الفلوجة.. 2500 سنة من الحروب والنزاعات

توجد فيها بقايا نظام صدام والمجموعات القبلية - العشائرية و«كتائب» الجهاديين الأجانب

TT

شهد العراق خلال الفترة الماضية أضخم حشد عسكري لقواته منذ نهاية حكم صدام حسين. وتألف هذا الحشد العسكري من نحو 50.000 عسكري مدعومين بآلاف من قوات الشرطة شبه العسكرية، لكن الهدف هذه المرة ما كان صد عدوان خارجي على الأراضي العراقية، بل مهاجمة مدينة الفلوجة الواقعة على بعد نحو 58 كم (40 ميلا) إلى الغرب من بغداد، في الجزء الشرقي من محافظة الأنبار.

رئيس الوزراء نوري المالكي ادعى أن المدينة التي صدت القوات الحكومية تخضع الآن لسيطرة تنظيم «القاعدة». وقد حذر مساعدوه من أن الجيش العراقي الجديد تلقى أوامر بتحرير المدينة باستراتيجية «اضرب واقتل»، إذ نقل عن موفق الربيعي، مستشار المالكي، قوله «لن نأخذ أسرى»، في دلالة واضحة على النيات خلف هذه الاستراتيجية. وهكذا، عن طريق التلويح بشبح «القاعدة» تمكن المالكي من إقناع إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما بتسريع عملية تسليم الأسلحة، بما في ذلك الطائرات من دون طيار التي تحمل وتستخدم صواريخ «هيلفاير»، للقوات الحكومية العراقية. غير أن صورة «الأبيض والأسود» التي رسمها رئيس الوزراء العراقي لا تنقل الصورة كاملة.

بادئ ذي بدء، على الرغم من تورط المنظمات الإسلامية المتشددة في الأزمة الحالية التي تكتنف الفلوجة، ربما يكون من الخطأ وصف جميع المتجمعين ضد المالكي بأنهم أعضاء في «القاعدة». ولا شك أن عناصر «القاعدة» التي تعمل تحت راية «داعش» (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، حاضرة في الفلوجة وموجودة بنسبة أقل في مدينة الرمادي، عاصمة الأنبار، لكن التمرد الذي تمكن من إخراج الفلوجة من قبضة المالكي اجتذب أيضا القبائل والعشائر السنية العربية المسلحة التي كانت ساعدت في طرد «القاعدة» من المدينة قبل عقد تقريبا. بل لقد جاءت المجموعات المتشددة المسلحة هذه المرة إلى الفلوجة من سوريا، حيث عانت فيها أخيرا من سلسلة من الهزائم على يد مجموعات إسلامية منافسة. وفي بعض الحالات كان المالكي نفسه من دفعهم إلى فرض سيطرة مباشرة عبر شن عمليات على ما يسمى تقاطع «الكيلومتر 90»، حيث تلتقي حدود العراق مع الأردن وسوريا، والذي يعد المعبر الرئيس للمتشددين الإسلاميين الذين يحاربون ضد الأسد في سوريا.

قبل ما يقرب من عقد من الحرب، شكل الموقف الاستقطابي الديني المتشدد، بالإضافة إلى حادثة مؤسفة وقعت هناك، مكونات للمزيج القاتل الذي حوّل الفلوجة إلى «عاصمة» للتمرد في العراق و«ساحة» للمعركة الرئيسة الوحيدة التي كان قد خاضها التحالف الذي قادته الولايات المتحدة للسيطرة على البلاد. والحقيقة أن ربع عدد قتلى الجنود الأميركيين في العراق، البالغ 4.000 جندي سقطوا في المعارك، إنما سقطوا في الفلوجة والمدن المجاورة لها.

ولدى إلقاء نظرة على تاريخ الفلوجة نجد أن المدينة كانت مسرحا للعديد من المعارك خلال 2500 سنة. إذ فتح كورش الكبير مؤسس الإمبراطورية في إيران، خلال القرن السادس قبل الميلاد، الطريق إلى البحر الأبيض المتوسط أمام الأخمينيين الذي تمكنوا من اجتياح سوريا وصحراء سيناء ومهاجمة مصر. وأطلق عليها مسمى «هوكست ديزه» (أي «الحصن البعيد»)، وحملته وعرفت به إلى أن استولى عليها الرومان في القرن الثالث بعد الميلاد، وبعده غير اسمها إلى مسيتش (أي «المدينة الوسطى») لأنها كانت تتوسط بساتين النخيل، ويحيط بها نهر الفرات من أغلب الجهات، مما يجعلها تبدو وكأنها شبه الجزيرة. وخلال فتوحات القائد الروماني الشهير مرقس أنطونيوس («مارك أنتوني» أو «أنطونيو» الذي أحب ملكة مصر كليوباترا)، استولى لصوص الصحراء على أمتعة القوات الرومانية عند وصولها إلى الفلوجة، مما أجبرها على التقهقر على عجل بعيدا عن البلدة.

