ثلثا بلدان العالم معرضة لانتشار الفساد بسبب ضعف الضوابط التشريعية

ثلاث سنوات من «الربيع العربي» كشفت عن تشتت الأمن والاستخبارات والدفاع

TT

قد يكون قطاع الأمن، بطبيعته التي تميل إلى السرية، أحد أكثر المجالات صعوبة وغموضا، عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الشفافية. ويعد خضوع القوات العسكرية للسيطرة المدنية أمرا ضروريا، وهو مقبول على نطاق واسع.

ولكن الحال، لا يستمر هكذا على الدوام. فالرأي السائد في كثير من البلدان، ويعد رأيا غالبا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن مهمة الجيش حماية «الدولة». لكن في الواقع الفعلي، يتولى الجيش أو ينبغي أن يتولى حماية المواطن في المقام الأول، ثم حماية الدولة، فالمواطن يجب أن يكون محور هذه القضية، وليس على هامشها. لقد باتت طبيعة القطاعات الأمنية، والاستخبارات، والدفاع في العالم العربي، أكثر تشتتا من أي وقت مضى، لا سيما في أعقاب المراحل الانتقالية.

في الماضي القريب، كان التواصل مع شخص من جهاز أمن الدولة، في مصر مثلا، والتحدث إليه عبر الهاتف، أمرا ممكنا، على الرغم من أنه لم يكن دائما سهلا. كان ممكنا، أيضا، تفهّم سبب منع إقامة ورشة عمل أو حدث خاص بك. في الفترة الحالية، يبدو الأمر أكثر صعوبة. في الوقت نفسه، يتعرض النشطاء في الجزائر، للمنع من خلال أحد فروع أجهزة الاستخبارات. وقد يتلقون تبريرات مهذبة واعتذارات من فرع آخر. وغالبا ما يصعب فهم هذا المنطق. بيد أنه كان واضحا أن الفروع المختلفة لقطاعي الاستخبارات والأمن، لا تعمل دائما معا بطريقة منسقة، وكذلك لا تتبادل المعلومات بالضرورة.

كانت حركة انتقال العاملين في الشرطة أو الأمن أو المخابرات إلى النيابة، من الأمور المعتادة في العالم العربي. ومن خلال هذا المسار، ينتهي بهم المطاف إلى القضاء. ونتيجة لذلك، حمل هذا السلوك إمكانية ممارسة تأثير قوي على ثقافة السلطة القضائية، مما جعلها أقل شفافية وأقل خضوعا للمساءلة.

* قطاع أمني غير شفاف

* في مواجهة قطاع أمني غير شفاف، وقد يكون متحفظا وغير خاضع للمساءلة، ما الذي يمكن القيام به لإحداث تغيير؟ ولماذا أصبحت مكافحة الفساد في القطاعات الأمنية مهمة للغاية؟

يعترف كثير من كبار المسؤولين في أجهزة الأمن والدفاع، بأن الفساد أكثر ضررا من مجرد تشويه سمعة قوات الأمن، حيث يهدر الموارد القليلة ويجعل عملياته أقل كفاءة. كما أنه يقلل من ثقة الجمهور في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، مما يعرض مصداقيتها للخطر. وإذا تحدثنا بصورة أعم، فإن الشركات الأجنبية لا تستثمر في الأنظمة الاقتصادية الفاسدة، لأنها لا تستطيع ضمان سلامة استثماراتها. وفي حال حدوث نزاع، تثار شكوك حول نظافة المحاكم ونزاهتها. ويمكن أن تتسبب شبكات الرعاية في الجيش وأنظمتها في آثار غير مباشرة تتجاوز قطاعات الأمن والدفاع، وخاصة إذا كانت الأعمال العسكرية هي المعنية.

يعمل برنامج الدفاع والأمن في منظمة الشفافية الدولية (TI - DSP) مع الحكومات، وشركات الدفاع، والقوات المسلحة، والمجتمع المدني، وصناع السياسة، من أجل تحسين معايير مكافحة الفساد في قطاع الدفاع والأمن منذ عام 2004. وهدف البرنامج الأساسي، هو التأكد من تطبيق آليات قوية وفعالة في الحكومات والشركات لمنع الفساد في قطاع الدفاع، وتمكين المجتمع المدني من المطالبة بالشفافية والمساءلة فيه.

