القرضاوي.. من مفكر إسلامي إلى «فقيه جماعة»

زاد من خسائرها ودفعها نحو التطرف

الشيخ يوسف القرضاوي
TT

ليست مصادفة أن يحظى الشيخ يوسف القرضاوي، بهذا الزخم الديني والإعلامي الذي لا يضاهيه أحد في الوقت الراهن، لما يمثله من مكانة علمية، جعلته واحدا من المراجع العلمية لدى جماعة الإخوان المسلمين.

صحيح أن الجماعة وقادتها حظوا باهتمام واسع على مدى الأعوام الـ80 الماضية، إلا أنه من الصحيح أيضا أن هذا الاهتمام ظل محصورا في مواقفها من السلطة الحاكمة، سواء اتسمت هذه المواقف بالمعارضة الصريحة، أو بإبرام صفقات تفوز بمقتضاها ببعض المغانم من السلطة. كما أنه من الصحيح أيضا اختلاف مظاهر هذا الاهتمام خلال العامين الماضيين، مع ما شهدته المنطقة العربية من تحولات استراتيجية، أفرزت تغييرا في أنظمة الحكم، في بعض البلدان العربية، تولت على أثرها جماعة الإخوان المسلمين المسؤولية والحكم، كما حدث في تونس ومصر، حيث نجحت جماعة الإخوان وجناحاها السياسيان، كما يحب أن يوصف حزب النهضة في تونس وحزب الحرية والعدالة في مصر، في الوصول إلى منصب رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية في تونس ومصر على الترتيب، من دون أن يقلل ذلك من دور الجماعة في الأزمة الليبية، وكذلك وجودها الآن في الأزمة السورية.

لكن ما يهم هو وصولهم إلى رئاسة الدولة في مصر، كونها المهد الأول للجماعة، وبها مكتب المرشد العام، وكل المؤسسات التي تدير الجماعة على مستوى العالم، باستثناء مقر التنظيم الدولي الذي يشرف عليه، أيضا، مكتب الإرشاد، بمعنى أكثر تحديدا، أن ما حققته جماعة الإخوان المسلمين في مصر، يظل نقطة فاصلة وجوهرية في مسار الجماعة ومستقبلها، دفع كثيرا من الباحثين والمتخصصين إلى دراسة أسباب هذا الصعود، ومساراته المستقبلية، وتداعياته على الجماعة وأعضائها، وعلى البلدان التي حكمتها. إلا أنه لم تكد تخرج هذه الدراسات والتحليلات إلى النور، إلا وعصفت أحداث الـ30 من يونيو (حزيران)، والثالث من يوليو (تموز) 2013، بوجود الجماعة في الحكم، لتشهد أقوى صفعة منذ نشأتها. فقد أوجد السقوط المدوي، بعد عام بالضبط من وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم، وعودتهم إلى جماعة محظورة بإرادة شعبية، وليس بقرار من السلطة الحاكمة وحسب، نقطة تحول أخرى أكثر أهمية، جعلت الباحثين والدارسين يسارعون إلى قراءة فكر المنظرين والمفكرين المنتمين إلى هذه الجماعة، للوقوف على العقل الموجه والفكر المسيطر على توجهات الجماعة وسياستها خلال المرحلة المقبلة، وهو ما يستوجب بدوره، قراءة لواحد من المفكرين الرئيسين الموجهين لعمل الجماعة، أي الشيخ يوسف القرضاوي، لعل ذلك يسهم في فهم ما حدث.. ولماذا حدث؟ وما رؤية الجماعة فيما حدث؟ وكيف ترى الواقع ومشكلاته؟ وما رؤيتها للتعامل مع هذا الواقع؟

