أزمة العلاقة بين الجامعات في الدول العربية ومجتمعاتها

تعليم تقليدي مشدود إلى الماضي.. وموازنات بائسة للبحث العلمي

TT

العلاقة بين الجامعة والمجتمع علاقة وثيقة، تقوم على التأثر والتأثير المتبادل. وهي كمؤسسة تعليمية تقع في قمة هرم النظام التعليمي في المجتمع، لا تعيش بمعزل عن بقية الأنظمة والأنساق المجتمعية الأخرى، إنما هي في تفاعل معها. وفي كل المجتمعات، يتوقع من الجامعة أن تقوم بدور الريادة في المجتمع. وانطلاقا من هذه الحقيقة، كانت الجامعات في المجتمعات الغربية ولا تزال، هي مراكز للبحث العلمي ومصادر للمعرفة العلمية. وهي موجهة لحركة تلك المجتمعات في تطورها ونموها.

وهي في تواصل دائم مع مؤسسات المجتمع الأخرى، وخصوصا المؤسسات الإنتاجية. وقد بدا هذا الدور واضحا منذ عصر النهضة الأوروبية الحديثة. وبالمقارنة مع واقع الجامعات في عالمنا العربي، تكاد المسافة تكون كبيرة.. ذلك أنه على الرغم من نشأة الجامعات قبل فترة طويلة، فإنها لم تحدث تلك النقلة النوعية في المجتمعات العربية، على الرغم من الحماس الذي ظهر لها في بعض المجتمعات، والميزانيات التي رصدت لها من الدخل القومي لهذه الدول. لذلك نتساءل عن أسباب فشل العديد من الجامعات العربية في تحقيق أهدافها. لماذا لم تقم هذه الجامعات بالدور المنوط بها؟ لماذا لم تسر عجلة هذه الجامعات إلى الأمام؟

على الرغم من أن أعداد الجامعات في البلاد العربية تتزايد باستمرار، حيث ارتفع من 12 جامعة في 1945 إلى 265 في 2010، بالإضافة إلى 600 كلية للدراسات الجامعية، ومن المتوقع أن يبلغ عدد طلاب التعليم العالي ثمانية ملايين في عام 2015، فإن التعليم الجامعي في العالم العربي لم يسهم في دفع عجلة التنمية، وفقا لما أكدته تقارير ودراسات علمية عدة.. بل على العكس من ذلك، أصبح التعليم معوقا للتنمية الاقتصادية والبشرية، بتخريجه طلابا هم أقرب إلى خريجي مراكز محو الأمية منهم إلى خريجي الجامعات، حيث لا يملكون من مهارات التفكير العليا والكفاءات العلمية ما يؤهلهم، ليس فقط لسوق العمل، إنما للانخراط في الحياة الاجتماعية أيضا.

* تعليم نمطي

* إن سبب تدني مستوى التعليم في الدول العربية يرجع إلى نمطية التعليم نفسه، بمعنى أن التعليم العربي يتبع البرامج نفسها، خاصة في مراحل التعليم الثانوي والجامعي، باعتبار التعليم الأساسي موحدا ومتشابها إلى حد كبير. لكن المشكلة تكمن في التعليم الثانوي والجامعي.. فالتعليم الثانوي خلال نصف القرن الماضي، لم يخرج عن فرعي الآداب والعلوم. وبالنسبة للجامعات العربية، فإن الأقسام العلمية تكاد تكون هي نفسها في كل جامعة أو كلية، متكررة ومزدوجة. وهذه التقسيمات الأكاديمية، تتناسب وحقيقة المجتمع العربي في الماضي. أما الآن، كما يؤكد التقرير، فهناك ضرورة لتنويع شعب التعليم الثانوي وأقسام الجامعات، بحيث تستجيب للتطور الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي الحاصل في المجتمع. فالتقسيمات الأكاديمية قديمة، تتناسب مع بساطة المجتمع العربي. كما أن التعليم العالي ما زال تعليما تقليديا، يقوم على حفظ المعلومات واسترجاعها عند الطالب، ولا يحاول أن يجعل من هذا الطالب إنسانا له شخصيته المستقلة. إنما يريد أن يجعله نسخة مكررة من ثقافة تنطوي على نقائض وعيوب مجتمع يحمل أفكار الماضي، ولصيق بالتنشئة المجتمعية التقليدية القائمة على الطاعة والولاء الأعمى من دون مهارات تفكير ولو بسيطة، مثل التفكير النقدي. كل ذلك بحجة الحفاظ على ثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده.

