«الإسلام السياسي».. شهب برقت في سماء الوطن العربي واحترقت

صعد بفعل الربيع العربي بين عامي 2010 و2013 وهوى بقوة

المقر الرئيس لمكتب الإرشاد التابع لجماعة الاخوان المسلمين في المقطم أثناء حرقه
TT

أظهر الربيع العربي تحديات وأسئلة جديدة أمام الحركات الإسلامية التي تحولت إلى أحزاب حاكمة أو مشاركة في الحالة السياسية، مثل قدرتها على إدارة إجماع وطني ينشئ رواية إصلاحية وتنموية جديدة تتفق مع أهداف ومبررات الربيع العربي، ومدى التزامها بالحريات والديمقراطية، خاصة الحريات الفردية والاجتماعية، وقدرتها على الإصلاح الاقتصادي، ومواجهة الأزمات الاقتصادية والتنموية، التي كانت من أهم أسباب الثورات العربية.

بدا الربيع العربي ربيع «الإسلام السياسي» بامتياز، على الرغم من عدم وجود علاقة بين فكرته الأصلية وروايته المنشئة وجماعات الإسلام السياسي. كان الربيع العربي خروجا جماهيريا شاملا لأجل الكرامة والحياة الأفضل، واحتجاجا على التهميش والفساد والتمييز بين المجتمعات والطبقات، والفجوات بين فئات المجتمع، والانحياز في توزيع الفرص والموارد. بدأ الربيع عفويا، وتحول إلى تجمع شعبي شامل يستحضر كل تراكمات الفشل والاستبداد، وتحول سريعا إلى ربيع الجماعات الإسلامية السياسية؛ إذ صعدت في دول الربيع العربي صعودا غير مسبوق، وإن كان متوقعا. فقد حصلت على الأغلبية في الانتخابات التي أجريت في مصر وتونس والمغرب، وتبدو ذات حضور قوي في ليبيا. وهي فاعل أساسي أيضا، وقوي في المعارضة السورية. وكان لها حضور قوي ومؤثر قبل الربيع في دول عربية أخرى، مثل السودان والعراق والأردن واليمن والكويت. لكن أغلب تجارب الإسلام السياسي في الحكم، هوى بسرعة غير متوقعة. وبدت الجماعات الإسلامية السياسية مثل شهاب برق في سماء الوطن العربي واحترق سريعا. ولعل «الشهاب» أقرب وصف لحالة هذه الجماعات التي لمعت لمعان الاحتراق والاختفاء، والظهور الذي جاء بسبب ضياع المدار أو انجذاب الكويكب إلى مدار آخر عملاق أحرقه وابتلعه، فالجماعات ظهرت فجأة في فضاء الحكم، ولكنه الظهور المتأتي من الاستدراج، وربما الفشل! جاء المشهد المتشكل بعد الربيع انتقاليا فوضويا غير مستقر. ودخلت بلاد الربيع والجماعات الإسلامية السياسية في تحديات جديدة، ربما لم يحسب حسابها ولم تكن متوقعة. كانت المسألة تبدو تنحي رؤساء حكموا طويلا لتجري انتخابات حرة تنشئ نظاما سياسيا جديدا. لكنها لم تكن بهذه البساطة، فقد صعدت الجماعات الإسلامية من غير خبرة كافية إلى سدة الحكم والتأثير. ووجدت المجتمعات والدول نفسها في مواجهة تحديات صعبة وقاسية، ومضت الجماعات بدولها ومجتمعاتها إلى المغامرة والمجهول.

والسؤال ببساطة: لماذا صعدت جماعات الإسلام السياسي في الربيع العربي؟ ولماذا تهاوت؟

كان التقدير المنطقي للحالة المتشكلة بفعل الربيع العربي، أنها ستنشئ مشهدا جديدا يتراجع فيه حضور الحركات الإسلامية السياسية لأنه، وببساطة، يعبر عن حالة قائمة على المطالب الاقتصادية والمعيشية والمساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وهي آفاق ومجالات للعمل والتطلعات لم تنشغل بها الجماعات الإسلامية، ولم تكن تراها أولوية تستحق العمل والنضال وصياغة نفسها، مقتربة بذلك من نموذج العدالة والتنمية في تركيا، فتعدل جوهريا في خطابها وبرامجها وأفكارها ومواقفها، لتكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات والأسئلة المنشئة للربيع العربي، ولكنه كان تقديرا خاطئا أيضا.

