النووي الإيراني أم «قضينة» العالم العربي

لا ينبغي التخوف منه وحصول طهران عليه سيروّض سلوكها

عامل إيراني يقود دراجته أمام مبنى مفاعل بوشهر النووي (ا.ب)
TT

«قضينة» العالم العربي أو حتى «قضينة» الشرق الأوسط، تعني تحويل المنطقة من مجموعة دول ذات سيادة لها حكومات وبها شعوب كما هو متعارف عليه في العلاقات الدولية إلى حزمة من القضايا والملفات وتهميش فكرة الدولة كلاعب رئيس أو حتى دور شعوبها وقياداتها. الناس العاديون بحاستهم الفطرية يؤكدون كل يوم على رفضهم لفكرة «القضينة» التي تحاول تفريغ الدول من شعوبها ويعلنون ذلك صراحة من خلال احتجاجاتهم اليومية. فهل احتجاجات ما سمي بالربيع العربي هي رفض لقضينة العالم العربي، أم أن هناك وجها آخر لهذه الاحتجاجات يهدف إلى إسقاط الدولة كما في الحالة المصرية، وبالتالي تصبح هذه الاحتجاجات امتدادا لفكرة قضينة الدولة العربية؟ وهل يمكن اعتبار أن النووي الإيراني هو سقف «قضينة» الشرق الأوسط؟

هنا أحاول وضع سياق نظري وتحليلي لما نراه يتكشف أمام أعيننا، ولكننا لا نعرف له اسما بعد.

منذ سنوات والغرب يتحدث عن منطقتنا كمجموعة من الملفات والقضايا، آخرها الملف النووي الإيراني، ومن قبله كانت قضية الكيماوي السوري، ومن قبلها الحديث عن ملف «القاعدة» والإرهاب وقضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقبل كل هذا وذاك كانت محاولة نقل اغتصاب الصهاينة لفلسطين لمجرد قضية، وهناك مناطق كاملة مثل الخليج العربي يتم الحديث عنها منذ السبعينات في القرن الماضي على أنها قضية أمن الطاقة أو توصيل الطاقة إلى العالم الصناعي. وقبلنا نحن في عالمنا العربي بهذا، كما قبلنا من قبل طواعية أن نسمي ما يحدث في فلسطين بالقضية الفلسطينية - أي لا فلسطين هناك - هي مجرد قضية لاجئين وسكان، وفي أحسن الأحوال نسميها Palestinian issue أو المسألة الفلسطينية.

ماذا تعني فكرة «قضينة» الشرق الأوسط بالنسبة للمصالح العربية التقليدية. «قضينة» الشرق الأوسط تعني أن الانتقال من عالم الجيوبولتكس الذي نعرفه في عالم الدول التي أساسها أرض وحدود معروفة، إلى تهميش فكرة الأرض والتعامل مع القضايا عابرة الحدود من إرهاب وأسلحة نووية أو كيماوية أو حتى قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا يعني إغفال قضية الأرض في منطقة الصراع الأساسي فيها على الأرض والحدود في فلسطين التي تحتلها إسرائيل، أو في الجولان السوري المحتل، وكذلك جزر أبو موسى والطنب الصغرى والكبرى الواقعتين تحت الاحتلال الإيراني، أو سبتة ومليلية المغربية التي تقع تحت الاحتلال الإسباني. إذن «قضينة» الشرق الأوسط تعني أول ما تعني تغيير الموضوع. فبدلا من الحديث عن الاحتلال الإسرائيلي نتحدث عن الإرهاب وعن عنف الفلسطينيين تجاه إسرائيل، وبدلا من أن نتحدث عن التمدد الإيراني في العراق وسوريا وعن حزب الله الذي حول الدولة اللبنانية إلى رهينة إيرانية، أو عن احتلال إيران لجزر الإمارات الثلاث أبو موسى والطنب الكبرى والصغرى.. بدلا من هذا كله، نتحدث عن النووي الإيراني أو الكيماوي السوري. نحن أمام محاولة فجة لتغيير الموضوع في المنطقة العربية ولفت الأنظار بعيدا عن جيوبولتيكا المنطقة وعن الأراضي العربية المحتلة إلى مجرد قضايا قد تحل أو لا تحل على المدى المتوسط أو تقذف بعيدا على المدى البعيد حال تأزم الأوضاع ووصولها إلى النقطة الحرجة. على سبيل المثال، عندما قامت الانتفاضة الفلسطينية في نهاية الثمانينات من القرن الماضي سلطت الضوء بشكل رائع على أن هناك شعبا فلسطينيا ينتفض ضد الاحتلال وأن هذه الأرض ليست خالية من سكانها كما صور للعالم، عندها سارع الإسرائيليون ومعهم الأميركيون إلى اختراع فكرة عملية السلام. فالأساس في عملية السلام من وجهة نظر جماعة «قضينة» الشرق الأوسط هو ليس السلام بل العملية. وها نحن ومنذ أكثر من عشرين عاما ونحن نتفاوض، فالعملية أجلت فكرة الحل الذي أنتجته الأزمات المتعاقبة الناتجة عن الانتفاضات الفلسطينية. وربما يكون الشيء نفسه بالنسبة للثورات العربية منذ عام 2011.

