قصة حصار كنيسة المهد من الداخل: الإسرائيليون فكروا في سياسة التجويع.. ولجأوا إلى نظام سري لإطعام القساوسة لكن المخطط أحبط

أحد الخارجين: خفت من الخروج وحدي لكي لا أتهم بأنني عميل *حبيب خرج لشراء دواء لوالدته فوجد نفسه وسط دراما الحصار

TT

جثث متحللة ملقاة الى جوار اقبية القديسين. اطفال ينامون في المكان الذي يقال ان المسيح ولد فيه. مسلحون ينزفون حتى الموت في بهو كنيسة من اكثر المواقع المسيحية قدسية.

وفي الوقت الذي دخلت فيه المواجهة في كنيسة المهد المحاصرة يومها الواحد والثلاثين بإطلاق مفاجئ للنار اسفر عن جرح شخصين ومقتل ثالث ونشوب حريق، فإن من في الداخل يبدون كأنهم يعيشون في دراما سيكولوجية معقدة تتراوح ما بين عملية احتجاز رهائن ومواجهة داخل سجن.

وبدأت رواياتهم في التكشف، بعد ان تم تجميعها من احاديث هاتفية مع هؤلاء الذين لا يزالون في الداخل وهؤلاء الذين تركوا الكنيسة.

ولا يزال ما يقدر بحوالي 40 قسيسا وراهبا وراهبة داخل الكنسية منذ 2 ابريل الماضي، عندما لجأ مئات من الفلسطينيين اليها هربا من القوات الاسرائيلية الغازية. وذكر القساوسة والرهبان انهم يشعرون بمسؤولية تجاه تقديم الملاذ ولكنهم يشعرون بالانزعاج من وجود المسلحين.

والفلسطينيون يواجهون صراعا هم ايضا، وانقسموا الى اجنحة في مواقعهم، فالبعض يريد النفي الى الخارج، في انتظار فرصة قتال في يوم اخر، بينما تسعى جماعة صغيرة الى المواجهة.

ويقول عمر حبيب وهو شاب في السادسة عشرة من عمره غادر الكنيسة في الاسبوع الماضي، ذكر البعض «سأبقى في الكنيسة. افضل الموت في الكنيسة. وهم يشعرون ان ما يحدث داخل كنيسة المهد سيساهم في تحقيق الدولة الفلسطينية».

ومن بين مايقدر بـ 200 فلسطيني لجأوا الى الكنيسة، لا يزال فيها حوالي 150، معظمهم من المسلحين وتزعم اسرائيل ان عشرة منهم على الاقل، و50 على اكثر تقدير، من المطلوبين لديها.

اما الماء والطعام فقد اخذ في النفاد داخل الكنيسة. والقناصة الاسرائيليون يطلقون النار بصفة مستمرة على من يخرج الى باحتها الخلفية. وتواصل اسرائيل حملة لاضعاف الروح المعنوية، واثارة الرعب وتطلق صفارات الانذار لعدم اتاحة الفرصة لهم، للنوم. ويصر الاسرائيليون على ان رجال الدين والمدنيين الفلسطينيين رهائن. ولكن لم يذكر او يشر القساوسة الذين غادروا الكنيسة انهم اجبروا على البقاء داخل الكنيسة.

وذكر الفلسطينيون الذين خرجوا في الايام الاخيرة ان المجموعة التي لا تزال داخل الكنيسة مشتتة بين الولاء للرفاق والخوف من الجنود الاسرائيليين، الذين قتلوا خمسة فلسطينيين خلال فترة الحصار.

ولكنهم اشاروا ايضا الى الضغوط من اجل البقاء متحدين، في المواقف فيما يخص البقاء او الخروج.

وتجدر الاشارة الى ان استمرار وجود القساوسة والمدنيين هو ضمانة لسلامة المطلوبين من الاجنحة العسكرية المتهمة بقتل المدنيين الاسرائيليين.

واوضحت السلطة الفلسطينية وقادة الفصائل ان باستطاعة الجميع الخروج، طبقا لما قاله من خرج بالفعل. ولكن القادة حذروا، ان القيام بذلك، سيبدو كنوع من الخيانة اي حكم اعدام في مجتمع تقتل فيه الجماهير الغاضبة المتعاونين.

