد الأدنى من المنطق؛ لأن الربط بين الفساد وسن القاضي أمر يقع في باب السباب القبيح.

وكشف المستشار راشد لـ«الشرق الأوسط» عن حديث أجراه مع قيادات إخوانية، أشار خلاله إلى أن ما يجري على الساحة «عيب ولا يليق». وقد «وصل رأيي إلى قيادات بعضهم في مؤسسة الرئاسة، ولكنها مؤسسة تعاني فقرا هائلا في مستوى الكفاءة. كما أن العمى السياسي (والتخبط) يعقدان الأمور. ومن علامات التخبط أنهم جعلوا النائب العام السابق بطلا قوميا، بينما كان رحيله مطلبا ثوريا لكل القوى الوطنية. وكان يمكن إخراج الأمر بطرق شتى أفضل مما حدث، فقد جرى التخلص من الرجل بطريقة بدت انتقامية».

وعن طبيعة المشهد حاليا، أشار المستشار راشد إلى تراجع «الإخوان»، لكنه اعتبر ذلك تراجعا مرحليا تكتيكيا، ترقبا للحظة مواتية ينقضون فيها على القضاء. وقال إن الهدف الظاهر هو التطهير، وهو قول «فارغ تافه بلا معنى؛ لأن القضاء يطهر نفسه، وحتى لو كان هناك من هم في حاجة إلى التطهير، فهم لا يتجاوزون أصابع اليدين، على أكثر تقدير، ممن يثبت تورطهم في علاقات مع الأمن زمن مبارك. وأي قاضي تتم شكايته يحقق معه، والقضاة يتم فصل عدد منهم بشكل دوري. وأعلم أن سدس من عينوا من دفعتي تم فصلهم من الخدمة. وهناك أصابع اتهام تشير إلى تورط قضاة في علاقات مع الأمن قبل الثورة، وأن بعضهم أصدر أحكاما ضد خصوم مبارك بالتواطؤ مع الأمن، وقضاة تشير إليهم أصابع الاتهام بدور في تزوير الانتخابات. كل هؤلاء لا يتجاوزون عشرة أو خمسة عشر. وقد تقدمت ضدهم ببلاغات منذ أكثر من عام، لكن إطلاق الكلام عن فساد القضاء عيب ولا يليق».

وأضاف راشد أن «الإخوان» إن لم يجدوا موقفا شعبيا قويا، فسوف يحاولون تعيين عدد كبير من القضاة المنتمين إلى «الإخوان»، ما يسيس القضاء المصري، وتلك مصيبة كبرى، والرهان هو على وعي القضاة بأبعاد القضية، وعلى اليقظة الشعبية؛ لأن «الإخوان» يريدون السيطرة.

الفقيه الدستوري المستشار طارق البشري، نائب رئيس مجلس الدولة المصري سابقا، وصف ما يحدث بأنه أزمة موجهة ضد القضاء المصري. وقال لـ«الشرق الأوسط»، إنها ليست أزمة مفتعلة، بل حقيقية، تسبب بها قانون السلطة القضائية الذي جاء لأهداف سياسية، لأن إصدار أي قانون، لا بد أن يكون بشكل مجرد وعام، عملا بالقاعدة القانونية التي تقول «إن القانون يصدر على الناس بأوصافهم وليس بذواتهم»، لكن أن يصدر من أجل أشخاص بعينهم وفي وقت معين، فهذا يجعله سياسيا.

وأضاف المستشار البشري: «إن الفقيه القانوني السنهوري، قدم بحثا عرفنا منه أن القضاء الإداري يكشف انحراف السلطة التنفيذية، حين تصدر قراراتها دون توخي الصالح العام، وإذا صدر قرار يستهدف صالحا خاصا يلغيه القضاء، وكذلك عندما تصدر السلطة التشريعية قانونا لحالات بذاتها، فإنه يعد انحرافا أيضا. ويمكن معرفة ذلك من خلال ظروف التشريع وملابساته؛ فعندما نجد القانون صادرا لمعالجة حالات معينة بذاتها، ولإقصاء شخصيات بذاتها، فإنه يكون قانونا معيبا؛ لأنه يفتقر إلى قاعدتي العمومية والتجريد».