الأساس في «قضينة» الشرق الأوسط هو إبعاد العيون عن إمكانية التوصل إلى حل، أيضا تغيير الموضوع بعيدا عن الثورات في سوريا ومصر وتونس وإلهاء الناس بقائمة من القضايا مثل النووي والكيماوي والإرهاب. كما كان الحديث من قبل عن قضية المياه على أنها الصراع القادم في الشرق الأوسط، وذلك بعد أن أعلنت الدول العربية النفطية بقيادة الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز عام 1973 المقاطعة النفطية للغرب، كمحاولة للتقليل من أهمية النفط العربي من ناحية ولنقل الحديث بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعيدا عن سطح الأرض إلى جوف الأرض، ونقل الحديث أيضا بعيدا عن أهمية البترول الذي يمنح العرب ميزتهم النسبية في الصراع العربي الإسرائيلي، إلى الحديث عن المياه بما فيها إلهاء أغنى دولة في المنطقة بالمياه مثل مصر بقضية السدود الأفريقية. الأساس ليس المياه وإنما تغيير الموضوع و«قضينة» العالم العربي.

«قضينة» الشرق الأوسط أيضا هي تبني الصراعات التي تعكس تجمعات أكبر من الدولة، مثل قضية الصراع السني الشيعي الذي لاح في الأفق بوضوح أكبر بعد الاحتلال الأميركي للعراق بعد سقوط صدام حسين. هذا الصراع الذي بدأ التنظير له في واشنطن في سياق نقل الصراع الإسلامي الأميركي داخل الفضاء الإسلامي نفسه وغرق الناس في تفاصيل هذا الصراع وتبعاته السياسية، مثل أيهما أفضل كحليف لواشنطن في «الشرق الأوسط»: الشيعة أم السنة؟ وكتبت في هذا كتبا وأوراق عمل معظمها كان يقول بأن الرؤية التقليدية كانت تقول: إن الشيعة متمثلين في إيران هم أعداء واشنطن، وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 لتثبت أن السنة هم الخطر الحقيقي. وبدأ هذه المقولة المؤرخ المتخصص في التاريخ العثماني برنارد لويس وتبعه الأستاذ في جامعة جونز هوبكنز فؤاد عجمي، ثم تبعهما الإيراني والي نصر الذي حل محل فؤاد عجمي في برنستون بعد أن غادر عجمي إلى ستانفورد. المهم هو أن التنظير للصراع السني الشيعي والسياسات الناتجة عنه كان محور تفكير كبير في واشنطن، وقبلها كان الحديث عن تيارات ما تحت الدولة من «المناطقية» «والقبلية» في إطار تقسيم الدول والذي بدأ الحديث عنه في البنتاغون من خلال أبحاث متطرفين يمينيين مثل الباحث الفرنسي الأميركي لوران مورافيك الذي دعا بشكل فج بعد 11 سبتمبر 2001 إلى تقسيم السعودية. ولم يتوقف مورافيك عند بحثه الذي عرض له في البنتاغون عام 2002، بل أصدر كتابا فيما بعد بعنوان «أمير الظلام» يصور السعودية كعدو لدود لأميركا ومصالحها في الشرق الأوسط. قضية تقسيم الكيانات السياسية استمرت وأتت أكلها من خلال نجاح التقسيم في السودان، والآن يستمر حديث التقسيم ليشمل كلا من ليبيا والعراق وأخيرا نرى هذا الطرح في المسألة السورية من خلال إقامة دولة للعلويين وأخرى للأكراد. كل هذا يصب فيما أسميه بـ«قضينة» الشرق الأوسط، أي تجاوز الدولة وقادتها أو محاصرتها والالتفاف حولها، وما النووي الإيراني إلا حلقة متقدمة في «قضينة» المنطقة العربية.