كما أن تدني نوعية التعليم العربي، والمقصود به هنا نوعية التعليم، أضعف القدرات التي يبنيها التعليم في عقل وشخصية التلميذ. فالتعليم العربي اعتاد أن يعلم التلميذ القراءة والكتابة، وبعض العمليات الحسابية، وتدريسه ثقافة عامة متأثرة بالماضي أكثر من الحاضر.. بل هي ثقافة تخاف الحاضر ومشكلاته، وتعمل على التهرب منه. وتحسين نوعية التعليم، كما يشير التقرير، يتطلب الاهتمام ببناء القدرات والمهارات التي يحتاجها طالب اليوم، ومواطن الغد. ولعل من أهم القدرات المرتبطة بتحسين النوعية، بناء قدرات التحليل، والتركيب، والاستنتاج، والتطبيق، وتدريب الطالب على توظيف المعلومات والمعارف التي يتلقاها في نظام عقلي ومنطقي متناسق مرتبط ببعضه، ويمزج العلوم المختلفة بعضها ببعض.

إن التعليم العالي خاصة يجب أن يهتم بإنتاج المعرفة وليس باستهلاكها، ليس في العلوم الطبيعية والرياضية التي تشهد الجامعات العربية سباقا محموما إليها، وإنما كذلك في العلوم الإنسانية التي تعتني ببناء شخصية الطالب. إن إهمال هذه العلوم يعكس نظرة قاصرة عند القائمين على رعاية التعليم العالي في هذه الدول. وحتى في العلوم الطبيعية والتقنية التي تتفاخر هذه الجامعات باهتمامها بها، لم تفلح في إيجاد الخريجين المؤهلين لاحتياجات سوق العمل الحديثة، نتيجة لتركيز هذه الجامعات على حشو ذهن الطالب بمعلومات نظرية، من دون الاهتمام بالجانب العملي. وما لم يتوجه التعليم العالي إلى وظيفة إنتاج المعرفة، فسيظل قاصرا لا قيمة له، في دفع حركة التنمية العربية خطوات إلى الأمام. هنا نؤكد على أن المقصود بإنتاج المعرفة ليس المعرفة التقنية ذات الصلة بالطبيعة والعلوم الطبيعية فقط، ولكن إنتاج المعرفة في العلوم الإنسانية أيضا، فهو أمر ضروري ومهم لأي نهضة أو تقدم إنساني في البلاد العربية. إن التعليم العربي كما نعتقد تسبب في انفصام في شخصية الإنسان العربي وعقله، بتقديم المعرفة والنظر إليها كمعرفة مادية فقط ومهمشة. والنظر إلى المعرفة الإنسانية على أنها غير مهمة. فهل يمكن أن يتقدم الإنسان العربي أو غير العربي وينمو من دون فكر وثقافة وآداب وفلسفة ودين وجوانب روحية؟! إذا لم يهتم التعليم العربي والبحث العربي بالجانب الثقافي والإنساني في شخصية المتعلم، أصيب هذا الإنسان بانفصام واغتراب في عقله وشخصيته. إنسان من هذا النوع لا قيمة له فيما أعتقد، سوى بيع عرق جبينه مقابل أجر بالكاد يكفي لمعيشته. هذا الإنسان لا يبني حضارة أو ينمي ثقافة. يعيش ويموت وهو في حالة اغتراب. ولعل في تعليمنا العربي القديم أمثلة على أهمية العلوم الإنسانية. ولولا مناهج الفقه وعلم الكلام ودراسة اللغة العربية في المساجد والجوامع، لاختفت الحضارة العربية ومعها اللغة العربية والإنسان العربي.

