العراق: الحياة الاقتصادية والاجتماعية تغيرت كثيرا... والسياسة ظلت على حالها

TT

كانت ليلة منعشة في ساحة التحرير في بغداد وكان المزاج العام للجمهور احتفاليا حيث تجمع طلبة الجامعات والشيوخ والفتيات الخجولات امام محل «الفقمة» للآيس كريم.

مثل هذا المشهد كان مستحيلا في عراق منتصف التسعينات. فقد كان الناس مفلسين والحكومة توزع الحليب والسكر بنظام الحصص. لكن تلك الايام ولت الآن. فالنشاط الاقتصادي والاجتماعي يستعيد وضعه تدريجيا وبدأت تتخفف القيود التي فرضتها الولايات المتحدة وغيرها من القوى الغربية بعد حرب الخليج قبل عقد من الزمن.

ولدى العراق ما يكفيه الان لاعلان حظر نفطي، كما فعل الشهر الماضي عندما اوقف الصادرات احتجاجا على احتلال القوات الاسرائيلية للمدن الفلسطينية في الضفة الغربية. وهذا ما حظي بإعجاب العرب في عديد من الدول العربية، بالاضافة الى قراره دفع 25 الف دولار الى اسر الانتحاريين، وهو ما قالت الولايات المتحدة انه تم بالفعل.

ويقول العديد من العراقيين والدبلوماسيين الاجانب ان ازدهار البلاد سيجعل من هدف الولايات المتحدة ابعاد الرئيس صدام حسين مهمة اكثر صعوبة. وفي الوقت ذاته فإن الازدهار المتنامي يسمح للجهاز السياسي العراقي بإعلان ان العراق هو المنتصر النهائي في حرب الخليج.

وقال وزير النفط العراقي عامر محمد رشيد «ان العديد من الناس قالوا ان العراق سينهار في عام 1991، ولكننا اعدنا بناء بلدنا».

غير ان النفط هو المحرك السياسي للازدهار. وقد سمح للعراق ببيع اي كمية يريدها من النفط لشراء المواد الغذائية والطبية وغيرها من الضروريات. غير ان البلاد تحصل على كميات كبيرة من الاموال بطريقة غير قانونية عبر تهريب النفط، ونظام ضرائب اضافية على النفط، ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الاميركية ان العراق يحصل بمقتضاه على 2.5 مليار دولار سنويا اضافية.

وبالرغم من ان المسؤولين الاميركيين يعترفون بأن معظم هذه الاموال تستخدم في اعادة تأهيل الجيش العراقي وتطوير الصواريخ بعيدة المدى وربما ايضا انتاج اسلحة نووية او بيولوجية او كيماوية، فإن البعض يستخدم لتحسين حياة العراقيين. فمتوسط دخل الفرد في العراق يصل الان الى 2500 دولار سنويا وهو ضعف متوسط الدخل في مصر، طبقا لتقرير وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي. آي. ايه)، بينما زاد اجمالي الناتج الداخلي بنسبة 15 في المائة في عام 2000.

وقد بدأ رجال الاعمال في شحن سفن بأكملها من اجهزة الكومبيوتر والتلفزيون والمعدات المنزلية وغيرها من البضائع من دبي لبيعها في محلات بغداد. ويؤمن الاثرياء العراقيون احتياجاتهم عبر رحلات طويلة المدى من محلات بقالة في عمان على مسافة 12 ساعة بالسيارات.

بينما يشتري المزارعون جرارات جديدة، وبدأت باصات ذات طابقين في الظهور في العاصمة. كما بدأت بعض السيارات الفاخرة تظهر في الشوارع.

وفي اطار هذا التطور، عاد العراق مرة اخرى لكي يصبح قوة اساسية في الاقتصاد الاقليمي. فمعظم وارداته التي تصل قيمتها الى 13 مليار دولار تأتي من تركيا ومصر والسعودية وسورية والاردن. وقد تضاعفت مبيعات تركيا للعراق في العام الماضي، حيث وصلت الى مليار دولار، بينما تصل صادرات مصر الى حوالي ملياري دولار.

كما بدأ العراقيون في السفر للخارج. فشركة الطيران الاردنية الملكية تنظم اربع رحلات اسبوعيا من والى بغداد، كما توجد رحلات جوية الى دمشق وموسكو.

