متحف دولي يفتتح اليوم في واشنطن لمعدات تجسس الحرب الباردة

كاميرات تحملها طيور مدربة وأحذية مزودة بأجهزة تنصت وحبة سيانيد في نظارة تقتل صاحبها في أقل من ثانية

TT

أقدم مهنة في التاريخ ليست ما نظن، بل هي التجسس، لأنه ما أن نزل الانسان عن الشجرة ووقف على قدميه، حتى بدأ يرصد جاره الحيوان ويخطط ليجرّه الى فخ يوقعه فيه، فيصطاد منه ويلبس ويأكل.. من بعدها مرت ملايين السنين، وأصبح الناس يتجسسون على الناس بطرق وأدوات وأجهزة سرية معقدة ومتنوعة، معظمها يضمه الآن متحف دولي يفتتحونه اليوم بواشنطن، عاصمة أكبر دولة تجسس وجواسيس في العالم. بخمسة دولارات للقاصرين وبعشرة للبالغين، يمكنك أن تتحسس بيديك وترى بعينيك ما كان سر الأسرار طوال 40 سنة من حرب باردة بين الأميركيين والسوفيات وحلفائهم الاسرائيليين والعرب والألمان، شرقيين وغربيين، ومعهم الفرنسيون والبريطانيون والصينيون وغيرهم الكثير: كاميرات حملتها طيور مدربة على التجوال بين الأبنية لتلتقط عدساتها ما كان صعبا على العين أن تراه، وأحذية مزودة بأجهزة لاستراق السمع والتنصت على الدبلوماسيين، بل ونظارات مودعة فيها جرعات من سيانيد سام، ومعها ولاعات صغيرة تلتقط الصور بعدسات حساسة بضغطة على زر، وغيرها الكثير بين ألف و100 أداة وجهاز تجسس يضمها المتحف، القريب 200 متر من مقر مكتب المباحث الفيدرالي (إف.بي.آي) في عاصمة الأميركيين، حيث باع واحد كان في المكتب موظفا طوال 27 سنة، بعض الأسرار للسوفيات، قبل أن يكتشفوه ويعتقلوه ويزجوه وراء القضبان.

بائع الأسرار الأميركية للاتحاد السوفياتي السابق، هو روبرت هانسن، أو الرجل الذي بدأ منذ 1979 وطوال 20 سنة، يتجسس لمصلحة موسكو لقاء مليون و400 ألف دولار، قبض بعضها كأحجار من الماس، الى أن اعتقلوه في بداية العام الماضي وهو يتهيأ لتسليم وثائق سرية لعناصر من المخابرات الروسية في حديقة بفرجينيا، فحاكموه طبعا، وقبل شهرين أدانوه بالسجن مدى الحياة، بدل الاعدام الذي تملص منه لقاء التعاون التام مع المحققين، بوصفه كان مسؤولا في مصلحة الأمن القومي، وهي حكاية مسلسلها معقد جدا، الا أنك ستتعرف الى بعض أسرارها اذا ما زرت المتحف «الهادف الى اطلاع الزائرين على حياة التجسس والجواسيس بطريقة تغريك لخدمة البلاد» وفق ما يقوله القيّمون عليه في بيانات وزعوها طوال أسبوع سبق الافتتاح اليوم.

ويقول أنطونيو منديز، وهو جاسوس ابن جاسوس، وعمل سابقا كوالده، أي كبير مسؤولي التنكر بوكالة المخابرات الأميركية (سي.آي.إيه) قبل أن يتقاعد منذ عامين «من هذه المهنة الرائعة» وفق تعبيره أول من أمس مع «الشرق الأوسط» بالهاتف من واشنطن، إن الفكرة من اقامة المتحف «هي اشباع فضول زائريه، ممن نقدرهم بنصف مليون كل عام، بأكبر عدد ممكن من أدوات التجسس وأجهزته، ومعظمها من الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا واسرائيل وألمانيا، الشرقية والغربية سابقا، والاتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا السابقة ورومانيا وأوكرانيا وبولندا. لكن ليست عندنا أية موجودات من أجهزة تجسس استخدمتها دول عربية في المتحف الذي أشارك في ادارته مع زوجتي أيضا» وفق تعبيره.

أما المدير التنفيذي للمتحف، بيتر أرنست، الشهير بأنه كان في السابق ضابطا في «سي.آي.إيه» فبث عبر صفحة خاصة عن المتحف بالانترنت أنه لا يريد أن يخيب ظن بعض الزوار «الفضوليين أكثر مما ينبغي» لأنهم قد يرغبون في رؤية أجهزة تجسس تستخدمها الاستخبارات الأميركية وسواها الآن «وهذا صعب، فهي لن تكون موجودة فيه بالمرة، لأنها مصنفة كسرية جدا» كما قال.