* الجامعات والبحث العلمي

* وإذا ما اتجهنا إلى دور الجامعات العربية في مجال البحث العلمي، وجدنا تفاقما أكبر للأزمة، حيث لم تقم الجامعات بالدور المطلوب منها، إما بسبب عدم تفريغ أساتذة الجامعات للقيام بدورهم في هذا المجال، وإما بسبب عدم رصد ميزانيات كافية. كل ذلك بسبب قلة وعي القائمين على الجامعات. من المعروف أن مجال البحث العلمي من أهم الروافد التي يمكن للجامعة أن تقدم من خلالها خدمة للمجتمع، حيث يوسع الآفاق للتعرف على مشكلات المجتمع وقضاياه، ودراستها، والإسهام في حلها، باستخدام الأساليب العلمية الدقيقة.. بل إن الاهتمام بالبحث العلمي ييسر الطرق للمبدعين من ذوي القدرات القليلة العليا للإبداع والتجديد والابتكار. وهذا بدوره يعود في نهاية الأمر بنتائج إيجابية على الوطن والمواطن. وبالنظر إلى حجم الإنفاق على البحث العلمي في الوطن العربي، يتبين أن نسبته لم تتجاوز 0.5 في المائة. وتقدر إحصاءات اليونيسكو أن الدول العربية مجتمعة خصصت للبحث العلمي عام 2008، 0.3 في المائة من الناتج القومي الإجمالي، في حين بلغ الإنفاق على البحث العلمي في إسرائيل - عدا الإنفاق على الحقل العسكري - نحو 2.6 في المائة من حجم إجمالي الناتج القومي. وفي تقديرات أخرى، فإن 95 في المائة من علماء العالم ينحصرون في أوروبا وأميركا واليابان، أي أن نصيب البلاد النامية كلها من البحث العلمي لا يتجاوز 5 في المائة، بينما 95 في المائة من الأبحاث العلمية تقوم بها الدول المتقدمة. وأظهرت إحدى الدراسات أن مجموع ما ينشر من البحوث في العالم العربي لا يتعدى 15 ألف بحث، في حين أن عدد أعضاء هيئة التدريس في الجامعات العربية نحو 55 ألفا. وهذه إشكالية تستدعي ومن دون إبطاء إيجاد حلول واقعية.. ذلك أن تلك الأرقام لا تتناسب وقدرات العالم العربي والإسلامي وإمكاناته. فهو يملك أكثر من 50 في المائة من بترول العالم، و40 في المائة من المواد الأولية، و40 في المائة من سكان العالم، و20 في المائة من مساحة قارات العالم الخمس.

أما في مجال هجرة العقول، فإن أكبر دولة عربية سكانا ومكانة علمية، تمثل مقدمة نزيف العقل العربي، حيث إن 75 في المائة من علماء الطبيعة فيها، و50 في المائة من المهندسين انضموا إلى قافلة المهاجرين إلى المجتمعات الغربية التي تحتضن العلماء والمبدعين، وتوفر لهم المناخ العلمي المناسب وكل احتياجاتهم. لذلك لا غرابة أن يهاجر نصف الحاصلين على الدكتوراه في عام 1980. وفي الوقت نفسه، لا يعود 70 في المائة من المبتعثين إلى بلدانهم بعد انتهاء الدراسة.

