أطفال الحرب الضائعون في السودان يبدأون حياة جديدة في أميركا

TT

على طول الاعوام الثمانية الماضية، ومارتن ماريال البالغ سبعة عشر عاما من العمر يعيش في كوخ صغير من القش والطين، بصحبة خمسة من الصبيان الاحداث، في مخيم للاجئين في شمال غرب كينيا.

اما والداه فقضيا نحبهما منذ زمن طويل، وغدا سريره الذي ينام عليه اليوم مجرد حصيرة مهترئة، ولا تتجاوز الوجبة اليومية الوحيدة التي يتناولها خليطا من الذرة المطحونة والممزوجة بالماء.

بيد ان حياته تتلخص في هم اساسي يتمثل في الحصول على تعليم جيد. ويبدو ان اولى الخطوات باتجاه هذا الهدف ستتحقق يوم الاحد المقبل، بخوض غمار رحلة «من عالم اليأس الى عالم الرجاء».

ومارتن من بين ثلاثة آلاف و800 سوداني، معظمهم من المراهقين والاحداث الذين يعرفون الآن «بشباب السودان المنسيين» لتنقلهم بين مناطق الحرب ومخيمات اللاجئين في منطقة شرق افريقيا. وسيجري ترحيلهم على طول الاشهر المقبلة الى الولايات المتحدة. وسيكون مارتن من بين المجموعة الاولى منهم التي تتضمن 29 شابا.

ويعبر هذا الشاب الطويل البالغ النحافة الذي سينقل الى ولاية فيلادلفيا قريبا عن مشاعره ازاء ذلك بقوله «اشعر بالاثارة لاني اترقب حصول تغييرات كبيرة في حياتي»، ويردف «لن اواجه الجوع والمرض، وساغدو قادرا على الالتحاق بمدرسة. ستتغير حياتي باسرها».

بيد ان ما يواجه حياة مارتن و«اخوانه» الآخرين لا يقتصر وصفه على التغير وحسب، اذ سيتعرضون لاختبار جدي لقدرتهم على التلاؤم مع المحيط الجديد. فهم على وشك خوض تجربة الهجرة الى اميركا والنجاح فيها.

ويتوقع الناشطون مع هؤلاء الشباب السودانيين ان مرونتهم التي ابدوها، الى جانب دعم شبكة المهاجرين الاميركيين من السودانيين لهم، ستساعدهم على تجاوز الصدمة الثقافية التي سيواجهونها هناك.

بيد ان هؤلاء يواجهون الآن عددا من الاسئلة الضخمة التي اثارتها في عقولهم 15 ساعة مركزة من التوجيه الثقافي. فالى اي مدى سيندمجون هناك؟ وهل سيقدرون على التواصل مع الآخرين بلغتهم الانجليزية الرثة؟ وهل ستقع في غرامهم الفتيات؟

وقصة هؤلاء استثنائية كما هو القرار الذي سيعيد رسم مستقبلهم. فهذه المرة الاولى التي يقرر فيها مكتب المفوضية العليا للاجئين التابع للامم المتحدة اعادة توطين هذا العدد الكبير من الاطفال اللاجئين من المقطوعين بلا اهل ومن نفس المخيم. وقد لبث هؤلاء الشباب معاً طيلة الاعوام الـ12 الماضية. ومعظمهم الآن من الايتام الذين نجوا من الغارات العسكرية على قراهم عندما كانوا مجرد اطفال صغار، ليتجهوا صوب اثيوبيا وينضموا الى جماهير السودانيين الجنوبيين المستقرين الآن في معسكرات اللاجئين الرثة هناك.

غير ان الحرب الاهلية في اثيوبيا ارغمتهم على الفرار مجددا الى السودان. ورغم ان بعض الصبيان لم يكونوا يتجاوزون الستة اعوام، فقد مكثوا اكثر من ثلاث سنوات في التجوال على طول سهول السودان الجنوبية القاحلة، لينتهي بهم المطاف قرب الحدود الكينية، وبعدها قرية كاكوما، حيث عاشوا هناك كعائلة ضخمة منذ ذلك الحين.

وتعرب بريتا لاو المسؤولة في المفوضية العليا للاجئين عن «ان ما مروا به هو ما يميز قصتهم، من ظروف فرارهم، وحداثة سنهم عند الفرار».

