ميزانية سلام فياض لـ 2003 إن طبقت ستحد من الفساد في السلطة الفلسطينية

TT

اقتحم رجل صغير الحجم يرتدي سترة رمادية اللون، حواجز الاصلاح الفلسطيني الموصدة وهو يلوح بحزمة اوراق تحمل ارقام الموازنة الفلسطينية الجديدة. قد يبدو عرض الموازنة السنوية على المجلس التشريعي الفلسطيني امرا عاديا، لكنه كان هذه المرة شيئا ثوريا. اولا لان مجرد تقديم موازنة لعام 2003 يعتبر امرا مهما. وثانيا لان تلك الموازنة قدمت بصورة تفصيلية وعلنية. وثالثا، وهذا الاهم، لان الموازنة اشتملت على توجهات يمكن في حالة تطبيقها ان تترك آثارا مسلكية ايجابية، ليس فقط على مستوى السلطة الفلسطينية، بل ستحد من الفساد المستشري فيها، فمثلا تنص الميزانية على بند حول صرف المرتبات للشرطة الفلسطينية مباشرة للافراد. وهذا يمكن ان يجرد كبار رجالات الامن من التحكم بالعاملين تحت قيادتهم، وسيؤدي في نفس الوقت الى اغلاق الثغرات التي يقول الدارسون للشأن الفلسطيني، انها تستخدم في تمويل المقاتلين الفلسطينيين.

ولم يكن ذاك الرجل الصغير ذو السترة الرمادية سوى سلام فياض، الذي استقبل الاميركيون والاسرائيليون تعيينه في منصبه هذا في يونيو (حزيران) الماضي، بالترحاب. وربما يكون هذا الترحاب مشكلة الوزير، فالفلسطينيون يعتقدون ان ادارة جورج بوش منحازة الى اسرائيل، كما ان 27 شهرا من الانتفاضة جعلتهم يشكون في كل فلسطيني يذعن للمطالب الاميركية او الاسرائيلية.

عندما ذكرت هذه المخاوف عن النفوذ الاجنبي امام فياض بعد تقديمه الموازنة، انفعل حتى سقطت منه حقيبته، وقال وهو يثقب الهواء بسبابته «هذه اموال عامة، انها اموال الشعب. نحن سندير هذه الاموال بصورة امينة. قل لي ان ذلك ليس نابعا من ارادة الشعب الفلسطيني، قل لي ان الشعب الفلسطيني لن يستفيد من ذلكش، وقال المشرعون الفلسطينيون، الذين عبر كثيرون منهم عن رفضهم للفساد في السلطة، انهم يتوقعون ان تجاز الموازنة خلال شهر، ويتوقعون ان تبدأ المعارك حينذاك من اجل تطبيق بنودها مع مسؤولين لهم مصالح قوية في بقاء الوضع الحالي.

وقال جمال الشوبكي، رئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس، انهم يخشون شيئين: ان يستسلم وزير المالية لمطالبهم او يضطر للاستقالة. وقال انهم يبحثون عن «طريق ثالث لا يقود الى الاستسلام او الاستقالة».

وعندما سمع فياض، 50 سنة، هذا التعليق ابتسم وقال: «انا اعرف طريقا ثالثا وهو انك عندما تضرب بقوة على حائط ما فانك تحدث فيه ثغرة تعبر منهاش.

وكان فياض، الذي قدم موازنته الى الرئيس ياسر عرفات، حريصا على التعبير عن ولائه له. ولكن لو طبقت اقتراحاته، فانها ستلغي علاقات الاعتماد والدعم والوصاية، التي ظل عرفات يستخدمها لسنوات لادارة السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح. لذلك يشكك مسؤولون فلسطينيون في امكانية تنفيذ بنودها.

قال رعنان غيسين، الناطق باسم رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون: «كل ما يحاول فياض تنفيذه من خطوات يعتبر سليما ونحن نقدر ذلك. ولكن ما دامت الاموال تصل في النهاية الى عرفات، فانه كمن يضغط على دواسة البنزين حتى النهاية مع عدم تحريك السيارة».