* لقاءات الأسر والكتائب

* لا شك في أن الإجابة عن التساؤلات السابقة، تحتاج إلى دراسات متعمقة عن فكر الجماعة وقادتها، والكيفية التي تدير بها شؤونها سواء في أوساطها الداخلية أو داخل الجمعية أو داخل الحزب، على الرغم من أنهم يمثلون كيانا واحدا لا انفصام بينهم. إلا أن ما نحاول تقديمه هو قراءة في فكر المنظر الأول للجماعة اليوم، الذي يقدم رؤى وأطروحات تتعلق بسياسة الجماعة ومواقفها حيال مختلف القضايا، في محاولة للإجابة عن سؤال، كيف تفكر الجماعة؟ وذلك من خلال نقاط عدة، نقف فيها على بعض مواقف الشيخ وأفكاره بعيدا عن القضايا الفقهية، فتلك لها مقام آخر، كونه لدى الجماعة ليس الفقيه والداعية الذي يكتفي بمدها بالزاد الفقهي والدعوي وحسب، بل هو، بالنسبة لها، أيضا، المربي والمؤطر التربوي، فقد شارك مبكرا في وضع البناء التربوي والثقافي داخل التنظيم، عبر سلسلة مقالات مطولة كتبها لهذا الغرض، تحت عنوان «ثقافة الداعية»، كانت تنشرها «مجلة الدعوة» التي كانت تصدرها الجماعة في السبعينات، وذلك كله على النحو التالي:

أولا: شارك القرضاوي في عملية تأطير أبناء الجماعة وتكوينهم داخل محاضنها التربوية الخاصة، مثل لقاءات الأسر والكتائب، وهي لقاءات مغلقة على أطر الجماعة. فقد تابع الجماعة، منذ انضمامه لها في مراحل نموها، بالنصح والتوجيه. وسعى إلى إرشادها إلى وجهات محددة. وكتب رسائل عدة مهمة، دارت كلها حول رسم توجهات الجماعة وسياستها، من أهمها: «الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف»، و«الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي»، و«الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم»، و«الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد»، و«من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا»، و«أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة المقبلة».

وفي محاولة لفهم فكر الجماعة، التي ظلت تعمل لمدة طويلة منذ حظرها في الخمسينات من القرن الماضي، تعددت الكتابات التي تناولت فكر الشيخ وآراءه الفقهية والسياسية. فجاكوب بترسن (له أطروحة كبيرة في فتاوى الأزهر ودار الإفتاء المصرية)، كتب عن علاقة القرضاوي بالأزهر. وحسام تمام كتب عن القرضاوي والإخوان. ومعتز الخطيب كتب عن مرجعية القرضاوي في كتابه «يوسف القرضاوي - فقيه الصحوة الإسلامية: سيرة فكرية تحليلية». وألكسندر كاميرو ومحمد صيفي كتبا عن القرضاوي في أوروبا. وإيهاب جلال كتب عن القرضاوي والتلفزيون الإسلامي الجديد، وبتينا غراف كتبت عن مفهوم «الوسطية» لدى القرضاوي. وأرماندو سلفاتوري كتب عن تطور القرضاوي من آيديولوجي إسلامي إلى رمز لعالمية الإسلام وعولمته.

* فكر الشيخ

* ومع الدخول في عصر العولمة والانفتاح على الآخر، حاول الشيخ أن يقدم فكرا وإجابات عن أسئلة اللحظة من خلال بعض الكتابات، منها: «المسلمون والعولمة»، و«خطابنا الديني في عصر العولمة»، و«الإسلام والمسلمون وعلوم المستقبل على أعتاب القرن القادم»، و«المسلمون والتخلف العلمي»، و«رعاية البيئة في شريعة الإسلام»، و«حقوق المسنين من منظور إسلامي»، و«الغرب والإسلام». إلا أن المطالع لهذه الكتابات يخلص إلى الرأي بأنها افتقدت، في كثير منها، للفهم الدقيق والمتعمق، والإحاطة المطلوبة لمواضيعها وقضاياها التي لم يدركها الشيخ، سواء بسبب طبيعتها الفكرية المعقدة والمتشابكة من جانب، أو بسبب السن وأحكامه، وما يمثله من عائق أمام الشخص في التحصيل والتحليل والتقييم وطرح الرؤى والتصورات. وهذا ما يمكن سحبه على بعض الآراء الأخيرة التي يبديها الشيخ في بعض القضايا المعاصرة، خاصة القضايا الفكرية والسياسية التي لم يستطع الشيخ تحقيق الإلمام الكامل والإحاطة اللازمة بجوانبها وتعقيداتها كافة، مما جعل آراءه وفتاواه خارجة عن مقتضيات اللحظة ومتطلباتها.