وهكذا يصبح الشرق الأوسط العربي هو مجموعة قضايا وليس دولا وشعوبا وحكومات، كما هو متعارف عليه في التعريف الكلاسيكي للعلاقات الدولية. المنطقة العربية اليوم هي حزمة من القضايا تبدأ بالنفط وأمن الطاقة وأمن إسرائيل والأسلحة البيولوجية والكيماوية والنووية وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان واللاجئين الفلسطينيين أو الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا وعملية السلام إلى آخر قائمة طويلة من القضايا تحاول تهميش دور الدولة والقيادات المحلية حتى يتم تدريجيا ليس تدويل الأزمة السورية أو القضية الفلسطينية فحسب، وإنما تدويل العالم العربي برمته. قد يرى البعض في هذا قراءة غير مبررة بالنسبة للاتفاق النووي الأخير بين إيران ومجموعة 5+1 الغربية، ولكن بربط القضايا بعضها ببعض تتضح ملامح مشهد استراتيجي جديد للشرق الأوسط عموما، والمنطقة العربية خصوصا.

ماذا تعني «قضينة» الشرق الأوسط بالنسبة لفهمنا لطبيعة العلاقات الدولية في الشرق الأوسط؟

معظم الطلاب الذين يدرسون لدرجة الدكتوراه أو الماجستير في العلاقات الدولية قد يحارون في فهم «القضينة» وعلاقتها بتحويل قضايا الشرق الأوسط من صراع جيوبولتيكا إلى حزمة من القضايا تجعل دم المنطقة موزعا بين القبائل كما يقال. فكيف لهم أن يفهموا هذه التحولات التي لا تفسرها نظرية بعينها قد درسوها، فهم يقضون شهورا طويلة لمناقشة المدارس الفكرية والنظريات الحاكمة للعلاقات الدولية من المدرسة الواقعية التي ترى أن النظام الدولي هو نظام «كل دولة تساعد نفسها بنفسها» (self help system) بحجم قدراتها، إلى المدرسة المثالية التي ترى أن القيم هي الحاكم في العلاقات الدولية في نظرية السلام الديمقراطي (الديمقراطيات لا تحارب بعضها بعضا)، إلى نظريات أخرى كثيرة تجمع بين عناصر مختلفة من النظريتين السابقتين أو تعدلهما مثل نظريات جوزيف ناي وربورت كوهين في الاعتماد المتبادل للشعوب الذي سبق الحديث عن العولمة أو بشر بها، وفوق كل هذا وذاك وبعد ظهور مدارس مختلفة مثل البنيوية بدأ الكثيرون يركزون على بنية النظام الدولي ذاتها structure على أنها هي التي تحكم العلاقات الدولية، وبعدها ظهرت فكرة دوافع سلوك الدول في نظرية structure - agent. الواقعية تركز على الدولة الوطنية كفاعل رئيسي في العلاقات الدولية agent وتأخذ في الاعتبار البنية السياسية للنظام الدولي. ماذا تعني هذه النظريات في فهم ما يحدث في منطقتنا وما علاقتها بما اسميه «قضينة» الشرق الأوسط على ضوء ما حدث في الملف النووي الإيراني؟

الملف النووي الإيراني يكشف بما لا يدع مجالا للشك بأن سياسة إدارة أوباما تجاه الشرق الأوسط لا تحكمها أي نظرية معروفة في العلاقات الدولية من حيث فهمها لطبيعة العلاقات الدولية في الشرق الأوسط عموما وفي منطقة الخليج العربي خصوصا. فرغم أن أميركا ملتزمة بتوازن القوى كمفهوم حاكم في فكرة التفوق النوعي لإسرائيل على جيرانها كأساس للواقعية السياسية فإنها تخل بذات التوازن في سلوكها تجاه إيران التي كانت المستفيد الأول من مغامرات أميركا في المنطقة من أفغانستان إلى العراق والتي أدت إلى تعاظم الدور الإيراني وتمدد إيران على الأرض من العراق إلى سوريا إلى لبنان مضافا إليها دورها المشاغب في البحرين.