لماذا لم تعدّ جماعات الإخوان المسلمين والإسلامي السياسي عامة، تشكيل نفسها على نحو يلائم المرحلة الجديدة؟ لماذا لم تحذُ حذو حزب العدالة التركي؟

* أسئلة وإجابات

* لقد أظهر الربيع العربي تحديات وأسئلة جديدة أمام الحركات الإسلامية التي تحولت إلى أحزاب حاكمة أو مشاركة في الحالة السياسية، مثل قدرتها على إدارة إجماع وطني ينشئ رواية إصلاحية وتنموية جديدة، تتفق مع أهداف ومبررات الربيع العربي، ومدى التزامها بالحريات والديمقراطية، خاصة الحريات الفردية والاجتماعية، وقدرتها على الإصلاح الاقتصادي ومواجهة الأزمات الاقتصادية والتنموية التي كانت من أهم أسباب الثورات العربية.

وظهر بوضوح أن الحالة الإسلامية والدينية أوسع بكثير من التيارات الإسلامية السياسية. فهناك جماعات إسلامية غير سياسية منتشرة ومؤثرة، وهناك الحالة الإسلامية المجتمعية المستقلة عن التيارات والجماعات المنظمة. وهناك أيضا، الحالة الإسلامية الرسمية التابعة لمؤسسات الدولة، مثل الأوقاف والجامعات والمدارس والمحاكم الشرعية ودوائر الإفتاء والتعليم الديني الرسمي.

وقد أظهرت الأحداث والتحولات الأخيرة في الوطن العربي، صعود المجتمعات باعتبارها قوة مؤثرة ومستقلة عن الجماعات والأحزاب والنخب السياسية والاجتماعية، وربما تنطبق الظاهرة نفسها أيضا على الحالة الإسلامية، ويمكن اليوم ملاحظة مجموعة من الظواهر والحالات الإسلامية المتشكلة بعيدا عن تأثير الجماعات والحركات الإسلامية التقليدية. فقد تزايد عدد المساجد في الأردن على سبيل المثال، وهي حالة يمكن تعميمها كما يشير التقرير السنوي لدائرة الإحصاءات العامة الأردنية، من نحو ألف مسجد عام 1991 إلى نحو ستة آلاف مسجد عام 2009، كما يشير التقرير السنوي لعام 2009.

وبالنظر إلى رواد المساجد ونشاطها الرسمي والتطوعي؛ فإنها تعمل تحت رعاية وإشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. ويبدو دور الجماعات والحركات الإسلامية فيها محدودا. ويغلب على رواد هذه المساجد غياب العلاقة التي تربطهم بالجماعات الإسلامية، في حين يتذكر النشطاء والعاملون في الحركات الإسلامية في السبعينات والثمانينات، أنه كان يغلب على رواد المساجد من الطلاب والشباب، الارتباط بالجماعات الإسلامية، خاصة الإخوان المسلمين، ثم السلفيين وجماعة التبليغ، التي كانت تنظم حضورهم وأنشطتهم في المساجد. لكن ذلك تحول اليوم إلى عمل عفوي مجتمعي، وقد تضاعف رواد المساجد أضعافا كثيرة، وتضاعفت المساجد في أعدادها كما أسلفت.

وتستقطب الجمعيات والمؤسسات الإسلامية والثقافية عشرات الآلاف من المشاركين والمتطوعين، للمشاركة في حفظ القرآن ودروس الثقافة الإسلامية. وهي جمعيات، وإن كانت تقوم على بعضها قيادات منتمية إلى جماعات إسلامية، فإن المشاركة فيها لا علاقة لها بالعضوية والانتساب إلى هذه الجماعات. ونشأت أيضا مؤسسات اقتصادية وإعلامية وتعليمية كثيرة قائمة على أساس التدين والالتزام بتعاليم الإسلام، لا علاقة لها، في الوقت نفسه، بالحركة الإسلامية، مثل البنوك وشركات التأمين (الإسلامية)، والمدارس والجامعات، والإذاعات ومحطات التلفزيون، ومواقع الإنترنت، وشركات تنظيم رحلات الحج والعمرة، ومحلات بيع الكتب والأشرطة وأقراص الـ«سي دي» الإسلامية، والألبسة الإسلامية (الحجاب)، والجمعيات الخيرية والتنموية والثقافية الإسلامية وفرق الإنشاد الديني.