وحول رأيه في فكرة تطهير القضاء التي يطالب بها عدد من القضاة أنفسهم، قال نائب رئيس مجلس الدولة المصري الأسبق، إن المؤسسة القضائية مثل أي مؤسسة، يعمل بها بشر، والبشر قد يخطئون، وقد تكون هناك شخصيات ليست على المستوى السليم من ناحية العمل القضائي.. هنا يأتي دور النظام الداخلي للجهاز نفسه لاستبعادهم، وما حدث أن ضغوطا كبيرة مورست على القضاء أيام مبارك، فأنتجت هذا النوع من المشاكل، لكن المؤسسة القضائية ذاتها لديها آليات عمل داخلية كفيلة بإصلاح أي خطأ، منها إدارة التفتيش، وآليات عدم استمرار القاضي لفترة طويلة في مكان واحد. و«أذكر أننا، في مجلس الدولة، لم يكن يسمح للقاضي بالبقاء أكثر من ثلاث سنوات في المكان نفسه، درءا لأي شبهة. لكن اتهام القضاء بالفساد هو حكم مجرد من الحياء والأدب».

وقال البشري أيضا إن القضاء المصري كان دائما محايدا نزيها، ودليل ذلك أن حسني مبارك كان يلجأ إلى القضاء العسكري عندما يريد استصدار بعض أحكام لصالحه، وكان يعتمد على نص خاص في قانون الطوارئ بالإبقاء على اختصاص القضاء العسكري في نظر قضايا مدنية في حالة الطوارئ. وهذا هو سر حرص مبارك على إبقاء قانون الطوارئ 30 سنة؛ لأنه لم يكن مطمئنا إلى مسايرة القضاء المدني له.

وعن سبب الإساءة للقضاء والتربص به، كما يعتقد البعض، قال البشري إن الجدل الدائر حاليا يعوزه الفهم والخبرة بمؤسسات وسلطات الحكم، وممارسة الأجهزة لعملها في إدارة شؤون البلاد، وهي بحاجة لمزيد من المعرفة لتعويض هذا القصور في معالجة أمور مثل القضاء وغيره من شؤون الدولة.

ومن ناحية أخرى، قال المستشار حسني السلاموني، رئيس محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية ونائب رئيس مجلس الدولة، في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط» يتوجب معرفة مدلول تسييس القضاء، بمعنى اشتغاله بالسياسة. وهذا ممنوع بتاتا على القضاة رغم أن من حق القاضي، باعتباره مواطنا قبل أن يكون قاضيا، اعتناق ما يشاء من أفكار ومعتقدات. لكن ممنوع على القاضي الإفصاح عن معتقداته السياسية بأي صورة من الصور، طالما ظل في الخدمة، كما أنه محظور عليه أن ينعكس اعتقاده السياسي أو العقائدي على واجبات وظيفته. أما أن القاضي قد يؤثر، بما يصدره من أحكام، في المجريات السياسية، فذلك لا مناص منه في بعض الحالات، وخاصة في القضاء الإداري والدستوري، فأحكام إبطال بعض القرارات الإدارية، ومنها قرارات جمهورية وأحكام عدم دستورية القوانين مثلا، تؤثر تأثيرا مباشرا في المجال السياسي، حتى وإن لم يكن القاضي يملك ذلك أو يقصده. لكن الحادث في مصر حاليا هو اتهام القضاة بالتسييس كلما صدر حكم لا يرضى عنه فصيل من الفصائل، وهذا محض افتراء واجتراء على القضاء لا أساس له في الواقع.

وأضاف المستشار السلاموني: «بالنسبة لسعي البعض إلى تسييس القضاء، فذلك ظاهر للعيان من دون أدنى شك، وقد تجلى في تصرفات بعض القضاة الذين يجاهرون بتأييد فصيل معين، ولا يقوم هذا الفصيل بالاعتراض عليهم. أما إذا قام قاض آخر ممن لا يجاهرون بتأييد هذا الفصيل بالتصرف نفسه، فإنهم يتهمونه بأبشع التهم. وقد وقع بعض القضاة في هذا الشرك، بأن آثروا السلامة وأعلنوا تأييدهم لهذا الفصيل أو ذاك، وهذه هي أولى خطوات تسييس القضاء.