فهل القائمون على «قضينة» الشرق الأوسط والخليج يريدون أن تقوم أميركا بدور القوة التي تضبط توازن القوى مع إيران وتهميش الدول العربية في هذا الشأن؟ وهل القضينة تعني أن يصبح العالم العربي هو مجرد مجموعة قضايا تتحكم فيها دول الجوار غير العربي من إسرائيل لإيران إلى تركيا؟ وهل التعاون التركي الإيراني الجديد في سوريا وما بعدها هو امتداد للتعاون الاستراتيجي بين تركيا وإسرائيل، وتقوم الولايات المتحدة بدور القوة التي تحفظ التوازن؟ هل المعادلة الجديدة هي توريد البترول للغرب والولايات المتحدة تحديدا واستيراد الأمن الإقليمي؟

لست من المرتجفين من القنبلة النووية الإيرانية، بل إنني على العكس أرى في حصول إيران على القنبلة ترويضا لسلوكها وليس العكس. إيران التي على الحافة كما هي الآن تتبنى حزمة سياسات عدائية تجاه العرب وتمددت في الفضاء العربي بأكثر من قدراتها وحجمها، ولكن إيران النووية لن تغامر وستنكفئ على نفسها للحفاظ على قنابلها لا للحفاظ على حزب الله أو المالكي أو الأسد. الواقعية السياسية ترى أن الردع النووي هو أفضل الحالات لتجنب الصراع بين الدول، فرغم أننا نرى صراعات تقليدية كثيرا فإن الردع النووي أثبت أنه يحفظ السلم أكثر من أنه خطر. ولعل باكستان والهند النوويتين خير مثال على ذلك، فهما رغم خلافاتهما الحدودية الحادة فإنهما لم تدخلا في حرب أو نزاعات مسلحة.. ومن هنا يكون حصول إيران على القنبلة النووية أفضل لأنه سيكون لديها مجموعة قليلة من القنابل تحاول الحفاظ عليها وبهذا تتحول إلى لاعب إقليمي راشد وعاقل بدلا من ممارساتها الخارقة للقواعد الدولية. إذن احتواء إيران أو فرملة برنامجها النووي لا علاقة له بالواقعية السياسية. هو فقط يصب في «قضينة» المنطقة ليس إلا. الغرب يعرف، وكل من درس ألف باء البرنامج النووي الإيراني يعرف، أن إيران ومنذ أكثر من عامين لديها كمية كبيرة من محركات الطرد المركزي القادرة على إنتاج أكثر من قنبلة في غضون ستة أشهر إذا ما شاءت ذلك، وربما لذلك قبلت إيران بفكرة الستة أشهر في اتفاق جنيف لأن هذا الزمن يكفيها لإعلان نفسها قوة نووية حال الإخلال ببنود الاتفاق.

ماذا يعني كل هذا؟

يعني هذا الشرح أول ما يعني، أن الانفتاح على إيران ليس سببه الملف النووي وإنما رسم ملامح مشهد استراتيجي جديد للمنطقة تكون القضايا لا الدول وشعوبها وقادتها هي الأساس. مشهد هدفه إنتاج مجموعة من القضايا تحتفظ بالعالم العربي ولمدة خمسين سنة قادمة مشغولا بالـprocess أو العملية كما تم شغله لمدة عشرين عاما وأكثر بالعملية في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. الهدف من «القضينة» هو تحويل كل الملفات إلى عالم إدارة الصراعات لا حلها.