كانت جماعات الإسلام السياسي تعتمد في استقطاب الأنصار والمؤيدين على التدين، ولكنها لم تعد الممثل الوحيد للدين والتدين، فالوعي الديني يتشكل اليوم ضمن منظومة من المساجد والمؤسسات والفضائيات والمجتمعات ووسائل الإعلام والمؤسسات المختلفة التي لا علاقة لها بالحركة الإسلامية، ولا يكاد يُلاحظ اليوم أثر يُذكر للإخوان المسلمين في ميادين الدعوة والفكر والتأليف والنشر والبحث العلمي.

تحول الظاهرة الإسلامية من «الجماعاتية المنظمة» إلى «المجتمعية» سوف يؤدي بالتأكيد إلى تحول التدين (والإسلامية) إلى منتج اجتماعي وحضاري يعكس حال المجتمعات والطبقات ومصالحها وتطورها التعليمي والثقافي، الأمر الذي سيؤدي إلى أدوار اجتماعية وسياسية للدين متعددة ومختلفة من مجتمع إلى آخر ومن طبقة إلى أخرى. ويمكن اليوم ملاحظة كيف يشكل الدين عاملا أساسيا في حراك الطبقات الوسطى ومحاولاتها للدفاع عن نفسها ومكتسباتها. وفي المقابل، فإن التدين الجماعاتي، يؤدي إلى تحديد مسبق لمواقف وحالات فكرية واجتماعية وسياسية تسعى الجماعات إلى دفع الجماعات والحكومات نحوها، بما يعني ذلك، في بعض الأحيان والحالات، من وعي ونضج وعقلانية واعتدال، وفي أحيان أخرى تطرف وجمود وسلطة اجتماعية قهرية على حريات الناس وضمائرهم. لكن بقاء «التدين» ضمن حراك المجتمعات والطبقات سيكون عودة إلى الأصل؛ أن يكون الدين أداة بيد المجتمع وليس بيد السلطة والجماعات السياسية، فذلك أولى على الرغم من الخسائر والمشكلات المتوقعة في المدى القريب من كونه أداة وموردا بيد الجماعات أو الحكومات، فالمجتمعات تبقى هي الأكثر ضبطا وانضباطا في إيقاع الاستجابة المكافئة للتحولات الاجتماعية والثقافية.

لقد حسبت جماعات الإسلام السياسي نفسها الممثل الشرعي للدين، وأرادت أن تدمج مصالحها ومواقفها مع الدين، لتكون هي الدين، ولكنها لم تلاحظ أن معظم الجماهير لم تنتخبها وتؤيدها لأسباب دينية، ولكن لأنها تأملت فيها قيادة سياسية جديدة بديلة، قادرة على بناء الإجماع الوطني وحل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والحفاظ على استعادة حرياتها وكرامتها. وعلى عكس ما أملت المجتمعات، فقد شغلت الجماعات بالتمكين لنفسها والانتقام من خصومها ومنافسيها، ولم تبادر إلى القضايا الأساسية المحركة والمنشئة للربيع.

* الربيع والبيئة الجديدة

* يمكن هنا ملاحظة نماذج متعددة من التغيير السياسي في الربيع العربي: النموذج التونسي والمصري، القائم على مظاهرات واعتصامات سياسية سلمية واسعة وشاملة أدت إلى تغيير سياسي كبير. والنموذج الليبي والسوري، القائم على صراع عسكري بين نظام الحكم والمعارضة. والنموذج اليمني، القائم على صراع/ توازن سياسي سلمي أو شبه سلمي. والنموذج المغربي، القائم على تسويات وحوارات وضغوط سلمية.

ويمكن ملاحظة شبكة واسعة من الأسباب والعوامل والتحولات التي تجري في العالم والدول العربية منذ أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، كما حدث في أجزاء واسعة من العالم، مثل الاتحاد السوفياتي السابق، وأوروبا الشرقية والبلقان وأميركا اللاتينية وشرق آسيا وجنوب أفريقيا. وقد جرت بالفعل في دول عربية عدة تحولات سياسية واجتماعية وثقافية كبرى ومؤثرة.