الا أن المتحف يضم ما يماثلها تقريبا: كاميرات تجسس، صغيرة بما يكفي لأن تمر من ثقب، وطويلة بما يكفي أن تمتد لتدخل عبر جدار يفصل بين غرفتي فندق، بحيث يمكن تدويرها لتمر على وثائق موجودة في الغرفة الثانية، وهناك تبدأ بالتقاط صور للوثائق بحجم ملميتر واحد.

ويعرض المتحف أيضا «هدية» قدمتها الاستخبارات الأميركية، وهي عبارة عن كميات كبيرة من «الحبة القاتلة» المصنوعة من مادة السيانيد السام، التي كانت «سي.آي.إيه» تزود بها عملاء، اعتادوا الاطلاع على أسرار حساسة للأمن القومي الأميركي «لذلك كانت لهم كالملاذ الأخير، لأن الواحد منهم كان مزودا بأمر حاسم، يقضي بابتلاعه للحبة اذا ما تم اعتقاله، وبهذه الطريقة يلفظ أنفاسه قبل أن يسمح لمعتقليه باستجوابه وتعذيبه للحصول على ما لديه من معلومات» بحسب ما بثه أرنست، المتحدر كما يقول من عائلة أدت جميعها خدمات مخابراتية للدولة الأميركية.

كما يضم المعرض، وفقا لما بثه على صفحته بالانترنت، نظارات تخفي مادة سيانيد قاتلة أيضا في نهاية ذراعها عند الأذن «كي يتمكن الجاسوس من خلعها وكسر طرفها، من دون أن يثير شبهات، بحيث يسحب الحبة ويستخدمها كما يشاء، سواء لقتل نفسه أو الآخرين، مع أن أحدهم كان مزودا بها قبلها ولم يفعل شيئا، وهو الطيار الأميركي في «سي.آي.إيه» فرانسيس غاري باورز، الشهير بأنه حلق بطائرة تجسس، طراز «يو ـ 2» فوق الأراضي السوفياتية لتصوير أماكن حساسة فيها في الثمانينات. لكنه لم يبتلعها عندما اضطر للهبوط بمظلة بسبب تعقب الطائرات السوفياتية لطائرته، فظل باورز حيا كجاسوس بعد أن قبضوا عليه، لكنه خرج فيما بعد بعملية تبادل جواسيس شهيرة ذلك الوقت» كما ورد من المتحف، المتضمن صورا التقطتها عدسات حساسة علقت في أعناق طيور حلقت فوق المدن الألمانية زمن الحرب العالمية الثانية، وصور لأسطح أبنية «حساسة» في باريس التقطتها طائرات استطلاع أميركية في السبعينات.

وذكر أنطونيو منديز، الذي قال إن زوجته جونا عضو استشارية بالمتحف أيضا، إن ما سيثير اهتمام الزائرين أكثر «مسدس عيار 5،4 ملليمتر، بطلقة واحدة ومخفي داخل أنبوبة أحمر شفاه، ومعروف منذ استخدامه خلال الحرب العالمية الثانية باسم «قبلة الموت» لدى جهاز «كي.جي.بي» المخابراتي السوفياتي السابق، فهو رائع أكثر من مسدس بماسورة عيار 0.22 ملليمتر، بطلقة واحدة ومزود بمكبس، يسمح للجاسوس الأميركي أن يتسلل به الى كشك الحراسة، فيما لو اعتقله جهاز مخابراتي معاد، ليقتل الحارس بالطلقة ويلوذ من بعدها فارا، على طريقة جيمس بوند في الأفلام السينمائية» على حد تعبيره.

ويعترف منديز بأن السوفيات كانوا سباقين الى الاختراعات التجسسية أكثر من الأميركيين طوال الحرب الباردة «خذ مثلا اختراعهم لجهاز تنصت كامل، كان يمكن تثبيته في كعوب الأحذية لرصد محادثات الدبلوماسيين الأميركيين، مما جعل من أحد السفراء السوفيات السابقين بواشنطن «ميكروفونا» مزروعا لمصلحتهم بأميركا، ومتنقلا أينما أرادوه أن يتنقل» كما قال.

وذكر منديز ما يثير أكثر: في منتصف 1977 واجه الدبلوماسي السوفياتي السابق، ألكسندر أوغوردنيك، العميل قبلها لحساب الولايات المتحدة، مسؤولين سوفياتاً في موسكو بعد اعتقاله، وانهالت عليه الاتهامات، ومن بعدها طلبوا منه التوقيع على اعتراف، يؤدي به للاعدام حتما، فرضي وسحب قلمه مائلا الى الطاولة للتوقيع.. فجأة كسر أوغوردنيك القلم أمام الجميع، ومنه سحب حبة سيانيد، ابتلعها ومصها، ولم يسقط على الأرض الا جثة.

اذا لم تكن قد زرت متحفا هذا العام، ولا الذي قبله على الأقل، فان متحف التجسس والجواسيس الدولي في واشنطن، سيعوضك الكثير ويغريك بالأكثر.

=