واشنطن تسعى لتحديد الثمن الذي تريده موسكو لتعاونها في مجال التعامل مع الملف العراقي

TT

يحاول الدبلوماسيون الأميركيون ان يحددوا الثمن الذي تطلبه روسيا كي تدعم قرارا دوليا جديدا يهدد باستخدام القوة ضد العراق، وللوصول الى ذلك كان عليهم ان يبدأوا من كلمتين هما «جاكسون ـ فانيك». فمن وجهة النظر الروسية كانت المساومة التجارية المفتاح الاساسي في المرة السابقة التي طلب الرئيس الأميركي جورج بوش من نظيره الروسي فلاديمير بوتين دعمه في الحرب ضد طالبان و«القاعدة» في أفغانستان. فبعد انقضاء فترة قصيرة على قبول بوتين دخول قوات أميركية الى آسيا الوسطى لمهاجمة أفغانستان في السنة الماضية، وعدت الادارة الأميركية بازالة القيود التجارية المفروضة على روسيا حسب قانون معروف باسم «تعديل جاكسون ـ فانيك».

لكن هذا القانون ظل ساري المفعول بعد انقضاء عام على وجود القوات الأميركية في آسيا الوسطى بسبب تقاعس الكونغرس عن تحقيق هذا الوعد. ومع انشغال صانعي السياسة الروسية والصحافيين حاليا في التدقيق بقائمة الحسابات المتعلقة بما قدمه الطرفان الى بعضهما البعض، يبدو ان الولايات المتحدة قد فشلت في تنفيذ الكثير من وعودها الهادفة لتحقيق الشراكة التي كان من المتوقع تناميها بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) العام الماضي، وخصوصا في ميدان توثيق الأواصر الاقتصادية. ومع بروز حاجة الولايات المتحدة مرة اخرى لروسيا، اصبح الزعماء الروس المتشككون اكثر تصميما لضمان ان تحصل روسيا هذه المرة على شيء ما بالمقابل. وفي هذا الصدد قال ديميتري روغوزن أحد حلفاء بوتين ورئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما (مجلس النواب في البرلمان الروسي): «نحن حقا نريد ان نرى اجراءات متقابلة». اما اندريه كوكوشين، أحد المستشارين السابقين لشؤون الأمن فانه قال في مقابلة اخرى: «هناك قدر كبير من مشاعر الخيبة بين شريحة السياسيين الروس، والكثير منها هو في الجانب الاقتصادي».

وقال المسؤولون الأميركيون ان الرسالة الروسية بدأت تصل اليهم عبر مناقشاتهم مع المسؤولين الروس حول العراق. وضمن هذا السياق قال أحد المسؤولين الكبار في الادارة الأميركية «انهم طرحوا هذه المسألة بشكل قوي من منطلق انه لا يمكن ان تكون العلاقة ذات اتجاه واحد من حيث العطاء. أنا لا اعتقد ان مخاوفهم مبررة كليا... لكنهم حاججوا في ان أي علاقة نامية يجب ان تكون متبادلة الفائدة، وحججهم ضمن هذا الميدان قوية جدا». من جانبه تحدث كولن باول وزير الخارجية الأميركي قبل يومين امام مجلس العمل التجاري الروسي ـ الأميركي، حيث أكد التزام الادارة الأميركية بتحرير روسيا من قانون «جاكسون ـ فانيك. وفي هذا الصدد قال باول: «نحن نسعى الى الوصول الى ذلك مع كل الطاقة والسلطة التي بحوزتنا، ونأمل أن يتحقق ذلك قريبا».

وروسيا هي عضو دائم في مجلس الأمن الدولي مع امتلاكها لحق النقض «الفيتو»، ولا بدّ ان بوتين سيلعب دورا رئيسيا في تقرير ان كانت الولايات المتحدة ستنجح في تحقيق اجماع لصالح قرار جديد ضد العراق. وقال المسؤولون الأميركيون انه مع توفر الدعم البريطاني للولايات المتحدة سيكون الوصول الى اتفاق مع روسيا هو الطريق لتحقيق هذا الهدف، لأن فرنسا ستوافق في هذه الحال اما الصين فستمتنع عن التصويت. وحتى الآن، سبّب رد فعل بوتين السلبي عرقلة المساعي الأميركية على الرغم من مكالمات بوش المتعددة مع بوتين ووفد العمل الأميركي الذي ارسل الى موسكو. فالرئيس الروسي يعارض بلغة حازمة مسودة القرار الأميركي المقدم لمجلس الأمن الدولي وابدى دعمه لعودة مفتشي الاسلحة الدوليين للعراق.