ولم تكن مفاجأة صعود الحركات الإسلامية السياسية إلى سدة التأثير والمشاركة والحكم. فقد بدأت هذه الحركات، منذ أوائل الثمانينات، تشكل حالة سياسية جديدة تعبر عن نفسها في تحديات للأنظمة السياسية أو بمشاركة سياسية واسعة، هناك الثورة الإسلامية في إيران (1979) والمشاركة الإسلامية المؤثرة في تركيا منذ أوائل السبعينات، التي توجت بحصولهم على الأغلبية البرلمانية عام 2002، والثورة الإسلامية في أفغانستان (1979)، وفي مصر اكتسحت الجماعات الإسلامية الجامعات في السبعينات، وقُتل السادات على يد الجماعات الإسلامية (1981)، وبدأ الإخوان المسلمون مشاركة فاعلة في مجلس النواب في الثمانينات، ووافق نواب «الإخوان» على التجديد للرئيس مبارك عام 1987، والثورة الإسلامية في سوريا (1979)، والمشاركة الإسلامية السياسية الواسعة في السودان منذ منتصف السبعينات، ثم توجت باستيلاء الإسلاميين على السلطة بانقلاب عسكري عام 1989، وكذلك الحال في المغرب والجزائر والأردن والعراق واليمن ومعظم الدول العربية والإسلامية.

وجاء الربيع العربي من خلال منظومة واسعة من العولمة الشاملة، الاتصالاتية والاقتصادية والسياسية والثقافية، والتداعيات والتحولات المتشكلة حول المعلوماتية والاتصالات واقتصاد المعرفة، والإحاطة المتاحة والشاملة بالمعلومات والمعرفة والأحداث والتطورات التي أصبحت تمتلكها المجتمعات بمختلف شرائحها الاجتماعية والاقتصادية، والتي منحتها فرصة واسعة للاطلاع والمعرفة، والفرص والآفاق المتاحة للعمل والتأثير من خلال شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة للخصخصة والتغيير في علاقات الدولة والمجتمع والدور الاقتصادي والاجتماعي والرعائي للدولة، والأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي أدت إلى مراجعة برامج الخصخصة والليبرالية الاقتصادية وأعادت الاعتبار للدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة في ظل الرأسمالية الاقتصادية ومشاركة الدولة والمجتمعات والشركات.

يمكن وصف الربيع العربي بمقولة «الطبقة الوسطى مضافا إليها شبكة الإنترنت»، ففي ملاحظتها وإدراكها الواضح للفرق بين واقعها وما تتطلع إليه تبحث الطبقة الوسطى عن أدوات فاعلة وسلمية للتغيير، وقد أتاحت الشبكية القائمة على الإنترنت وشبكات التواصل فرصة جديدة لتنظيم اجتماعي شبكي عملاق يسعى للعمل والتشكل نحو أهدافه وتطلعاته، وفي التعولم التقني والاقتصادي والثقافي الذي يشكل العالم اليوم تشكل لدى المجتمعات وعي وإدراك بما تحب أن تكون عليه، مستمد من اطلاعها الواسع على ما يجري في العالم من أحداث وتطورات، هذه القدرة الواسعة على الاطلاع والمشاركة التي أتاحتها الشبكة عرفت المجتمعات بما ينقصها وما يمكن أن تفعله وما يجب أن تكون عليه.

لقد عبر الربيع العربي عن لحظة ولادة مجتمعات جديدة وموارد وأعمال ونخب وقيم وأفكار وفرص جديدة، منقطعة عن الماضي، وتحمل قدرا هائلا من التحولات الكبرى والجذرية، وتبدو الدول والمجتمعات اليوم بصدد تشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية جديدة ومختلفة، وظهور نخب وقيادات ومجموعات جديدة ومختلفة أيضا.