وفي أبريل (نيسان) من عام 224م وقعت الفلوجة في أيدي محتلين آخرين بعد معركة مريرة أقدم خلالها الفرس بقيادة الملك سابور (شابور) الأول الساساني على ذبح الإمبراطور الروماني غورديانوس الثالث. ويومذاك حفر الملك الفارسي نبأ انتصاره على الرومان بثلاث لغات في سفح جبل بالقرب من مدينة شيراز عاصمة فارس. كما غيّر سابور الأول اسم البلدة إلى بيروز - شابور (أو سابور المنتصر). وبمرور الوقت، تعززت قوة البلدة ومنعتها بحيث أصحبت الحامية الرئيسة للفرس في منطقة الفرات الأوسط، وأرست تقليدا عسكريا للدفاع عن النفس ظل قائما منذ ذلك الحين.

وهكذا، على امتداد ستة قرون، ظلت بيروز - شابور (أو سابور المنتصر) «الجائزة» التي كان لا بد من الظفر بها خلال الحروب الفارسية - الرومانية. وبالفعل تمكن الإمبراطور يوليانوس (جوليان) إعادة السيطرة الرومانية على البلدة، غير أنه قتل في معركة أخرى ضد الفرس سمحت لهم باستعادة وجودهم في جميع بلاد الشام. وفي ما بعد شيد الملك الساساني بهرام الخامس قصرا على مقربة من البلدة، وألحق به حديقة تضم العديد من حيوانات الصحراء والزهور الغريبة الموجودة في الحدائق الفارسية. وفي القصيدة الملحمية المسماة بـ«القباب السبع»، التي ألفها النظامي الكنجوي، تمثل البلدة القصر الذي تسكنه أميرة ترتدي ملابس خضراء.

ومع أن البلدة سقطت مرة أخرى في يد الرومان بعد ذلك بقليل، فإن الفرس استعادوها مجددا عن طريق كسرى أبرويز (خسرو برويز) الملك الساساني، الذي كان منهمكا بالمرح والعبث، وكان معاصرا للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم). وفي البلدة شيد كسرى أبرويز معبدا مجوسيا ظلت بقاياه من بين أهم المواقع الأثرية في بلاد ما بين النهرين على مدى عدة عقود.

الفتح العربي الإسلامي لبلاد ما بين النهرين في القرن السابع الميلادي شكل بداية مرحلة تراجع للفلوجة لم تتعاف منها في الواقع إلا في أربعينات القرن الماضي. إذ اجتاح الفاتحون البلدة وأحرقوا مبانيها ومتاجرها، كما دمروا الحدائق وأتلفوا بساتينها، مع العلم بأن مدينة الأنبار القديمة، عاصمة العباسيين الأولى قبل تشييد أبي جعفر المنصور عاصمته بغداد، قامت في مكان قريب جدا منها إلى الغرب، وآثارها اليوم ماثلة بينها وبين بلدة الصقلاوية. وبمرور الوقت بدأ اسم الفلوجة، الذي يعني الأرض الصالحة أو المصلّحة للزرع، في الظهور. ومن ثم، بفضل موقعها، كان لا بد من عودة الفلوجة إلى سابق عهدها كبلدة استراتيجية لأنها كانت المكان الرئيس الذي تتوقف عنده القوافل المتجهة من مناطق الصحراء العربية في طريقها إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط. ولأنها كانت غنية بالموارد المائية، غدت أرضها موقعا مثاليا لممارسة النشاط الزراعي.