ويقول ثائر محمد مناصرة وهو شاب في العشرين من عمره نقل الى مستشفى اسرائيلي بعدما اطلق عليه قناص النار عندما خرج لجمع نبات الخبيزة لكي يأكل: لم اكن ارغب في المغادرة لانني خفت ان اتهم بالعمالة.

والموقف معقد ايضا خارج اسوار الكنيسة العالية كما هو داخلها. فالقيادة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية والفاتيكان والبطريركية اليونانية الاورثوذكسية، والكنيسة الانجليكية والاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة والعديد من الدول الاخرى، تشارك في جهود دبلوماسية حثيثة.

وذكر الاسرائيليون انهم يريدون انهاء الازمة بسلام، ولذلك تجنبوا معركة مسلحة داخل الكنيسة. ولكنهم لم يستبعدوا حلا عسكريا.

وذكر الكابتن غول ليدن المتحدث باسم الجيش «نبذل كل جهد انساني بقدر الامكان لاخراج الرهائن المدنيين والارهابيين من الكنيسة في اسرع وقت وبسلامة، ولكن ليست العملية بلا نهاية».

وفي دليل اخر على التوتر القائم، سمعت اصوات الطلقات النارية وشب حريق في دير الفرنسيسكان الملاصق للكنيسة. وذكر الجيش الاسرائيلي ان الفلسطينيين اطلقوا النار عليهم، مما دفعهم الى اطلاق مجموعة من الطلقات التحذيرية. وقال الفلسطينيون ان الاسرائيليين حاولوا اقتحام الكنيسة، ولم يكن من الواضح من اطلق النار اولا. تجدر الاشارة الى ان المواجهة في الكنيسة بدأت بعد ظهر الثاني من ابريل (نيسان) الماضي. ففي الوقت الذين كان السكان يخزنون فيه المواد الغذائية، استعدادا لغزو اسرائيلي متوقع، والمسلحون يتجمعون في ساحة المهد امام الكنيسة لاعداد خطط المقاومة، ظهرت فجأة القوات الاسرائيلية من جميع الاتجاهات.

وانطلقت الصيحات من كل مكان «اركضوا الى الكنيسة، اركضوا الى الكنيسة».

وكان حبيب، الشاب البالغ من العمر 16 سنة، في الشارع يعدو لشراء ادوية لوالدته المصابة بمرض السكر عندما سمع الطلقات. وجرى نحو المسجد المحلي، ثم سمع الصياح بالتوجه الى الكنيسة فخرج من المسجد وتوجه الى الكنيسة.

وعندما دخل وجد حوالي 200 فلسطيني داخل الكنيسة المظلمة التي لا يضيئها الا مجموعة من النوافذ المرتفعة والشموع.

وكان العديد من الرجال والاولاد غرباء، وإن كان هناك بعض الاصدقاء هنا وهناك.

كما كان هناك عناصر من فصائل معارضة مثل حركتي الجهاد الاسلامي وحماس وكتائب شهداء الاقصى ـ الجناح العسكري لفتح.

ويضيف حبيب «شعرت بالخوف. لا اعرف كيف سيمكننا الخروج من هناك».

ولم يستغرق الامر طويلا لكي تتخذ المواجهة شكلا اكثر عنفا.

ففي 4 ابريل الماضي يبدو ان سمير ابراهيم سلمان وهو رجل اصم يبلغ من العمر 45 سنة، قضى معظم حياته العملية يدق اجراس الكنيسة، قرر العودة الى منزله. وخرج من المدخل الجنوبي للكنيسة، متجاهلا او ربما لم يستوعب صيحات القناص الاسرائيلي، الذي اطلق النار عليه خوفا من انه يكون انتحاريا فقتله.

ويقول الكولونيل مارسل افيف رئيس عمليات الجيش الاسرائيلي في منطقة الكنيسة «لقد قتل، وانا آسف على ذلك».

غير ان ظروف عملية القتل الاخرى فغير واضحة.