ثانيا: لم يثبت أنه كان للشيخ القرضاوي موقف مستقل عن الموقف العام، أو الخط العام داخل الجماعة، والولاء لقيادتها الشرعية، المجمع عليها، حتى وإن اختلف مع هذا الخط، بل التزم القرضاوي هذا الخط دون معارضة أو ممانعة. وعلى سبيل المثال، حين وقعت الأزمة الشهيرة عام 1954، واختلفت الجماعة حول شخص المرشد الثاني، المستشار حسن الهضيبي، وعلى الرغم من أن القرضاوي كان أقرب إلى منطق وجبهة من عرفوا بتيار المشايخ والأزهرية المعارض للهضيبي وسياساته (يمثله الشيوخ محمد الغزالي وسيد سابق وعبد المعز عبد الستار..)، لم يصل الأمر بالقرضاوي إلى الانضمام إلى هذه الجبهة حين انشقت على الجماعة، أو احتجت على قرار فصلها. بل التزم ما انتهت إليه القيادة الممسكة بدفة التنظيم. وتكرر الأمر كذلك، مع حزب الوسط الذي يمكن النظر إليه كأكبر انشقاق تنظيمي عرفته الجماعة منذ أزمة المرشد الثاني, وعلى الرغم من أن القرضاوي كان متعاطفا مع هذا المشروع وقريبا من أبناء الجيل الذي قاد التجربة؛ جيل الوسط، وعلى الرغم من أن أصحاب المشروع الحزبي أكدوا، في ورقته المذهبية، تأثرهم باجتهاداته وآرائه في الفقه السياسي (جواز التعددية الحزبية، وفكرة الإسلام الحضاري)، فإن القرضاوي لم يدخل طرفا في هذا المشروع. وهو ما يدلل على أن ثمة ضابطا حاكما لفكر الشيخ في معالجته للقضايا والمحن التي تواجه الجماعة، حتى في أحلك اللحظات والظروف. ولعل الأزمة الأخيرة التي تعيشها الجماعة مع أحداث الـ30 من يونيو (حزيران) الماضي، تؤكد هذه الخلاصة. ففي أعقاب عزل الرئيس السابق، الدكتور محمد مرسي، أصدر الشيخ فتوى في السادس من يوليو (تموز) 2013، جاء فيها: «إن المصريين عاشوا 30 سنة، إن لم نقل 60 سنة، محرومين من انتخاب رئيس لهم، يسلمون له حكمهم باختيارهم، حتى هيأ الله لهم، لأول مرة، رئيسا اختاروه بأنفسهم وبمحض إرادتهم، وهو الرئيس محمد مرسي، وقد أعطوه مواثيقهم وعهودهم على السمع والطاعة في العسر واليسر، وفيما أحبوا وما كرهوا، وسلمت له كل الفئات من مدنيين وعسكريين، وحكام ومحكومين، ومنهم الفريق أول عبد الفتاح السيسي، الذي كان وزير الدفاع والإنتاج الحربي في وزارة هشام قنديل، وقد أقسم وبايع أمام أعيننا على السمع والطاعة للرئيس مرسي، واستمر في ذلك السمع والطاعة حتى رأيناه تغير فجأة، ونقل نفسه من مجرد وزير إلى صاحب سلطة عليا، علل بها أن يعزل رئيسه الشرعي، ونقض بيعته له، وانضم إلى طرف من المواطنين ضد الطرف الآخر، بزعم أنه مع الطرف الأكثر عددا».

* منظر فكر الإخوان

* وهو ما يكشف عن عدم قراءة الشيخ للموقف بكل جوانبه وتعقيداته، التي وصلت إلى درجة أن بعث إليه ابنه عبد الرحمن يوسف القرضاوي برسالة مطولة، أفاض فيها شرحا وتفصيلا لما حدث من جانب الجماعة ورئيسها، وكان أهم ما جاء فيها ما نصه: «صدقني يا أبي الكريم الحليم لو طبقنا ما كتبته في كتبك عن الأمة والدولة، وعن فقه الأولويات، وفقه الواقع، وفقه المقاصد، وعن الحرية التي هي قبل الشريعة، كما علمتنا، لكنت أول الداعين للثورة على من ظلم، وخان العهود والمواثيق، وأفشى أسرار الدولة، وزجّ بمخالفيه في السجن بتهمة إهانته، ولم يترك لهم من الحرية إلا ما كان يتركه لهم مبارك: قولوا ما شئتم وسأفعل ما أريد».