وفي العقود الأخيرة، جذبت الفلوجة انتباه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين لعدد من الأسباب:

الأول، لأنها كانت تقع في ما يعرف باسم «المثلث السني» الذي هو عبارة على رقعة من أرض، في غرب العراق وشمال غربه، قدمت الجزء الأكبر من النخبة العسكرية العراقية منذ حكم العثمانيين. وإزاء اقتناعه بأنه لن يكسب مطلقا تأييد الشيعة العراقيين، بذل صدام حسين جهدا دؤوبا لإرضاء «المثلث السني» والإغداق عليه من أجل الحصول على دعمه. وحقا مثلت الفلوجة «الجناح الغربي» من منظومة القواعد العسكرية و«الحاميات المدنية» التي جرى تطويرها في عهد صدام، وكانت مدينة بعقوبة، عاصمة محافظة ديالى وتقع شمال شرقي بغداد، تمثل «الجناح الشرقي» من تلك المنظومة.

الفلوجة - كما سبقت الإشارة - تقع على بعد 58 كيلومترا فقط إلى الغرب من بغداد في منتصف المسافة تقريبا بينها وبين الرمادي، ودائما ما كانت تراود صدام حسين الشكوك إزاء احتمال تنفيذ انقلاب عسكري ضده داخل بغداد، لذلك كان يحتفظ بقوات في كل من الفلوجة وبعقوبة، الجناحين الغربي والشرقي الاستراتيجيين، لمواجهة أي انتفاضة تندلع في العاصمة.

كذلك أحب ابنا صدام، عدي وقصي، الفلوجة بسبب جمالها الطبيعي وقربها من كل من نهر الفرات والصحراء وبحيرة الحبانية إلى غربها. وأقدما على تشييد القصور فيها وفي محيطها، بما في ذلك بحيرة اصطناعية تتوسطها جزيرة اصطناعية، وبنوا ناديا للقوارب كانت تنظم فيه سباقات للقوارب وممارسة الرياضات المائية. وعام 1995، شيد صدام حسين، بنفسه، واحدا من قصوره الـ22 في المنطقة. ولقد سقطت القصور التي كانت يمتلكها الرئيس الأسبق وعائلته في أيدي الجيش الأميركي، وتحول القصر الذي كان يمتلكه قصي إلى مقر لوحدة العمليات النفسية 361 الأميركية، التي كانت مهمتها كسب تأييد أهل تلك المدينة المهمة. وكان قصر قصي يقع في قلب معسكر أورهارم (Camp Orharm)، الذي كان أحد مرافق القوات الأميركية المهمة في منطقة الفرات الأوسط.

وبسبب دور الفلوجة كحامية عسكرية بارزة وحيوية، صارت موطنا لعدد كبير من عائلات العسكريين. ووفق بعض التقديرات، كان أفراد الجيش العراقي يمثلون ما لا يقل عن ربع سكان المدينة البالغ عددهم نحو 400 ألف نسمة، بما في ذلك قوات الحرس الجمهوري والقوات شبه العسكرية التي أسسها صدام حسين وأبناؤه. كما اتخذ العدد الأكبر من عائلات الحرس الوطني، الذي شكله أعضاء حزب البعث في ستينات القرن الماضي، من الفلوجة موطنا لهم.

لقد أرسى تاريخ الفلوجة تقليدا عسكريا للدفاع عن النفس في المدينة، وقد شاركتها مدن عراقية قليلة ذلك التقليد. غير أنه ينبغي أن تُضاف إلى ذلك «التقليد» شخصية الفلوجة الدينية، إذ تعد المدينة أكبر نقطة تجمع للجماعات الأصولية السنية منذ القرن التاسع عشر. كذلك كانت الفلوجة هدفا مهما خلال القرن الثامن عشر من قبل دعاة نجد بوسط شبه الجزيرة العربية الذي كانوا يكرهون الطريقة التي يجل بها الشيعة في بلاد ما بين النهرين أئمتهم بصورة تقرب إلى التقديس. وعام 1802، أغار مسلحون نجديون في صفوفهم عدد من المتطوعين من بلدة الفلوجة على مدينتي كربلاء والنجف اللتين تتمتعان بمكانة رفيعة عند الشيعة، ودمروا خلال الإغارات العديد من الأضرحة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الفلوجة موطنا لمعظم رجال الدين الأصوليين المتشددين والمدارس الخاصة بهم في العراق.