* خطاب منفصل

* لماذا لم تطور جماعات الإسلام السياسي خطابا جديدا يتفق مع التحولات الكبرى، ويلائم مرحلة جديدة في طبيعتها ومحتواها، وفي دور الجماعات الإسلامية نفسها، التي انتقلت من الدعوة والتأثير إلى المشاركة والحكم؟ الواقع أنه انتقال صعب ومكلف لم تقدِّر الجماعات الإسلامية آلامه وصعوباته! لم يقدم الإخوان المسلمون رؤية سياسية واقتصادية تعبّر عن مصالح وتطلعات طبقات المجتمع ومصالحه، وتتجمع حوله وتتحرك لأجل تحقيقه، ومن المحير أن الإخوان المسلمين على الرغم من صلاحيتهم لأن يفعلوا ذلك لم يعبروا عن الطبقة الوسطى، فلم ينعكس حضورهم وتأثيرهم في المهندسين والأطباء والمعلمين والصيادلة والمحامين، في برنامج إصلاحي مجتمعي تتجمع حوله الطبقات الوسطى، ولكنهم ظلوا على الدوام يجتذبون المؤيدين في الانتخابات النيابية على أساس رؤية سياسية مستمدة من مواجهة التسوية السياسية والدعوة إلى الآمال والتطلعات الكبرى للأمة العربية والإسلامية! ولم يقدم «الإخوان» خطابا نظريا وفكريا جديدا يعبر عن التحولات ويجيب عن الأسئلة الجديدة والملحّة، ويفسر أيضا سلوك «الإخوان» السياسي الجديد وإدارتهم للأزمات والقضايا والمواقف التي كانوا يعارضون بعضها أو يدعون إلى بعضها الآخر، ويمكن عرض قائمة طويلة جدا من هذه القضايا والحالات، ومنها على سبيل المثال مما يمكن استحضاره في عصف ذهني سريع: الحريات الفردية والشخصية والاجتماعية، والمسائل الاقتصادية والبنوك والتأمين والقروض، والعلاقات والمعاهدات الدولية، ليس فقط مع إسرائيل، ولكن مع جميع دول العالم، وفي قضايا ومجالات كثيرة، كانوا يعارضون بعضها، مثل شؤون الأسرة وحقوق الإنسان والمرأة، وقضايا أخرى يجري حولها جدل وأسئلة، مثل التبني، وتعدد الزوجات، وضرب الزوجات، ومنح الجنسية لأبناء المرأة المتزوجة من زوج يحمل جنسية أخرى، وحق المرأة بالطلاق (الخلع)، وحق المرأة بالسفر والإقامة وحدها دون إذن من أحد، والعلاقة بين الرجل والمرأة، وحق غير المسلمين في التعليم الديني في مؤسسات الدولة التعليمية، وحق الممارسة الدينية لجميع الأديان والمذاهب.. صحيح أن الجدل حولها كان قائما من قبل، ولكنها صعّدت إعلاميا وسياسيا كتحديات جديدة أمام الجماعات الإسلامية، ومؤشر على علاقتها مع الغرب وفرص وإمكانيات تقبلها.

لماذا غاب النموذج التركي؟

ربما يجب أن يكون السؤال: هل يمكن تطوير نموذج مشابه للنموذج التركي في الحياة السياسية العربية ينظم العلاقة بين الدين والدولة، ويحظى بقبول جميع المواطنين على اختلاف تياراتهم السياسية والفكرية وانتماءاتهم الدينية والثقافية؟

كان حزب العدالة والتنمية التركي محصلة مخاضات وتحولات كثيرة ومتوالية في بنية الحركة الإسلامية التركية وطبيعتها، بعد سلسلة من تدخلات الجيش التركي، وقوانين كثيرة وحاسمة لتنظيم العمل السياسي وفلسفته ومبادئه. فبعد صعود حزب السلامة التركي بقيادة نجم الدين أربكان، في أوائل السبعينات، باعتباره القوة السياسية الثالثة في تركيا، وتولي أربكان منصب نائب رئيس الوزراء، وقع انقلاب كنعان إيفرين عام 1980، وأعادت الحركة الإسلامية التركية تشكيل نفسها في حزب الرفاه على أسس ومبادئ جديدة تمنع توظيف الدين واستخدامه في العمل السياسي، واستطاع حزب الرفاه أن يحقق أغلبية نسبية ويشكل حكومة ائتلافية برئاسة نجم الدين أربكان في منتصف التسعينات، ثم أجبر أربكان على التراجع بفعل ضغوط قوية مارسها الجيش بالتحالف مع قوى سياسية علمانية، ثم تقدمت مجموعة جديدة من قيادات الصف الثاني في حزب الرفاه بمبادرة سياسية جديدة قائمة على مشاركة واسعة للمواطنين الأتراك، يمكن وصفها بمشاركة المتدينين والعلمانيين معا في عقد وتصور جديدين للعمل السياسي، يحافظان على العلمانية ويحترمان الدين. واجتذبت هذه المبادرة عددا كبيرا من السياسيين والنواب السابقين ممن كانوا في قيادة الأحزاب السياسية العلمانية التركية، إضافة إلى عدد كبير من قادة ونشطاء حزب الرفاه. ونجح هذا الحزب في كسب ثقة أغلبية الأتراك، وقيادة تركيا نحو التقدم الاقتصادي. لكن تركيا احتاجت إلى 30 سنة من الجدل والصراع حتى طورت صيغة جديدة معقولة للعمل السياسي تنظم العلاقة بين الدين والسياسة على أسس ملائمة لطبيعة الحياة السياسية والتنافس على السلطة، وتلائم التدين السائد في تركيا أيضا.