اما داخل روسيا فهناك مشاعر خيبة قوية من صداقة بوتين مع بوش اذ اصبح الكثير من الروس على قناعة من انهم لم يكسبوا أي شيء ذي اهمية من هذه العلاقة. وحسب ما قاله المحللون وأعضاء البرلمان الروسي ان بوتين ما زال حريصا على تجنب التصادم مع المتشددين الذين يقولون انه قدم تنازلات كثيرة جدا لادارة واشنطن الناكرة للجميل. وحث روغوزن من جانبه بوش على تقديم تنازلات لروسيا، اذ قال انه «امر مهم جدا في هذه اللحظة لتقديم الدعم للرئيس بوتين الذي يواجه مشكلة اثبات صحة موقفه السياسي».

ويأتي ظهور الشكوك الروسية في الولايات المتحدة بعد مضي عام تحقق خلاله تغيير متميز. فالرئيس الروسي كان أول زعيم عالمي يتصل ببوش لتعزيته بعد هجمات 11 سبتمبر. ولاحقا لم يسمح بوتين فقط للقوات الأميركية باستخدام القواعد الروسية في آسيا الوسطى بل أذعن لقرار الولايات المتحدة بالانسحاب من معاهدة «حظر انتشار الصواريخ البالستية» التي وُقعت سنة 1972 بين البلدين ثم ادخال ليثوانيا ولاتفيا وايستونيا التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي الى حلف شمال الاطلسي «الناتو». اضافة الى ذلك، اغلق بوتين القواعد الروسية في كوبا وفيتنام ووافق على نشر المستشارين العسكريين الأميركيين في جيورجيا التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي، كذلك وافق على معاهدة جديدة محدودة تتعلق بتخفيض عدد الاسلحة الاستراتيجية بدلا من تحقيق معاهدة شاملة مثلما كان الرئيس الروسي يريد.

مقابل كل ما قدمه بوتين يرى الروس انه لم يحصل الا على شيء ضئيل من المكاسب. فعلى الرغم من ان الادارة الأميركية منحت روسيا اعترافا رمزيا بكونها تنتمي الى اقتصاد السوق واعلنت في هذا الاسبوع عن موافقتها لاعطاء روسيا قرضا يساوي 300 مليون دولار لتطوير الصناعة فيها، فان بوتين ومساعديه كانوا يأملون بشيء أكبر بكثير من ذلك.

بالنسبة للروس يُعتبر بقاء قانون «جاكسون ـ فانيك» المعدَّل والصادر سنة 1974 واحدا من الامثلة على تراجع الأميركيين عن التزاماتهم. ووفق ذلك القانون المعدل لا يسمح للبلدان التي لا تسير وفق اقتصاد السوق من التمتع بالعلاقات التجارية الطبيعية مع الولايات المتحدة اذا لم تكن لها سياسة هجرة مفتوحة. ومنذ وقت طويل يلوح المسؤولون الأميركيون كل سنة لروسيا بأنها ستستثنى من هذا القانون بدون جدوى، في الوقت الذي تجاوزت فيه الصين حاجز هذا القانون، وهذا ما يثير حنق المسؤولين الروس بشكل مستمر.

في الوقت نفسه، ازعجت روسيا واشنطن حينما راحت تجدد اتصالاتها بالبلدان الحليفة لها في السابق، وهذه هي نفسها التي اطلق عليها بوش ببلدان «حلف الشر»، ومن ذلك اقتراحها على إيران تعاونا نوويا جديدا، والتفاوض مع العراق للوصول إلى اتفاقيات تبلغ قيمتها 40 مليار دولار ثم دعوة زعيم كوريا الشمالية لزيارة موسكو. من جانب آخر، طالب بعض الصقور الروس بعدم جعل هذه الملفات موضوعا للمساومة.

مع ذلك، يبدو ان بوتين يريد الحصول على اتفاق. فبعد ظهور التقارير حول عقد اتفاقيات تجارية مع العراق تصل قيمتها الى 40 مليار دولار، وُضعت جانبا مراسم التوقيع على هذه الاتفاقيات مع العراق. وفي الوقت الذي وصل فيه نائب وزير النفط العراقي إلى موسكو هذا الاسبوع للالتقاء بشركات الطاقة الروسية تجنب بوتين اجراء أي اتصالات مع بغداد لاحقا. وتجدر الاشارة الى ان الوفد العراقي المكوَّن من ستة أعضاء قام بعرض امام اكثر من مائة شخص من رجال الاعمال اضافة الى نواب برلمانيين ومسؤولين من وزارة الخارجية الروسية للفوائد الاقتصادية التي ستجنيها روسيا من تعاونها مع العراق.

واذا كان الكرملين لم يكشف بعد عن موقفه من مدى ضرورة اصدار مجلس الأمن الدولي لقرار جديد اكثر صرامة بخصوص التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل في العراق، فانه لا يبدو هناك أي حماس تجاه بقاء نظام صدام حسين، على الرغم من العلاقات الاقتصادية العميقة التي تجمع روسيا بالعراق. وهذا ما يجعل الزعماء الروس حريصين على عدم الاستجابة للطلب الأميركي بدون تقديم ضمانات أميركية قوية تحمي مصالح روسيا في العراق مستقبلا.

* خدمة «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»