تكشف هذا الحادثة خلطا واجب التسجيل في هذا الخصوص، وهو أن البعض يرى أن الشيخ القرضاوي هو المنظر الراهن لفكر الجماعة وتوجهاتها، في حين أن الواقع يثبت أن الشيخ بسبب طعنه في السن وكذلك نهجه المطيع داخل إطار الجماعة، لا يجرؤ على أن يوجه عقل الجماعة إلى قراءة الواقع الراهن بمتغيراته وتعقيداته، بل رأى أن السباحة مع التيار الجارف داخل الجماعة على الرغم من وضوح خطورة الاستمرار في هذا النهج المؤدي إلى خطأ فادح بسبب سياسات غير محسوبة ورؤى غير واقعية وتوجهات غير رشيدة تبنتها الجماعة منذ ثورة الـ25 من يناير (كانون الثاني).

ثالثا: على الرغم من انتماء الشيخ يوسف القرضاوي إلى جماعة الإخوان المسلمين، فإن بعضا من آرائه كانت تهاجم قيادات الجماعة، كما حدث في موقفه من سيد قطب. وهذا ما أشار إليه جمال سلطان في دراسته تعليقا على ما كتبه الشيخ القرضاوي عن قطب، حينما أشار إلى استحضار الشيخ لنصوص كثيرة مطولة من كتابات قطب، خاصة عندما يتحدث عن الجاهلية والكفر والردة التي رآها انتشرت في جنبات الأرض في العصر الحديث، ويضع خطوطا تحت كلمات وألفاظ بعينها، ليؤكد على تطرفها وروح التكفير فيها، ويدقق لكي يثبت له أن الرجل ليس كاتبا معتدلا أو حادا في عبارته فقط، وإنما كان كاتبا تكفيريا، وبالتالي متطرفا. وهذا ما اتضح جليا في حواره عام 2009 في إحدى القنوات الفضائية المصرية، حينما أشار إلى «أن قطب أخطأ في قضية تكفير مجموع المسلمين وليس فقط الحكام والأنظمة»، مشيرا إلى أن «قطب يتحمل بعض المسؤولية عن تيار التكفير، فقد أخذ أفكار المودودي ورتب عليها نتائج لم تخطر على بال المودودي نفسه».

صحيح أن الشيخ لم يذكر صفة التطرف أو الإرهاب، إلا أن الأمر لا يحتاج إلى شرح ليثبت أن الرجل كان تكفيريا، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء التوتر الداخلي القديم بين الفصيل الذي انتمى إلى سيد قطب، والآخر الذي انتمى إلى الشيخ مصطفى مشهور ومجموعته. وهي التوترات التي بدأت في المعتقلات وتفجرت في أوائل السبعينات بعد الخروج من سجون عبد الناصر، حين سرت موجة غامضة بين الفصيل الثاني الذي حاول أن يلعب بأوراق السياسة ومماهاة السلطة والاستفادة منها في الوصول إلى بعض المناصب، وهو الأسلوب الذي ظل غالبا على فكر «الإخوان» وتوجهاتها خلال فترة الحكم المباركي، حيث حصدت أكثر من مرة عددا معتبرا من المقاعد البرلمانية، كما حدث في انتخابات 1984، و1987، و2000، وكانت الجائزة الكبرى عام 2005، حينما حصدت الجماعة 88 مقعدا، أي ما يقارب ربع مقاعد مجلس الشعب آنذاك، وجرى خلال هذا الفصل التشريعي إقرار التعديلات الدستورية، التي كان هدفها تمكين نجل الرئيس الأسبق من الوصول إلى السلطة بتعديل المادة 76 من دستور 1971، وكانت القشة التي قصمت ظهر نظام مبارك بثورة شعبية أزاحته عن السلطة، وذهبت به إلى غياهب السجون، ولعل ما حدث أثناء ثورة الـ25 من يناير، من قبول جماعة الإخوان المسلمين للجلوس مع نائب رئيس الجمهورية الأسبق، آنذاك، عمر سليمان، يؤكد سياسة «الإخوان» في توظيف الأحداث واستغلالها بما يصب في مصلحتهم وحسب، وكذلك ما حدث بعد حصول الجماعة على مقعد الرئاسة، ونقض العهود كافة التي قطعتها على نفسها مع مختلف القوى السياسية.