في يناير (كانون الثاني) 2013، أصدر برنامج الأمن والدفاع في منظمة الشفافية الدولية، المؤشر الحكومي لمكافحة الفساد في قطاع الدفاع «GI»، الذي يقدم أبحاثا شاملة غير مسبوقة في هذا المجال. يحلل المؤشر قابلية 82 حكومة لوقوع الفساد في قطاع الدفاع والأمن لديها. وقد نشرت النتائج الكاملة على موقع مخصص له. تضمن المؤشر 19 سؤالا متعلقا بدور البرلمانات والمجالس التشريعية في مكافحة الفساد في قطاع الدفاع والأمن.

تترك النتائج شعورا بالقلق، حيث تشير إلى أن ثلثي بلدان العالم معرضة لمخاطر عالية جدا بوقوع الفساد بسبب ضعف الضوابط التشريعية على قطاع الدفاع والأمن. لكن الأسوأ من ذلك، هو افتقار 85 في المائة من البلدان، إلى الرقابة التشريعية الفعالة على سياسة الدفاع.

ربما تكون مقدرة المجلس التشريعي على إخضاع مؤسسات الدفاع والأمن للمساءلة، أهم قدرة تملكها الدولة من أجل مكافحة الفساد. إذا لم تضع لجان الدفاع البرلمانية القوات المسلحة قيد المساءلة، فسيكون هناك أمل ضئيل في أن تؤدي أي جهة أخرى هذا الدور.

من أجل إصدار هذا المؤشر، عمل فريق الأمن والدفاع في منظمة الشفافية الدولية، مع الحكومات وشركات الدفاع والقوات المسلحة والمجتمع المدني وصنّاع السياسة. يقدم المؤشر بحثا أصليا أعده متخصصون يتمتعون بمعرفة وثيقة بالدول. يقيس المؤشر مخاطر الفساد في خمسة مجالات رئيسة: سياسية، ومالية والعاملين، والعمليات، والمشتريات. وتوصلت الدراسة إلى أن 70 في المائة من البلدان، تترك الباب مفتوحا أمام الإهدار والتهديدات ضد الأمن، لافتقارها إلى الأدوات اللازمة لمنع وقوع فساد في قطاع الدفاع والأمن. وجرى تصنيف جميع البلدان، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بأنها تواجه مخاطر عالية أو عالية جدا أو حرجة بوقوع الفساد، تقريبا.

لا تملك 85 في المائة من الدول الرقابة الفعالة على سياسات الدفاع الخاصة بها. لا تملك البرلمانات والمجالس التشريعية في ثلثي الدول قيد الدراسة، البالغ عددها 82، ضوابط كافية، مما رفع مخاطر وقوع الفساد في وزارات الدفاع والقوات المسلحة إلى درجة عالية أو حرجة، على الرغم من أن البرلمانات والمجالس التشريعية يُفترض أن تلعب دورا رئيسا في المعركة لمنع هذه المخاطر.

ويمكن لهذه المؤسسات التشريعية القيام بذلك عن طريق تشريع قوانين لمنع الفساد، وطرح قضايا الفساد في قطاع الدفاع للنقاش على المستوى الوطني، وممارسة صلاحيات الرقابة. ومن المهم أن نفهم، بشكل أفضل، نقاط القوة والضعف في المؤسسات التشريعية في السيطرة على الفساد في قطاع الدفاع والأمن، وأن نقدم إرشادات واضحة حول كيفية تقديم البرلمانات والمجالس التشريعية أداء أفضل، وهذا ما فعلته نتائج التقرير.

* اختلاس أموال الجيش

* تختلف أنماط الفساد التي تقع داخل المؤسسة العسكرية بدرجة كبيرة، فتتراوح ما بين فساد محدود على نطاق ضيق، حيث يتورط الجنود في عمليات ابتزاز أو قبول رشوة، إلى فساد واسع النطاق، يتورط فيه المسؤولون باختلاس أموال الجيش. وتشارك كثير من قوات الدفاع حول العالم في مشاريع جارية، وغالبا ما تخضع هذه المؤسسات لإشراف ورقابة غير كافيين. تنتشر مثل هذه الشركات المملوكة للجيش، في قطاعات الموارد الطبيعية، وفي صناعات النفط والتعدين والغاز الطبيعي. علاوة على ذلك، يساعد موقف الجيش المتميز في المجتمع، على الاستفادة من شبكات المحاباة والنفوذ التي يكوّنها. ونظرا لمسؤوليته عن تأمين الحدود، يعطي هذا النفوذ الجيش القدرة على استيراد وتصدير البضائع بسهولة دون الخضوع إلى تفتيش أو دفع رسوم جمركية، على الرغم من أن ظاهرة الشركات المملوكة للجيش واسعة الانتشار، فليست هناك معلومات كافية يمكن الحصول عليها بسهولة في هذا الصدد.