ومن ثم، كان لا بد لهذا الطابع الديني للفلوجة من الاصطدام مع شخصيتها كواحدة من المراكز العسكرية المهمة. وبالفعل حدث الصدام الأول في منتصف ثمانينات القرن الماضي عندما أمرت الحكومة بأن يرفع الدعاء في نهاية جميع خطب المساجد لصدام حسين، ورفض رجال الدين في الفلوجة تلك الأوامر، فانتهى الأمر بزج كثيرين منهم في غياهب السجون. كذلك حاصر صدام المدينة ماليا عندما قطع الدعم الحكومي عن المدارس الدينية في الفلوجة، لكن هذا الإجراء لم يفت كثيرا في عضد المدينة، التي كانت تعتمد على بشكل جزئي على التبرعات والتحويلات التي كانت تأتيها من دول الخليج الغنية، التي تعج بالهيئات والجمعيات الخيرية الإسلامية النافذة. كذلك شيدت عدة دول خليجية المستشفيات ودور الأيتام والمرافق الاجتماعية الأخرى في الفلوجة كنوع من التقدير لطبيعتها المتدينة.

في حرب غزو العراق عام 2003، ما كان هناك مبرر أمام أهل الفلوجة للوقوف بجانب صدام حسين، غير أنه وقع بعد ذلك عدد من الحوادث المؤسفة في البلدة. إذ وقع أول تلك الأحداث في مارس (آذار) 2003 عندما أطلقت إحدى القاذفات البريطانية أربعة صواريخ موجهة بالليزر على جسر فوق نهر الفرات جنوب المدينة، ومع أن ثلاثة من الصواريخ أخطأت أهدافها وسقطت في النهر، فإن الرابع ضل طريقه وأصاب سوقا مفتوحة داخل الفلوجة، مما أسفر عن مقتل نحو 150 من المدنيين الأبرياء. ولقد استغل الأصوليون وبقايا جيش صدام والحرس الجمهوري في الفلوجة تلك الحادثة لإثارة الكراهية ضد قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة. وخوفا من أن تكون قوات الائتلاف بمثل وحشية صدام حسين، بدأت المظاهرات صغيرة واقتصر تنظيمها على الميدان الرئيس في المدينة. ولكن سرعان ما أدرك زعماء الفلوجة أن التحالف لا يمكن أن يدخل المدينة ويُعمل فيها القتل كما كان يفعل صدام حسين، فضلا عن أن وجود المئات من الصحافيين الأجانب وكاميرات التلفزيون وفر لهم الحماية اللازمة لتنظيم مثل تلك المظاهرات. وهكذا غدت الفلوجة مسرحا للمظاهرات شبه اليومية، واكتسبت شهرة واسعة كمركز المعارضة الرئيس لقوات التحالف.

أيضا، ارتكبت قوات التحالف ما وصفته بخطأ غير مقصود جعل الأمور تتدهور أكثر، إذ استولت القوات الأميركية على الوحدات السكنية، التي كانت قد بنيت للحرس الجمهوري وأسرهم، وحولتها إلى مساكن لإيواء عسكرييها. وكان جرى إخلاء تلك المنازل قبل بداية الحرب، عندما أرسل الحرس الجمهوري أفراد أسرهم إلى أماكن بعيدة أكثر أمنا بعيدا عن بغداد. ولكن هذه الأسر اكتشفت عندما عادت إلى المدينة بعد سقوط صدام حسين في أبريل أن منازلها يحتلها الأميركيون.

في السياسة يُقال الأخطاء لا تأتي فرادى، إذ تفاقم الوضع أكثر عندما قرر السفير الأميركي بول بريمر، رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة، تفكيك الجيش العراقي وقوات الحرس الجمهوري. وأدت هذا الخطوة إلى أن وجد آلاف العراقيين أنفسهم فجأة مشردين من دون مأوى أو عمل، فضلا عن أنهم صاروا موضوعا للسخرية من قبل المواطنين في بلادهم الذين أخذوا يصفونهم بـ«الجبناء» الذين ولوا هاربين وقت الضربة العسكرية الأميركية. وهكذا، قرر هؤلاء أن حمل السلاح ضد القوات الغازية بات السبيل الوحيد الذي سيوفر لهم عملا يعتمدون عليه في إعالة عائلاتهم، فضلا عن أنه يمثل مبررا منطقيا لصمودهم واستعادة كرامتهم، وبالفعل، مثل كل ذلك وصفة مثالية للاقتتال والاحتراب.