إن تجربة حزب العدالة والتنمية تعبر عن الانتقال من فكرة الدولة الإسلامية التي اخترعها الخيال الإخواني، إلى دولة المسلمين التي يجتهد المسلمون في بنائها وتصميمها على أساس من تمثلهم للعصر ومعطياته، كما كان شأنهم طوال التاريخ، فينجحون في ذلك أو يفشلون، ويتقدمون أو يتراجعون، ولكنهم سواء في نجاحهم أو فشلهم، لم يكونوا يعتبرون ذلك من الدين أو مناقضا له، كانوا يحترمون دينهم ويلتزمون به ويسعون للمواءمة في التطبيق والفهم، وقد يخطئون في ذلك أو يصيبون، ويبتعدون عن الإسلام أو يقتربون، وهذا أمر طبيعي ويأتي محصلة للتدافع الإنساني في الآراء والاجتهاد والاختلاف، وظلوا على الدوام مسلمين، لم يكن الإسلام موضوعا للصراع بينهم أو الاختلاف، حتى عندما يختلفون ويقاتل بعضهم بعضا، فقد كانوا يتصارعون كما تتصارع الدول في التاريخ والجغرافيا، ولم يقحموا الدين إلا قليلا في صراعهم، وكان هذا القليل مصدرا للشرور والكوارث يزيد من فداحة الخسائر وصعوبة الصراع! واليوم يمكن ملاحظة نماذج عدة للدول الإسلامية والنماذج الإسلامية في الحكم والسياسة، وهي نماذج متعددة تشجع على القول إن النموذج الإسلامي في الحكم ليس واحدا، وإن الفهم الصحيح للحكم والدولة في الإسلام يجب أن يفهم على أنها دولة مسلمين وليست دولة إسلامية.

إن الكثير من المثقفين والباحثين لا يدركون أن النظام الإسلامي يقوم على تفاعل إيجابي وسليم بين الفكر والعقيدة والثقافة والدعوة، والتحرك بها وسط الواقع والبيئة والمتغيرات والمحددات الكثيرة والممتدة والمتجددة. ولذلك فإن النظام الاجتماعي الإسلامي ينمو ويتجدد ويضمر ويتراجع ويبدع ويتخلف، حسب واقع وحال البيئة المحيطة به من ناس ومجتمعات وحضارة وفاعلية اجتماعية.

وفي ملاحظة وتحليل التجربة المصرية وتطوراتها، فإن ضرورات قصوى تتشكل أكثر من أي فترة مضت، لأجل عقد اجتماعي جديد ينظم الحياة السياسية والعامة، ويتجاوز الروابط المستقلة عن الدول والمجتمعات الحديثة، القائمة، ببساطة، على المعرفة والمشاركة والعولمة والتأثير المتبادل بين الدولة والمجتمعات والأسواق.

يجب أن نتذكر جميعا ونعيد تذكير أنفسنا بأن الربيع العربي قام لأجل التنمية الاقتصادية وتحسين الحياة وتطوير الخدمات العامة والأساسية، خاصة التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، والخدمات والمرافق واستصلاح الموارد وتعظيمها، ولم تغضب الجماهير لأجل أن يأتي رئيس محل آخر، أو يأتي حزب محل حزب آخر، وكأن الشباب والطبقات الوسطى والفقيرة لا دور ولا أهمية لها سوى أن تضحي وتتظاهر وتُقتل في الشوارع والساحات.

لم يكن ثمة مناص من التقدم خطوة أخرى إلى الأمام، هي التعايش والعمل المشترك ودمج جميع المواطنين على اختلاف طبقاتهم وانتماءاتهم وأفكارهم وهوياتهم في مشروع اقتصادي واجتماعي جديد، ولم يكن «الإخوان» موفقين في تقديرهم بأن المصريين يمكن إعادة تشكيلهم في طوابير مؤيدة، كما «الإخوان المسلمون» أنفسهم في تشكيلاتهم التنظيمية والمؤيدة لهم، فالمجتمعات ليست جماعة، والشعب ليس تنظيما.

وفي كلمة، فإن مقياس النجاح في الحكم والسياسة هو «الرضا والثقة»؛ أن يشعر المواطنون بالرضا تجاه نظامهم السياسي والاقتصادي ويثقوا به.

* كاتب أردني