وقال السلاموني أيضا إن الفساد أصاب القضاء الذي أصاب بدوره كل نواحي الحياة في النظام السابق، بل إن منظومة القضاء كلها أصبحت في حال يرثى لها، ويجب إصلاحها فورا عن طريق القضاة أنفسهم. ويرى السلاموني الأمل في مؤتمر العدالة الذي دعت إليه مؤسسة الرئاسة للقيام بهذا الدور. وعن مستقبل الأزمة الراهنة، قال إن الأزمة بين السلطة القضائية والسلطتين التشريعية والتنفيذية، ستنتهي عندما تعرف كل سلطة حدودها، وعندما يعرف الجميع أن القضاء هو المرجع النهائي للشرعية والمشروعية. وهذا ليس تمييزا للسلطة القضائية عن باقي السلطات، ولكنه دورها الذي رسمه القانون، «رغم أنني مقتنع، حتى الآن على الأقل، بأن هناك من يسعى جاهدا لإسقاط السلطة القضائية وليس إصلاحها، ويتم العمل حثيثا لتحقيق هذا الهدف بكل الطرق. وقد بدا ذلك منذ قيام الثورة بحرق دور العدالة منذ 28 يناير (كانون الثاني) 2011، قبل أن يسقط النظام السابق، بعكس ما يروجون بين البسطاء من الناس من أننا نعارض القضاء لأنه برأ المتهمين بقتل الثوار، فهذا كذب؛ لأن المؤامرة بدأت قبل أن يقع شهيد واحد، وقبل محاكمة المتهمين بقتل الثوار. هذا بالإضافة إلى أن هناك من يسعى إلى إسقاط السلطة القضائية باعتبار أن هذا القضاء غير شرعي، لأنه، كما يقولون، لا يحكم بما أنزل الله. ومما لا شك فيه أن هدف إصلاح القضاء والمنظومة القضائية والتشريعية في مصر وتنقية القوانين مما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، هو هدف نبيل، وأنا شخصيا معه شكلا وموضوعا، وناديت به قبل الثورة وبعدها، ولكن يجب تحقيق هذا الهدف بطريقة لا تعرض المجتمع لفوضى، بل بالتدريج، وعن طريق خبراء متخصصين وليس عن طريق سياسيين كل هدفهم الانتصار لفصيلهم والتمكين له».

المستشار السابق لرئيس الجمهورية الدكتور خالد علم الدين، القيادي البارز في حزب النور السلفي الشريك الأكبر لحزب جماعة الإخوان في مجلس الشورى، الذي تدور داخله معركة قانون السلطة القضائية المثير للجدل حاليا، قال في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن حزب النور يرى أنه لا يجوز أن يبقى قانون بهذه الأهمية والخطورة، كقانون السلطة القضائية، من دون حوار مجتمعي وتشاور مع القضاة المعنيين، ومن دون رضا منهم. وأضاف: «نحن نفضل أن يناقش القانون في ظل مجلس النواب المقبل المزمع انتخابه في غضون ستة أشهر، ولا يناقش في مجلس الشورى الذي لم ينتخب من أجل مهمة التشريع، وأنه يفترض أن من حقه أن يقوم بالتشريع بشكل اضطراري في ظل حاجة ضرورية وملحة، ومن دون الإفراط في هذا الحق. وبناء عليه، فإن حزب النور يعارض الإفراط في دفع قدر كبير من القوانين والتشريعات إلى مجلس الشورى بشكل متعجل ومتعدد، ونرى فيه خطورة بالغة في الطعن على مشروعيتها والحاجة إلى إقرارها مرة ثانية في مجلس النواب بعد انتخابه، واحتمال تعديل أو إلغاء تلك القوانين.. ما يسبب اضطرابا خطيرا».

ويقول الدكتور علم الدين: «المفروض أن نترك الأمور الثقيلة والضخمة التي تتعلق مثلا بالقضاء وهيكلة الشرطة، أو إدارة البلاد أو غيرها كمهام منوط بمجلس النواب مناقشتها. ثم يأتي مجلس الشورى المقبل، ليشاركه المناقشة والتصويت؛ لأن مجلس الشورى الحالي غير منوط به هذه المهمات، ولم ينتخب من أجلها، ولكنها مهمات أسندت إليه لعبور المرحلة».