ومستقبل العراق وصدام حسين هو الشغل الاساسي في المنطقة وبالنسبة لقادة العالم. فبالنسبة لواشنطن لا يزال صدام حسين مصدرا للازعاج والتوتر باصراره على تطوير اسلحة دمار شامل من المحتمل استخدامها ضد اسرائيل او الدول العربية او الولايات المتحدة. وكان المسؤولون الاميركيون قد عرضوا في اجتماع اخير لمجلس الامن ادلة على مواقع جديدة للصواريخ طويلة المدى، بينما يتشكك الدبلوماسيون الاجانب في بغداد بأن المسؤولين العراقيين صعدوا جهودهم للحصول على مواد تمكنه من انتاج قنبلة نووية.

وكان الرئيس الاميركي جورج بوش قد وصف العراق بأنه جزء من «محور الشر» الذي يضم ايران وكوريا الشمالية ايضا. غير ان المسؤولين الاميركيين لم يقدموا حالة واحدة تربط العراق بـ«القاعدة» او اي عملية ارهابية ضد المصالح الاميركية.

وبين جيران العراق العرب فإن النظرة اقل تشاؤما. فصدام حسين يعتبر رئيسا ديكتاتوريا، ولكن العديد اشاروا الى انه اصبح اكثر حذرا بعدما طرد جيشه من الكويت عام 1991. وهو يعلم ان تحالفا دوليا يمكن ان يتصدى لاي نشاطات عدوانية لبغداد، وهو ما يعني نهاية حزب البعث الذي يسيطر على البلاد.

وقال دبلوماسي في بغداد لعبت حكومته دورا في اقناع الولايات المتحدة بتجنب العمليات العكسرية في غياب استفزاز واضح، ان مخاطر اسقاط صدام حسين تماثل مخاطر تركه في السلطة.

واوضح الدبلوماسي انه في هذا المجتمع «توجد كراهية كبيرة للولايات المتحدة، فكل مشكلة تلقى مسؤوليتها عليها وليس على النظام». وهجوم اميركي يمكن ان يؤدي الى انقسام البلاد بين منطقة كردية شبه مستقلة في الشمال ومنطقة شيعية تخضع لنفوذ ايران في الجنوب، ومجموعة سنية تسيطر على المنطقة الوسطى.

كما ان بعض العراقيين الذين يكرهون النظام، يشعرون بالحذر من احتمالات الهجوم. فهم يفضلون الوفاة الطبيعية للرئيس البالغ من العمر 65 سنة بدلا من مخاطر الحرب او الثورة. ويقول المستشارون في مكتب الرئيس ان موقف الحكومة العلني، وهو موقف التحدي ومعاداة الولايات المتحدة والاستعداد للقتال، لا يمثل القصة بأكملها، «ماذا سنقول اذا قال بوش اننا محور الشر؟ لقد حاربنا ايران لثماني سنوات. كيف يمكن وضعنا في نفس الكفة؟». وبالرغم من حديث الحرب فإن الولايات المتحدة لم تغير ضغوطها العسكرية منذ نهاية حرب الخليج. ففي كل يوم تحلق الطائرات الاميركية لمراقبة القوات العراقية. كما تشن احيانا غارات على المدفعية المضادة للطائرات. غير ان الدبلوماسيون في بغداد والمحللين في واشنطن قالوا ان تهديد بوش بشن حرب ربما قد ادى الى نتائج مع ظهور مجموعة من البرغماتيين في مجلس قيادة الثورة.

واوضح الدبلوماسيون انهم يعتقدون ان وزير الخارجية ناجي صبري اصبح نافذا في تحالف مع ابن صدام حسين وخليفته المتوقع قصي. ويقال ان صبري ضغط من اجل تحسين العلاقات مع الكويت والسعودية. بل ان العراق تعهد في مؤتمر القمة الاخير الذي عقد في بيروت باحترام سيادة الكويت. كما استأنف محادثات مع الامم المتحدة لعودة محتملة لمفتشي الاسلحة الى العراق الذين انسحبوا من البلاد في عام 1998.

غير ان صدام يظل هو المسيطر والممسك بالسلطة بالرغم من سوء الادارة والاعدامات السياسية والفظائع ضد شعبه، ولا تزال تماثيله تنتشر في انحاء العاصمة. وينظر الىه في اوساط الحزب على انه الوريث الطبيعي لللشخصيات الاسلامية العظيمة من امثال صلاح الدين الذي اوقف المد الصليبي.

يقول عبد الرازق الهاشمي وهو متحدث شبه رسمي باسم الحكومة، ان بوش «يريد نفط العراق. وصدام حسين لا يسمح له. ويريد وضع حكومة عميلة وصدام لا يسمح له. . ليس من حق اي انسان الذهاب الى بلد اخر وتغيير نظام الحكومة.. لا يمكن لاحد ان يزيل العراق من تقويمه».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»