ففي الساعات المبكرة من 8 ابريل الماضي شب حريق في دير الفرنسيسكان، في قاعة الطعام ومنطقة المطبخ في الطابق الثاني. وادعى الفلسطينيون في الداخل ان الحريق شب خلال محاولة فاشلة للقوات الاسرائيلية الخاصة، وانه ربما كان نتيجة طلقات مضيئة وقنابل صاعقة. غير ان الاسرائيليين، قالوا انهم لم يدخلوا الكنيسة او المجمع.

وبغض النظر عن السبب، فقد قتل خالد صيام وهو ضابط شرطة فلسطيني عندما حاول اطفاء الحريق، بينما ذكر الاسرائيليون انهم شاهدوا رجلا داخل المنطقة يحمل سلاحا. واصابته الرصاصة تحت عينه اليسرى، وقتل على الفور.

وطبقا لعدد من الذين تمكنوا من الفرار من الكنيسة فإن محافظ بيت لحم محمد مدني الذي يوجد داخل الكنيسة منذ بداية المواجهة تمكن من توحيد الفلسطينين في الكنيسة. واوضح جهاد ابو كامل (16 سنة) الذي يعتبر اول من غادر الكنيسة انه قال لهم «اذا اردتم الخروج فاخرجوا. ولكن اذا خرجتم، ستعتبرون من المتعاونين».

وبعد خمسة ايام من مقتل صيام، اصبح عثمان ناصر وهو ضابط شرطة فلسطيني ثالث فلسطيني يقتل خلال الحصار. وقد تمكن من الزحف من مبنى قريب الى الكنيسة الرئيسية، حيث نزف حتى الموت. وقال لجماعات الانقاذ داخل الكنيسة وهو يحاول طلب المساعدة «لا أريد ان اموت، لا أريد ان اموت».

ومرت الايام بتثاقل. وتمركز الفلسطينيون في الكنيسة الرئيسية، يتناقلون بين الاعمدة العالية، واركان الكنيسة المزدحمة بالمصابيح الذهبية ونقوش دقيقة تعود الى العصر البيزنطي.

اما بالنسبة للطعام فقد زادت ندرته بمرور الوقت. ففي الاسبوعين الاولين، كان الطعام من المواد المخزنة في العديد من الاديرة الموجودة بالمجمع. وكان الفلسطينيون يتناولون وجبة غذائية يوميا ـ الفول والارز بل ودواجن. ثم نفدت الامدادات الغذائية.

وكان الاسرائيليون يأملون في البداية في تجويع الفلسطينيين، طبقا لما ذكره المسؤولون العسكريون الاسرائيليون. ولكن وجود رجال الدين قضى على هذه الخطة. وتبين للاسرائيليين ان عليهم الاستمرار في امداد رجال الدين بالمواد الغذائية او المخاطرة بتجويع القساوسة والرهبان والراهبات، ايضا.

ولذلك اقاموا نظاما سريا لتسليم المواد الغذائية، حيث كانوا يسلمونها عبر مداخل عديدة للمجمع. الا ان رجال الدين، بدورهم، استمروا في مشاركة الطعام مع الفلسطينيين.

وقطع الاسرائيليون المياه عن المجمع، واجبروا من بالداخل على الاعتماد على مياه الابار. وسرعان ما انخفض مستوى المياه فيها بحيث وصل الى قاع الابار الطينية التي تنتشر فيها الحشرات.

وبدأت الاوضاع تؤثر على الفلسطينيين، مثل التكتيكات السيكولوجية الاسرائيلية. ففي بعض الايام كان الجنود يلقون زجات بلاستيكية تحتوي على عبارات تتعهد بتقديم الغذاء والملاذ الآمن. كما كانت هناك محادثات هاتفية. ومن بين العبارات «لا تفكر في الاخرين. فكر في نفسك».

وبالنسبة لجثث القتلى فقد جرى تخزينها في غرفة في دير الكنيسة اليونانية الاورثوذكسية وبدأت في التحلل. وكانت دورات المياه محدودة، وبسبب نقص المياه اصبحت مجارير ينبعث منها روائح كريهة انتشرت في جميع انحاء بهو الكنيسة، ولا يمكن الهرب منها.