ووصف علم الدين تعجل النظام الحالي استصدار قوانين مهمة من مجلس الشورى، ومنها قانون السلطة القضائية الذي يصطدم بالقضاة في مصر، بأنها محاولة من «الإخوان» لاغتنام الفرصة. وقال إن «الإخوان» يرون أنهم في وضع حالي قد لا يتكرر بعد الانتخابات المقبلة، ويحتفظ لهم بالقدر نفسه من السيطرة على مختلف المناصب في مصر؛ من وزراء ومحافظين ومجلس شورى. ويرى أن ليس من حق «الإخوان» الانفراد؛ لأن الرئيس مرسي منتخب من كوكتيل من المصريين وليس من قبلهم وحدهم.

وتعليقا على أزمة القضاء المصري، قال الدكتور أحمد عارف، المتحدث باسم جماعة الإخوان المسلمين، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إن منهجنا نحن جماعة الإخوان المسلمين، هو عدم الدخول في الصراع مع أحد، وعدم شخصنة القضية أو اتخاذ موقف مع أو ضد أي طرف من الأطراف، كما أننا ضد الإساءة إلى أي مهنة، ولا نقبل أن نسيء لمهنة القضاء، لكن هناك مشكلة تكمن في أن أصحاب الحقوق لا تصل إلى حقوقها. كما أن منظومة العدالة في خطر، ليس على صعيد القضايا السياسية وحسب، بل على كل المستويات، بسبب تأخر العدالة وعدم وجود عدالة ناجزة. وبعيدا عن العبث وخلط الأوراق، ستكون هناك نقطة التقاء برعاية مؤسسة الرئاسة بعد مؤتمر العدالة. وأضاف عارف أن مناقشة قانون السلطة القضائية، أخيرا، جاءت متأخرة، «وكنا طالبنا بمناقشتها في مجلس الشعب السابق الذي تم حله، وكان أحد أسباب حله هو مطالبته بمناقشة قانون السلطة القضائية، وكان ذلك مطلبا قديما منذ عام 2007 حيث صدر أول تقرير لمنظمة الشفافية الدولية الذي كشف عن استفحال الفساد في الدول النامية، وأن وضع جهاز الشرطة في خطر، تليه الأنظمة القضائية».

وقال عارف إن تيار استقلال القضاء، وهم من الوطنيين، كانوا يطالبون بإصلاح القضاء، وتم اعتقال بعضهم بسبب مواقفهم تلك. ورفض المتحدث باسم الجماعة أي اتهامات أو مزايدة في الدفاع عن القضاة، مؤكدا أن «الإخوان المسلمين» اعتقلوا دفاعا عن القضاة.

وحول إشراك القضاة في مناقشة قانونهم قبل صدوره، وفق مطالبة البعض، قال دكتور أحمد عارف: «طالبنا أن يأتي قانون السلطة القضائية بالتشاور مع المجلس الأعلى للقضاء والجهات القضائية المعنية والتعاون معها، بالإضافة إلى تدخل مؤسسة الرئاسة للقيام بدورها في مراعاة الحدود الفاصلة بين السلطات، في إطار أن القضاء يجب أن يدخل في سيناريو التعديل والتغيير ومعايير اختيار القضاة، كما يحدث التغيير في السلطتين التشريعية والتنفيذية».

وحول ما تثيره تلك الرؤية الإخوانية في التغيير والتعديل من مخاوف لدى الأطراف الأخرى، التي تتخوف من أخونة القضاء وسيطرة أشخاص معروفين بولائهم للجماعة على الجهاز القضائي بمصر، قال عارف: «إن مثل هذا الزعم يستخدمه الخصوم السياسيون فزاعة. وحتى لو حاولنا تطبيق (الأخونة) عمليا، فلن نجد لها دوافع ولا قابلية للتطبيق، ومن ثم أتصور أن ترديد مصطلح أخونة القضاء هو مجرد مهاترة سياسية وفزاعة لأغراض سياسية مستوحاة من أسلوب نظام مبارك قبل الثورة، حين كان يستخدم (الإخوان) أيضا فزاعة للتخويف، وهذا خطأ وطعم ابتلعه خصوم سياسيون».

وكان المستشار أحمد الزند، رئيس نادي قضاة مصر، قد قام أخيرا برفع دعوى قضائية أمام القضاء الإداري، طالب فيها بوقف إجراءات عرض قانون السلطة القضائية ومناقشته إلى حين انتهاء انتخابات مجلس النواب المقبلة ودعوته للانعقاد، وانتظار الحكم في دعوى دستورية القانون 2 لسنة 2013، التي قررت المحكمة بشأنها التأجيل لجلسة 12 مايو (أيار) للاطلاع.