ويبدو ان عرفات وقع في ورطة حقيقية بسبب وزير ماليته، اذ انه اذا اضطر فياض الذي يتمتع بسمعة عالمية، للاستقالة، فان تلك ستكون لطمة قاسية لما تبقى من مصداقية السلطة خاصة في اوروبا التي قدمت لها اموالا طائلة. ومع ان عرفات اعلن تأييده للاصلاح، الا انه لم يتحدث عن الموازنة عندما خاطب مؤيديه اول من امس بمناسبة الذكرى الـ37 لانطلاقة فتح. وقال دبلوماسي غربي معلقا «ان فياض رمى بالقفاز امام اجهزة الامن. وهذا يضع السلطة في وضع بالغ الصعوبة بسبب مصداقية فياض على المستوى العالمي».

لم تصدر موازنة لعام 2002، كما ان الموازنات التي اعدت قبل ذلك لم تكن تكشف للجمهور. وبادر فياض بوضع موازنته البالغة 1.28 مليار دولار، على موقع بالانترنت. وقال ان موازنته افترضت ان الاقتصاد الفلسطيني سينكمش بمقدار 7% في العام المقبل، وان الناتج الاهلي الفلسطيني يصل الى اقل من ملياري دولار بقليل. واشار الوزير الى الاضرار التي الحقها الاحتلال الاسرائيلي المستمر بالاقتصاد الفلسطيني، ولكنه ركز اكثر على ما يمكن ان يفعله الشعب الفلسطيني ليتحكم في حياته المالية. وكان خطابه يتضمن كلمات مثل الشفافية والمراجعة والمصداقية.

ولد فياض وترعرع في مدينة طولكرم شمال الضفة الغربية، وعمل لعدة سنوات ممثلا لصندوق النقد الدولي لدى السلطة الفلسطينية، ويبدو انه ظل طوال هذه السنين يقلب الافكار حول ما يمكن ان يفعله لو انه تولى المسؤولية ذات يوم.

وقال انه ضمن اجراءات اصلاحية كثيرة سيعمل على ضبط تصرفات المسؤولين الفلسطينيين، للتتماشى مع القانون واخضاع مشترياتهم للاولويات. واشار تحديدا الى الهيئة المشرفة على مشتريات الامن، التي يطلق عليها الفلسطينيون الصخرة. وقال المسؤولون ان الصخرة معروفة بأنها توفر الامتيازات لمسؤولي الامن.

وصف فياض علاقة هذه الهيئة باجهزة الامن انها «خرق واضح للقانون، لم يكن صحيحا السماح به، ولن يسمح به بعد الآن».

وترمي الموازنة الى دعم كثير من الخطوات التي كان الوزير قد بدأ فعلا في تنفيذها، مثل انشاء وحدات مراجعة بكل الوزارات، ووضع كل المشاريع الاستثمارية المتفرقة حاليا في صندوق واحد تحت رقابة محكمة.

وعمل فياض الحائز درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة تكساس، باحثا بالبنك المركزي الاميركي بسانت لويس، كما عمل بمكتب صندوق النقد الدولي بواشنطن. ومع ان نفوذه الشعبي يعتبر محدودا الا انه اكتسب مصداقية راسخة في اغسطس (اب) الماضي عندما وجد نفسه محاصرا في مقر عرفات. واقتحم الاسرائيليون المقر بسرعة خاطفة، مما جعل فياض ينسى حقيبته وهاتفه الجوال في سيارة الاجرة التي وصل بها الى المقر وداستها دبابة اسرائيلية.

ورفض فياض الخروج بمفرده وظل محاصرا مع عرفات ومسؤولين اخرين، لمدة عشرة ايام في غرفة صغيرة، من دون تهوية. ولم يخرج الا بعد ان اجبر الضغط الاميركي الاسرائيليين على الانسحاب. وقال انه يذكر ان الاسرائيليين طلبوا من الجميع مغادرة المقر لانهم سيدمرونه. وقال انه قال لنفسه: «هذه إذن هي النهاية».

ولكن فياض، وعلى عكس ما تنشره الشائعات الفلسطينية، ليس مواطنا اميركيا. وقال وهو يمسك بسيجارته التي لا تنطفئ، انه يعرف ان البعض ينظرون اليه باعتباره «ذلك القادم من صندوق النقد الدولي. ولكنني اعرف من انا. ان شعبنا يستحق الاحترام، واذا كنت سأعبر عن احترامي له بما افعله، فما الذي ابغيه اكثر من ذلك».؟

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»