إن مقارنة بسيطة بين الدول العربية وإسرائيل في ميدان البحث العلمي، تكشف عن وجود 363 باحثا في العالم العربي تقريبا لكل مليون نسمة. بينما يبلغ عدد الباحثين في إسرائيل 25 ألفا، بمعدل خمسة آلاف باحث لكل مليون نسمة. وتلك أعلى نسبة في العالم بعد اليابان التي وصل فيها المعدل إلى 5100 باحث. وفي أميركا اللاتينية ارتفع من 242 عام 1980، إلى 364 عام 1990. وتتصاعد المعدلات عاما بعد عام، مما يشير إلى التقدم العلمي الذي تخطوه تلك الدول.

تنفق إسرائيل سنويا أكثر من 581 مليون دولار على البحث والتطوير فقط. وتوفر للباحث أعلى ميزانية فردية تصل إلى أكثر من 63 ألف دولار سنويا. وهذا جزء من استراتيجية زيادة الإنفاق على البحوث. وفي الوقت نفسه، عمدت إلى إنشاء المعاهد والمراكز البحثية المتخصصة بشكل يغطي مجالات البحث العلمي والتطوير.

وتشير الإحصاءات إلى أن ميزانيات البحث العلمي في الدول العربية لا تتعدى 0.16 في المائة من الناتج القومي، بينما تصل النسبة في الدول الغربية إلى 3.5 في المائة من الناتج القومي، أي ما يزيد على 30 ضعفا. وقد انعكس ذلك على عدد مراكز الأبحاث وعدد الباحثين، حيث تشير الإحصاءات إلى أن عدد مراكز البحث في العالم العربي كله لا يتعدى 600 مركز، وعدد الباحثين لا يتجاوز 19 ألفا مقارنة بفرنسا وحدها التي بها 1500 مركز بحثي يعمل فيها 31 ألف باحث. وبينما تصرف كبرى الجامعات الأميركية ما يقرب من 40 في المائة من ميزانياتها على البحث العلمي، لا تنفق الجامعات العربية سوى 1 في المائة من ميزانياتها في هذا المجال.

* غياب المبادرة

* من خلال العرض السابق عن واقع التعليم العالي في العالم العربي يتبين لنا عمق أزمة العلاقة بين التعليم العالي والمجتمع. فكيف يمكن للجامعة أن تقوم بدورها وهي في هذا الواقع المتأزم؟ الجامعة كمؤسسة قيادية لا بد أن تملك المبادرة مهما كانت التحديات. وبالمقابل لا يمكن انتظار أن يأتي التغيير من الخارج، وخاصة أن أنظمتنا التعليمية باتت معرضة أكثر من أي وقت مضى إلى أن تجرفها رياح التغيير، لذلك لا بد أن نملك نحن زمام المبادرة، وإلا فرياح التغيير مقبلة لا محالة. وإذا اتفقنا على أن الجامعة يجب أن تبدأ بتغيير نفسها أولا، ينشأ السؤال التالي: من أين نبدأ؟ وأين مكمن الأزمة؟

نحن في مجتمعات لا ينقصها موارد مالية، ولا ثروة بشرية، ولديها موقع استراتيجي في العالم، يحسدها عليه أصدقاؤها قبل أعدائها. وتمتلك أهم من ذلك قيما إنسانية سامية ممتدة جذورها في تراثها الإسلامي.

في رأيي، إن أساس أزمة الجامعة قائمة في الجامعة نفسها.. فهي كمؤسسة تنويرية لم تتخلص من هيمنة اتجاهات سلبية داخل المجتمع تتمسك بالماضي. ولذلك لا تزال الجامعة في موقع التابع لا المتبوع، المسير لا المخير. ولعل أهم جوانب هذا الواقع، هو المناخ الأكاديمي السائد في الجامعة، حيث تتأصل فيه مجموعة من قيم الطاعة والولاء، والانصياع لمتخذي القرار، وقيم الاحترام السلبي للكبير وتوقيره، سواء عند الأستاذ أو الطالب. وهي قيم متأصلة في ثقافتنا المجتمعية. إن الثقافة المجتمعية العربية ثقافة لا تعترف إلا بالكبير، ولا يشيع فيها ثقافة الحوار والرأي والرأي الآخر، كل ذلك انعكس على المناخ الأكاديمي الجامعي.