رابعا: إضافة إلى كل ما سبق، يظل من المدهش جدا أن يتحول الشيخ يوسف القرضاوي من مفكر إسلامي إلى داع مباشر، بل ومحوري في إثارة القلاقل والفتن داخل بعض البلدان العربية. فحينما يدعو الجيش المصري لعدم طاعة أوامر قياداته، أو يفتي باستمرار المظاهرات التي تؤدي إلى وقوع المزيد من سفك الدماء، إلى غيرها من هذه الفتاوى، دفاعا عن موقف الجماعة ورئيسها، بسبب الأحداث التي شهدتها مصر في الـ30 من يونيو - بغض الطرف عن تقييم مثل هذه الأحداث وملابساتها وتباين وجهات النظر بشأنها - فهو يدعو إلى تمزيق الأمة وتقطيع أوصالها، وصب الزيت على رماد النفور وحالة عدم الثقة بين المسلمين، وسفك الدماء وانتهاك الأعراض واستباحة الذمم والدعوة للكراهية.

* القرضاوي والأزهر

* وهنا تكمن المشكلة، أي في أن تأتي مثل هذه الدعوات من رجل في مقام الشيخ القرضاوي، الذي يفترض أن يمثل العقل الراجح والرأي السديد لجماعة الإخوان. فكيف تخرج مثل هذه الفتاوى من رجل دين له وزنه العلمي والديني؟ ولو صدرت مثل هذه الفتاوى من رجل دين عادي، أو من أحد دعاة التكفير، فلن يلتفت إليها أحد.

بل أكثر من ذلك، تظل خطورة مثل هذه الفتاوى، فيما يتعلق بمواقف المؤسسات الدينية الكبرى وفي مقدمتها الأزهر برجاله وعلمائه. فالجميع يعلم أنه على مر التاريخ الإسلامي، وجد من حكام العرب من كان ظالما، ووجد من علماء المسلمين الذين يعترف لهم الإسلام بالجرأة والقدرة على المجابهة، من لم يكفره، لأنه من المعلوم شرعا أن التكفير يلزمه شروط وانتفاء وموانع، ومن بينها، على الأقل، إقامة الحجة الكافية والواضحة على أن هذا الحاكم قد نطق كفرا أو باشر به. أما بقية الأفعال والتصرفات الأخرى التي يأتيها الحاكم بمناسبة ممارسة مهام السلطة، فهي تدخل في باب الممارسات العادية التي يحاكم عليها، سواء من خلال صناديق الاقتراع أو طبقا للدستور أو القانون المعمول به في كل بلد عربي.

ملخص القول إن ما تواجهه جماعة الإخوان المسلمين اليوم من تحديات جسام، تتطلب معالجة من قبل رجال على قدر من الاتزان الفكري والاستنارة المعرفية والرجحان العقلي، فهي لحظات فاصلة وخطيرة في حياة الجماعة وحاضرها ومستقبلها. فالارتكان إلى مثل هذه الفتاوى والآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لن يزيد الجماعة إلا تراجعا وخسارة لرصيد امتد على مدار 80 عاما. وقديما قالوا، إن التخطيط قبل الفعل تنظيم. والتخطيط بعد الفعل تبرير. وما تمارسه الجماعة اليوم، هو من قبيل التبرير لكل الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها خلال العامين الماضيين. وربما يكون للجماعة أخطاء على مدار الأعوام السابقة، إلا أن الضوء لم يُسلط عليها لطبيعة موقعها بعيدا عن السلطة والمسؤولية، وهذا ما لم تفطن إليه الجماعة ومنظرها الأول الشيخ يوسف القرضاوي من أن خطابات وسياسات المعارضة لا تصلح كلية لإدارة شؤون البلاد، إذا ما تولت هذه القوى مقاليد الحكم، وهذا هو دور المنظرين والمفكرين لأي تنظيم أو تجمع في تصحيح المسار إذا ما انحرف، وتوجيه الدفة إذا ما ضلت السفينة الطريق.

ولذا، فعلى الجماعة إن أرادت أن تستكمل وجودها في المجتمع، أن تقوم بالدراسة والتأمل والتحقيق للوقوف على خلفيات مواقف منظرها الأول (القرضاوي) وحيثياتها وتبعاتها، للحد من خطورتها وتحجيم آثارها. فمن غير المنطقي أن يبدي الشيخ رأيه وفتواه في كل مناحي الحياة ومجالاتها، وكأنه أوتي جوامع الكلم.

* كاتب بصحيفة «الأهرام» المصرية وكيل لجنة الثقافة والإعلام في مجلس الشورى سابقا رئيس وحدة الأقليات في مركز الحوار للدراسات السياسية بالقاهرة