على الرغم من أن هذه الأنماط من السيناريوهات أكثر انتشارا في البلدان النامية، فإن الدول الأكثر تقدما ليست بمنأى عن هذه القضايا. لماذا تمثل الشركات المملوكة للجيش إشكالية؟ هناك أسباب كثيرة. يشكّل إدخال الأرباح والحوافز التجارية على منظمة لا تهدف إلى الربح، تهديدا لنزاهة الجيش كمؤسسة. بمجرد أن يقام مشروع تجاري تابع للجيش ويبدأ في العمل، يكون الميل إلى وجود رقابة معنية محدودة للغاية. علاوة على ذلك، يلحق النشاط الاقتصادي الذي يديره الجيش، الضرر بعلاقته بالشعب على نطاق أوسع. غالبا ما يعني موقف الجيش المتميز، أنه يحصل على امتيازات وفرصة وصول إلى موارد الدولة التي لا يحق للمدنيين بشكل عام الحصول عليها.

يمكن أن تجعل العلاقة المعقدة بين الجيش والمشاريع التجارية الاستثمار في الدولة المعنية، أقل جاذبية للشركات الأجنبية، لأنها لن تستطيع المنافسة على قدم المساواة مع شركات الجيش.

تستطيع شركات الجيش التطور كهياكل تجارية رسمية أو غير رسمية. في الإطار الرسمي، تعدّ شركات الجيش لاعبا اقتصاديا رئيسا، وتندمج بشكل كامل في الاقتصاد. في النموذج غير الرسمي، تكون مشاريع الجيش التجارية غير قانونية بطبيعتها، وغير معترف بها من قبل الدولة كلاعب اقتصادي رسمي. وعموما، يدرك المعلقون أنه كلما كانت الدولة قوية، انخفضت فرص ظهور مشاريع تجارية تابعة للجيش. تعاني شركات الجيش غير الرسمية، من نقص الشفافية. في بعض الحالات، تشارك الشركات التجارية غير الرسمية التابعة للجيش، في أنشطة غير مشروعة. على سبيل المثال، في إندونيسيا وكمبوديا، كانت هناك تقارير تفيد بتورط جنود في شبكات دعارة وغسل أموال.

تثير حالة الصين قدرا كبيرا من الاهتمام. في التسعينات، أدار جيش التحرير الشعبي أكثر من عشرة آلاف شركة. كان السبب الرئيس لإقامة هذه المشاريع، هو إنشاء برنامج اكتفاء ذاتي، لأن تخفيضات ميزانية الدفاع، في الثمانينات، دفعت جيش التحرير الشعبي إلى البحث عن مصادر دخل أخرى. وعلى الرغم من اللوائح الصارمة التي حكمت شركات جيش التحرير الشعبي، استمرت مزاعم وجود فساد في القوات المسلحة في الظهور.

* تطهير الجيش من الفساد

* في باكستان، لا يفرض على الشركات التجارية التابعة للجيش أي نوع من الرقابة الشاملة الرسمية. ويُذكر أن القوات المسلحة الباكستانية، هي أحد أكبر ملاك الأراضي في البلاد، إذ تسيطر على ما يقرب من 12 مليون فدان، أو ما يقرب من 12 في المائة من أراضي الدولة. خلال السنوات الماضية، استخدمت القوات هذه الممتلكات، لإقامة مختلف الأنشطة التجارية. وكانت هناك انتقادات من جانب الحكومة الباكستانية، حيث طالب المراجع العام للحسابات وزارة الدفاع، بتحويل الأرباح التي حصلت عليها من حيازات الأراضي، إلى خزينة الدولة.

تظل الشركات المملوكة للجيش محفوفة بالمخاطر بالنسبة لأي دولة. في الأساس تضر التعاملات التجارية بالقوات المسلحة، لأنها بمثابة تشتيت لها عن مهامها الأساسية. كما أن عنصر تحقيق الأرباح يؤدي، حتما، دورا كبيرا في انتشار الفساد في الجيش. بمجرد أن يبدأ الجيش في الانخراط في نشاط اقتصادي، قد يكون من الصعب وضع حد له. في الصين، أدت محاولات الحكومة لتطهير أنشطة الجيش التجارية، إلى إغلاق كامل لشركات جيش التحرير الشعبي. بالنسبة للرئاسة المدنية، لم يضر فساد الجيش فقط بسمعة جيش التحرير الشعبي الصيني، ولكنه عدّ أيضا مقوضا للحزب الشيوعي الصيني.