في المقابل، جعل الموقع الجغرافي للفلوجة منها مكانا مثاليا لأعضاء مجموعات حروب العصابات لاختباء. فالمدينة تغطي مساحة صغيرة نسبيا لا تتعدى 3×3.5 كيلومتر مربع، تحيط بها بساتين نخيل كثيفة، مما يمكّن أي شخص أن يظل متواريا عن الأنظار كما يريد. ثم إن المدينة بنيت على ضفتي نهر الفرات، مما يوفر فرصا كبيرة لإمكانية الدخول والخروج منها عن طريق النهر. أضف إلى ذلك أن المزارع الكثيفة، التي تحيط بالفلوجة في شكل حلقة عظيمة، تعمل كحائط صد دفاعي آخر، بالإضافة إلى كونها ممرا مثاليا للهروب خارج بساتين النخيل. وأخيرا وليس آخرا هناك الطبيعة الطينية لأرض المدينة التي تجعل من الصعب على المعدات العسكرية الدخول إليها.

من جهة ثانية، نظرا لضيق مساحة الفلوجة فإنها تتصدر مدن العراق من حيث الكثافة السكانية، وهي تحتوي على متاهات من الأزقة والشوارع الضيقة التي تعج بأعداد هائلة من الناس الذين يعيشون في مساكن صغيرة نسبيا، مع أن بعض الشوارع القليلة الواسعة تخترقها وتكفي لتحرك المدرعات العسكرية فيها. ولقد استطاعت قوات التحالف السيطرة على الفلوجة عندما قررت مجموعات «الصحوات»، التي نظمتها القبائل والعشائر السنية، طرد الأصوليين الجهاديين الأجانب من مدينتهم.

اليوم تقدّر بعض المصادر أنه بعد اندلاع القتال الأخير في الفلوجة لم يبق بها أكثر من ربع أو ثلث سكانها، ويذكر أنه في وقت سابق من الشهر الحالي ناشد رئيس الوزراء نوري المالكي جميع سكان الفلوجة مغادرة المدينة. غير أن تقارير أخرى واردة من المدينة تقول إن غالبية سكان المدينة، حيث تتورط ثلاث مجموعات مختلفة على الأقل في المعارك الحالية، قرروا البقاء رافضين المغادرة.

وتتكون إحدى تلك المجموعات من بقايا جيش صدام حسين، ويعتقد أعضاء هذه المجموعة أنهم إذا ما استطاعوا منع إقامة نظام جديد في بغداد، فإنهم سيتمكنون من استعادة النظام القديم، واسترجاع جزء ولو بسيط من الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها في يوم من الأيام. بينما تتكون المجموعة الثانية من المسلحين الأصوليين المحليين المدعومين من قبل بعض العناصر القبلية والعشائرية، الذين يرون - على الرغم من سعادتهم بسقوط نظام صدام حسين - أن المالكي يريد احتكار السلطة من أجل الشيعة، ومن ثم يحرم السنة العراقيين من حقوقهم المشروعة في السلطة والرخاء. وعلى الرغم من أن العرب السنة العراقيين يمثلون 25 في المائة على الأقل من مجموع السكان في العراق، فإن الاستثمارات الحكومية الجاري تنفيذها في المحافظات الثلاث الرئيسة التي يتمركزون فيها تقل عن 10 في المائة من مجموع استثمارات القطاع العام في البلاد. كذلك يسمع السنة العراقيون كثيرا عن الازدهار غير المسبوق الذي تحظى به المحافظات الكردية الثلاث، التي تتمتع بحكم ذاتي، والرخاء الذي تتمتع به المناطق الجنوبية الشيعية، ويشعرون بأن المالكي قد خذلهم. ولمن يزور العراق اليوم يكتشف أنه في حين تزدهر أربيل والنجف، تبدو الفلوجة والرمادي في طريقهما إلى التراجع والخراب.

أما المجموعة الثالثة فتتكون، كما جرت الإشارة إليها في البداية، من المتشددين المرتبطين بتنظيم «القاعدة»، وهم في الغالب جهاديون أجانب أتوا من مختلف الدول العربية. ويتميز هؤلاء بجملة من المهارات التي يفتقر إليها الثوار المحليون، بما في ذلك التفجيرات الانتحارية وتقطيع الرؤوس. غير أنه ينبغي الإشارة مرة أخرى إلى أن الود المتبادل ليس كبيرا إطلاقا بين الجهاديين الأجانب والمتمردين المحليين في الفلوجة، غير أن الفريقين يشعران، مؤقتا، بأن كليهما بحاجة إلى الآخر، بينما يهدد المالكي بالقضاء عليهم جميعا.