وتفضل المفوضية في العادة عودة اللاجئين الى اوطانهم، او توطينهم في البلاد التي تنتصب فيها مخيماتهم. غير ان هذين الخيارين غير متاحين «لصبيان السودان المنسيين»، الذين ينتمون في الغالب الى قبيلتي الدنيكا والنوير.

وكانت الحرب الاهلية في السودان قد تواصلت طيلة الاعوام الـ17 الماضية، وراح ضحيتها ما يقدر بـ1.9 مليون شخص، ومئات الآلاف من النازحين.

وتعاني كينيا من طوفان اللاجئين من البلدان المجاورة، بما فيها السودان والصومال. اما ظروف الاستقرار في كاكوما فصعبة للغاية، اذ باتت هذه المنطقة الآن موطنا لحوالي 68 الفاً من اللاجئين من سبعة بلدان مختلفة. ويفتقد هؤلاء الاحداث الرافضون الانضمام الى المتمردين، والذين باتوا غرباء عن ثقافة قبائلهم، الى وسائل العيش او القدرة على تشكيل عائلات لانفسهم.

فضلا عن ذلك، لم يخضغ معظم هؤلاء للطقوس السودانية التقليدية في جنوب السودان التي تخص الذكور، والتي تجري في العادة عند بلوغ الثالثة عشرة من العمر، وتخص ندوب الوجه وقلع العديد من اسنان الفك السفلي. لذلك، يعاملهم الكبار على انهم لا يزالون صغارا، حتى وان كان بعضهم الآن في اوائل العشرينات من العمر. علاوة على ذلك، لا يمتلك هؤلاء الابقار، التي تعتبر مطلبا اساسيا لتقديم المهور عند الزواج.

وتعلق ساشا تشانوف التي تنظم صفوف التوجيه الثقافي على هذا الوضع بقولها «ليس بامكانهم الاقدام على الزواج لعدم امتلاكهم المهور المناسبة. كما لا ينتمون الى عائلات او قبائل تضمنهم وتقدمهم للآخرين. انهم يشعرون بان التعليم وحده سيوفر لهم البديل عن كل تلك الامور».

ويرى العاملون في الاغاثة والمدرسون والمسنون من السودانيين والمسؤولون الاميركيون المطلعون على مثل هذه الحالات ان اعادة توطينهم هو البديل الوحيد لتجنب ضياع مستقبلم. ويوضح مسؤول اميركي، طلب عدم ذكر اسمه بسبب الظروف الاستثنائية لهذا البرنامج، «انهم يرغبون في محاولة صنع شيء لانفسهم... اما هنا في كاكوما، فليس من مستقبل لهم».

ويفيد المسؤولون بان الولايات المتحدة توافق على استقبال 18 الف مهاجر من افريقيا سنويا. وتشير وثائق المفوضية العليا لشؤون اللاجئين الى ان معدلات موافقة الحكومة الاميركية على الطلبات السودانية مرتفعة.

وسيعاد توطين الاحداث السودنيين في مدن تتضمن ريتشموند في فيرجينيا، واوماها وفنكس وسياتل وجاكسون في مسيسيبي ولانسنغ في ميتشغان وبوسطن. وسينضم صغار السن الى عائلات لترعاهم. كما ستقدم الوكالات الطوعية المساعدة لمن يتجاوزون الثمانية عشرة في العثور على وظائف وبيوتاً للسكن وتسجيل اسمائهم في المدارس. ورغم ان هؤلاء سيكافحون لاجل معيشتهم، فان توطينهم روعي فيه ان يظلوا قريبين من بعضهم.

ويوضح مسؤول اميركي «ان الفكرة الاساسية تقوم على انهم بسبب اعتمادهم كثيرا على بعضهم البعض، لن نفرقهم ونشتتهم، بل سنحاول توطينهم كمجموعة واحدة».

وتختلط مشاعر الراحلين بين الاثارة والقلق. ويعبر عن ذلك جون كور الذي سيتجه الى بوسطن قائلا «اشعر بقلق شديد، لانك عندما تكون غريبا عن مجتمع فانك ستواجه مشاكل جديدة... والتلاؤم مع ظروف جديدة ليس بالامر السهل دائما». اما يعقوب باوانغ، 17 عاما، والذي سيغدو بيته الجديد في فنكس، ويرغب في ان يصبح مهندسا فيقول «القلق يسيطر علي لان اميركا مجتمع مختلف... ولا ادري ماذا اتوقع، ولا بد ان الاندماج في مجتمع تحد في ذاته، وقد يستغرقني ذلك بعض الوقت».

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»