كذلك للمناخ الأكاديمي في الجامعات العربية أثره على مستوى أداء أعضاء هيئات التدريس. وقد جاء في دراسة عن «فرص الإبداع والثقافة العربية عام 2008»، أن الإجراءات الإدارية في الجامعات العربية تقيد حرية الباحث وإبداعه، وتحد نشاطه، وتحول دون تحقيق هوية الأستاذ الباحث، وأن مجال الحريات الأكاديمية قد تقلص وتضاءل، وتعترضه عقبات. وكانت تبعية الجامعات للسلطة السياسية وراء اختفاء حرية الفكر، وفقد القدرة على الاحتجاج، وأن المناخ السياسي قيد من ممارسة أعضاء هيئة التدريس لحريتهم الأكاديمية وعرضهم للفصل أحيانا.

كل المؤشرات تتفق على أن عملية الإبداع والإنتاج في المؤسسات الأكاديمية وغير الأكاديمية تحتاج إلى مناخ صحي، يقوم على توفير الدعم للمبدع ومساندته، وإشعاره بالأمن والطمأنينة، وتوفير الأدوات والإمكانات المادية اللازمة للعمل والإنتاج.

* أبحاث لا تخدم التنمية

* إن أهم ما تفتقده الجامعات العربية ومؤسسات التعليم العالي في وطننا العربي، هو استراتيجية واضحة المعالم، تتمثل فيها الأهداف التي تريد الجامعة أن تنجزها خلال مدة زمنية معينة والإمكانات المتوفرة، وتلك التي ينبغي توفيرها، ونوعية مخرجات التعليم التي تريد الجامعة أن تحققها.

وفي النهاية الموضوعات البحثية التي تطرحها الجامعات العربية، لا تخدم خطط التنمية في المجتمع، وغير مرتبطة بمشكلاته. ويعود السبب إلى أن البحث العلمي التطبيقي له شروط وقواعد ومناهج مختلفة عن البحث العلمي النظري. فالأول يرتبط بحل مشكلة تطبيقية، والثاني لا يهتم بحل مشكلة اجتماعية بقدر اهتمام الباحث بترقيته. كذلك فإن البحث العلمي – ولا سيما التطبيقي منه – يفتقد إلى الجماعية في العمل، وليس بمستغرب أن عدد الباحثين في فريق الدكتور زويل أكثر من 150.

أصبحت مؤسسات التعليم العالي في المجتمعات الحديثة محورا متعدد الأبعاد والنشاطات. لا يقتصر دورها على النشاط الأكاديمي والبحثي فحسب، بل يتعداه إلى عدد من النشاطات التي تخدم البيئة الاقتصادية والاجتماعية الموجودة فيها، والمجتمع الذي يحتضنها. وهي كمركز أكاديمي، ومولد معرفي، وحاضن تقنية، ومركز للنشاطات الثقافية والاجتماعية والرياضية، تتعدى حدود أسوارها.