أحد العوامل الرئيسة في محاولة تطهير الجيش من الفساد، كان وجود نظام قضائي مستقل قادر على محاسبة مسؤولي الجيش الذين تثبت إدانتهم في قضايا فساد. يمكن أن يصبح هذا ممكنا فقط، عندما يكون النظام القضائي ذاته نزيها، وغير مخترق من قبل أفراد من قوات الأمن أو الدفاع.

في ظل غياب صلاحيات النيابة العامة، لن تفضي جهود الإصلاح إلى النجاح. يمكن أن يكون وضع نهاية لمشاريع الجيش صعبا، وسيتطلب جهدا على المدى الطويل. ولكن في الحالات التي كتب لها النجاح، يمكن ملاحظة عناصر مشتركة محددة. تستطيع قيادة جديدة للجيش ليست مشتركة في الأعمال التجارية التابعة للجيش، أن تساعد على خلق ثقافة جديدة ستكون ضرورية لتحقيق تغيير فعلي. كما ينبغي التخلص من امتيازات الوصول إلى البنية التحتية الوطنية التي كان يتمتع بها الجيش في السابق. ويجب تقديم تشريعات جديدة تُطَبق كما ينبغي، من شأنها أن تقيد حجم مشاريع الجيش التجارية. ويظل تعزيز قوة النظام القضائي وقدرته على المقاضاة عاملا بالغ الأهمية.

في الحالات التي يوجه فيها الجيش نظره إلى الداخل، من المرجح أن يتخطى أي آليات للمساءلة، إن وجدت، باسم الحفاظ على الأمن الداخلي. على سبيل المثال، في حالة سوريا، ركز الجيش، في السنوات الأخيرة، على الحفاظ على الأمن داخل حدود البلاد. وتحت ذريعة الحفاظ على الأمن الوطني، أصبح من السهل كثيرا مخالفة القواعد واللوائح واحترام الحريات المدنية.

ويمكن أيضا أن تلعب حكومة مدنية قوية وبرلمان فعال، دورا حيويا في تمرير التشريعات، وضمان وجود آليات مساءلة لقوات الأمن والدفاع. وإذا لم يكن هذا موجودا، فإنه سيؤدي حتما، إلى الفوضى وانعدام الشفافية. على سبيل المثال، في إيران، أصبح حسن روحاني، بعد فوزه في يونيو (حزيران) في العام الحالي، مسؤولا عن السلطة التنفيذية التي تقود الاقتصاد.

ومع ذلك، تظل المساعي النووية وشؤون الدفاع والخارجية في المقام الأول، في يد رجال الدين الحاكمين والحرس الثوري. على الرغم من أن تعيين الحرس الثوري في الأساس، كان يهدف إلى حماية النظام الإسلامي للبلاد من التدخل الأجنبي، إلا أن سيطرته على شؤون الدفاع والأمن، أدت إلى تضارب في المصالح لا مفر منه.

لا شك في أن الدولة تحتاج إلى قوات عسكرية وأمنية محترفة قادرة على التكيف مع الاحتياجات الدفاعية للبلاد. ومن دونها، تصبح الدولة في الحال، أكثر عرضة لجميع أنواع الهجمات المحتملة. ولكن ما نحتاج إلى رؤيته، وما زال غير معمول به في كثير من البلدان التي تضم معظم الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، جهاز أمني وجيش ينصب تركيزه الأساس على الدفاع عن المواطن والدولة. لا ينبغي أن يكون التركيز على تقوية الأجهزة الأمنية أو الجيش لذاته.

إذا ظلت الأهداف الأصلية لقوات الأمن والدفاع مهمة في أذهان القيادة، إلى جانب الرؤى الاستراتيجية، وزيادة الشفافية، وآليات المساءلة، ونظام استحقاق لمكافأة أفراد الجيش والجهاز الأمني، فستزيد احتمالات حدوث التغيير. ولكن هذا النوع من التغيير يستغرق وقتا، ويمكن أن يستغرق تغيير ثقافة الجيش أو الأمن المعقدة، جيلين أو ثلاثة أجيال. ولكن في النهاية ربما نرى تطور نوع جديد من قوات الأمن والدفاع، تلك القوة التي تعد نفسها في خدمة الشعب وحمايته، بدلا من تلبية احتياجات ذات دافع داخلي خاصة بها.

* خبيرة في مجال التنمية الدولية