المشهد الاستراتيجي الجديد كما أراه، هو تحالف المحور غير العربي المتمثل في إيران وتركيا وإسرائيل لتطويق ما تبقى من دول عربية فاعلة تحد من الهيمنة الإيرانية أو الإسرائيلية أو التركية على المنطقة. ولكن من يتابع المشهد يرى أن «قضينة» الشرق الأوسط في التحليل النهائي تساوي مشروع إسقاط الدولة.. ففي اللحظة التي تسمع فيها مثلا بمسمى (مجموعة أصدقاء الصومال)، و(مجموعة أصدقاء اليمن)، و(أصدقاء ليبيا)، والآن (مجموعة أصدقاء سوريا)، ومن الوارد جدا لولا الدعم السعودي الإماراتي الكويتي لمصر لرأينا (مجموعة أصدقاء مصر).. أول ما تسمع بهذه المسميات، فاعرف أن هذه الدول أصبحت قضايا أو تم تدويلها. فعندما نقول (مجموعة أصدقاء) لأي دولة فهو دبلوماسيا معروف أننا إما نتحدث عن دولة فشلت فعلا ومطلوب وضعها تحت الوصاية، أو دولة في طريقها إلى الفشل، أو أنه لم يعد هناك دولة بل قضية أو مسألة the question of Palestine or Syria.. أي أنه تم تدويل الأمر وسقطت الدولة كمثل لشعب وكيان جغرافي أو لاعب سياسي. إذا كان الهدف هو إسقاط ما تبقى من الدول العربية القوية القائمة مثل السعودية ومصر والإمارات، فإن الحل لهذه القضينة يكون في تجمع عربي أمني صريح، شيء أشبه بإعلان دمشق، ولكنه متطور مع دول الخليج (دون قطر) مضافا إليها مصر والأردن (5+2) يكون له برنامج مناورات مشترك مثلا يوحي بأننا أمام حالة دول لاعبة لا مجرد ساحات للعب.

يجب عدم الاستهانة بمشروع «القضينة»، فقد نجحت إسرائيل في إدارة مسألة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي لأكثر من ستين عاما، وهي قادرة على إدارته لستين عاما أخرى. أميركا والغرب يريدان اعتماد صفحات من كتاب السياسات الإسرائيلية في التعامل مع قضايا المنطقة تدير وتطيل صراع السنة والشيعة مثلا لعشرين عاما، وقضايا المياه والكيماوي والنووي لعشرين عاما أخرى. لا حلول هناك لأي صراع، فقط إدارة صراع.. لا سلام، فقط هناك العملية.. ولا معركة مع إيران أو تغيير نظام في سوريا، فقط إدارة صراع وفي أحسن الظروف تؤدي إدارة الصراع إلى انهيار منظومة الأعداء كما حدث مع الاتحاد السوفياتي سابقا. تم الانفتاح على غورباتشوف وقام هو بنفسه بتحطيم الاتحاد السوفياتي. قد يأمل حسنو النية في إدارة أوباما بأن الانفتاح على إيران هو الطريقة المثلى التي تؤدي إلى انهيار النظام الإسلامي هناك. ولكن هناك فارق كبير بين نظام لاهوتي في طهران ونظام اشتراكي في الاتحاد السوفياتي. فارق بين دولة تكون التقية السياسية عندها عقيدة، ودولة تمارس ما يعرف بالخداع الاستراتيجي. الخداع الاستراتيجي كما لعبة الشطرنج يلعب حسب قواعد معروفة للنصر وللهزيمة، أما التقية السياسية فأساسها إظهار قبول لقواعد اللعبة بهدف تحطيمها.

ومع ذلك، إن لم تكسب أميركا والغرب في انهيار إيران المأمول أو إيقاف برنامجها النووي، تكون قد كسبت «قضينة» الشرق الأوسط. وهذا مكسب لو تعلمون عظيم. التكالب على مقدراتنا من طامع بعيد وجوار غير عربي قريب لا يضمر لنا سوى مزيد من الوهن لنصبح ساحة خلفية لتعاونهم أو حروبهم. إما سوق بضائع أو مسرح حرب، جوار لا يريدنا لاعبين بل يسعى ليجعلنا ساحة للعب. يريدنا قضايا لا دولا تستحق مكانتها تحت الشمس.. ومن هنا، واجب علينا كأكاديميين وأساتذة علوم سياسية، أن نطلق صافرة الإنذار تنبيها من شكل جديد وخطير قادم من الاستعمار والهيمنة، اكتمل أو كاد أن يكتمل اسمه «قضينة» العالم العربي.