وتشكل خدمة المجتمع إحدى الوظائف الأساسية للمؤسسة المعاصرة. وهي تنجز من خلال ما تقدمه من استشارات وأبحاث، ومن خلال الحلول التي تقدمها لمعالجة المشكلات التي تعترض مختلف المؤسسات المجتمعية. فالمختصون في علم السكان هم الذين يقدمون، من خلال دراسات ميدانية وإحصائية وتنموية، صورة واضحة عن حركة المجتمع وتركيبته ونموه وخصائصه البدوية والحضرية. وهم الذين يحددون أخطار معدل التزايد السكاني المرتفع الذي تشهده أقطارنا. وأساتذة الدراسات الاجتماعية والفلسفية هم الذين يحللون واقعنا الفكري وقدرته على التعامل مع الأفكار الجديدة والأساليب الحديثة. وأساتذة علم الاقتصاد هم الأجدر لتقديم الدراسات الاقتصادية المقارنة وتحديد اقتصادية إنتاج هذه الصناعة أو تلك، وتأثيراتها الاجتماعية والبيئية، أو عدم إنتاج أي منها، وهم الذين يوضحون الجدوى الاقتصادية لهذا المشروع أو ذاك. وأساتذة كليات التربية يلبون احتياجات المؤسسات والوزارات في الميادين التربوية والإعلامية والمعنوية والنفسية والتوجيهية، ويعملون على إيجاد الحلول لجميع المشكلات التربوية في المجتمع.. إذ إن المشكلات التي يعانيها كل مجتمع نام وعلى رأسها الجهل والفقر والمرض والتخلف، إنما هي مشكلات تربوية بالدرجة الأولى. وهناك إجماع على أن كل تخطيط لا يبدأ من التربية هو تخطيط فاشل، ذلك لأن التربية تشمل جميع نواحي النشاط البشري في المجتمع، وصلتها وثيقة بجميع المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية، ما دامت التربية ليست إلا علم الانسجام مع الجماعة.

إن عطاء التعليم العالي ومن منطلق دوره المجتمعي والإنساني، لا يتوقف عند التعليم والبحث والتطوير، وإنما يمتد إلى خدمة قضايا المجتمع من خلال وحداته ومراكزه ومنشآته ومختبراته، حيث تقدم خبراتها ومعداتها لجميع الهيئات والمؤسسات إضافة إلى الخدمة الطبية والرعاية الصحية التي تقدمها لآلاف المرضى من خلال المستشفيات الجامعية، فضلا عن تقديم الخدمات الجليلة لطلبتها من ذوي الاحتياجات الخاصة، من دون أن ننسى الأنشطة الاجتماعية والترفيهية للعاملين فيها.

ولا غرابة في أن تبادر بعض الجامعات إلى تطوير برامجها الأكاديمية لتخدم توجهات التنمية. وعمدت إلى طرح مسارات تعليمية عدة تتبنى تدريس العلوم التنموية، وتؤهل الطلاب لخدمة مجتمعاتهم وتنميتها، ضمن كليات العلوم الاجتماعية أو الآداب أو الاقتصاد. وبعضها الآخر أنشأ كليات خاصة بالعلوم التنموية في المجالات الاجتماعية والبشرية والسياسية والبيئية والقانونية والتربوية والصحية.

وهنا تجدر الإشارة إلى المحاولات التي تبذل من أجل تقريب المسافة بين الاختصاصات المختلفة، ولا سيما بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. ونعني بذلك دمج العلوم بعضها مع بعض، فيحدث نوع من التزاوج فيها، تكون نتيجته فكرا رحبا شاملا قادرا على خدمة المجتمعات بشكل أوسع وأفضل. وهكذا كان الاقتصاد السياسي حصيلة لدمج الاقتصاد مع السياسة. وكانت العلوم الاقتصادية الاجتماعية نتيجة لدمج الاقتصاد بالاجتماع. والاقتصاد الهندسي تزاوج بين الهندسة والاقتصاد.. إلخ. يجب أن ندرك أن إصلاح التعليم الجامعي في واقعنا العربي أمر ضروري وحيوي. وعملية الإصلاح في مجال من المجالات عملية مستمرة. إن تحقيق الأهداف ليس نهاية المطاف، بل هو بداية للطريق.

من جانب آخر، يجب أن ندرك أن عملية الإصلاح عملية شمولية، لا تركز على جانب وتترك الجوانب الأخرى. فما فائدة أن نتحدث عن التطوير المهني للأستاذ، أو تطوير المناهج الدراسية من دون التفكير في إصلاح المناخ الأكاديمي في الجامعة؟! إن عصرنا الحاضر هو عصر الشفافية والمكاشفة، ولا مكان لمن يريدون أن تجري عملية الإصلاح حسب مقاييسهم الخاصة.

* كاتب واكاديمي بحريني