وارتفعت حدة التوتر في 21 ابريل الماضي. فقد كانت مجموعة من الفلسطينيين في دير الرهبان الارمن، الذين ابتعدوا بانفسهم عن الفلسطينيين اكثر من غيرهم من رهبان الكنيستين اليونانية الارثوذكسية والفرنسيسكان.

وادت عمليات التخريب التي امتدت الى دير الكنيسة الارثوذكسية، الى انذار من القسيس المصري ابراهيم فلتس وهو من كنيسة سانت كاثرين، المتاخمة لكنيسة المهد.

وقال حنا ناصر عمدة بيت لحم ان فلتس انذر من هم خارج الكنيسة «نعطيكم مهلة 48 ساعة. اذا لم تفعلوا شيئا، فسيترك القساوسة الكنيسة».

وكان التهديد واضحا والمعروف انه اذا ترك القساوسة، فلن توجد حماية للفلسطينيين بالداخل. وبعد مرور يومين بدأت المحادثات.

وعقد فريقا المفاوضات اول اجتماعاتهما في 23 ابريل. ورأس الفريق الاسرائيلي الكولونيل افيف، بينما رأس الجانب الفلسطيني صلاح التعمري عضو المجلس التشريعي.

وجاءت النتيجة سريعا، اذ وافق الاسرائيليون على اخراج الجثتين من الكنيسة، واختار الفلسطينيون بالداخل 9 اطفال لحمل الجثث.

وسرعان ما اصبح مصير الرجال المطلوبين اصعب نقطة في المفاوضات.

واصبح ينظر الى اثنين من المتطرفين في داخل كنيسة المهد على انهما قادة المسلحين.

وكان ابراهيم عبيات القائد المحلي لكتائب الاقصى، قد ذكر لصحيفة «لوس انجليس تايمز» الاميركية، في مارس (اذار) الماضي، انه امر بقتل مستوطن اسرائيلي. بينما اتهم عبد الله داود خضر وهو مدير قسم للاستخبارات الفلسطينية، بتهريب الاسلحة.

فالحكومة الاسرائيلية تريد محاكمة الرجال في اسرائيل او نفيهم. غير ان الفلسطينيين يعتبرون ذلك سابقة خطيرة ويصرون على بقاء الرجال في الاراضي الفلسطينية لمواجهة المحاكمة هناك.

واحاطت تساؤلات ايضا بمصير رجال اخرين داخل الكنيسة. فإسرائيل تريد التحقيق مع كل واحد منهم، غير ان الفلسطينيين قاوموا ذلك، خوفا من تعذيبهم او سجنهم بدون وجه حق.

وبعد ايام، قتل خلالها فلسطينيان اخران برصاص القناصة واصيب اثنان اخران بجراح، توقفت المفاوضات الرئيسية يوم الاثنين.

ولكنها استمرت مفاوضات على مستوى اقل، او تركزت معظمها على الافراج عن المحاصرين داخل الكنيسة الذين يريدون الخروج. وخرج 26 شخصا يوم الثلاثاء الماضي، ومن المتوقع خروج مجموعات اخرى.

وبالرغم من ان المفاوضات ظلت مجمدة يوم اول من امس، فإن رفع الحصار عن مقر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في رام الله، جدد الامل في العملية، ويمكن ان يقدم مثالا لانهاء الازمة في بيت لحم.

وقد ذكر الفلسطينيون انهم على استعداد لقبول حراس بريطانيين واميركيين للاشراف على عملية النقل، والمحاكمة وسجن اي من المطلوبين داخل الكنيسة. ولم تستبعد اسرائيل مثل هذا الحل. لكن انفجر الوضع حول الكنيسة امس وقتل الاسرائيليون فلسطينيا اخر وجرحوا اثنين اخرين.

ويتوقع بعض الفلسطينيين حلا خلال الايام القليلة القادمة ـ ربما خلال احتفالات عيد الفصح للكنيسة الارثوذكسية التي تصادف بعد غد، والتي يحتفل بها في تاريخ مختلف من احتفالات البروتستانت والكاثوليك. غير ان البعض لا يأمل خيرا.

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ «الشرق الاوسط»