انهيار النظام العراقي.. رؤية من الداخل (2): «الشرق الأوسط» تنشر قصة الساعات الأخيرة لسقوط النظام العراقي بقلم أحد شهودها

الصحاف أراد «الحرب على عصابة الأوغاد الدوليين» اسما للمعركة لكن صدام سبقه بطرح «الحواسم» * وزير الإعلام السابق استقل سيارة تويوتا وغادر الوزارة عشية سقوط النظام واختفى

TT

لعل محمد سعيد الصحاف، وزير الاعلام العراقي السابق، كان الوزير الاهم في مجلس وزراء صدام حسين، كونه آخر من دافع عن نظام الرئيس السابق، وحرص على ان يكون الاكثر قدرة على ان يحقق فكرة اعلامية سياسية يروجها البعض ممن يقولون ان «انجح الاعلاميين هم الذين يحولون الهزائم الى انتصارات».

هكذا كان الصحاف مؤمنا بفكرة «الانتصار على الغزاة» او «عصابة الاوغاد الدوليين» كما كان يحلو له ان يردد مع سيل من النعوت التي طبعت خطابه السياسي والاعلامي طيلة الشهرين الاخيرين قبل بدء العمليات العسكرية وبعدها. فخلال اجتماعي معه برفقة عدد قليل من المراسلين العراقيين المسؤولين عن مكاتب الشبكات العربية في بغداد اطلق سلسلة من التهديدات والوعود بغلق تلك المكاتب وترحيلها من بغداد فورا «اذا استمرت بتغطيتها المتحيزة للأميركيين».

والصحاف كان شديد الاعجاب بمصطلحاته التي يعرضها على المراسلين ويحاول تكرارها مرات بل يحرص على ذلك، وكان حلمه ان يطلق على الحرب الاخيرة التي خاضها نظام حكم الرئيس صدام اسم «الحرب على عصابة الاوغاد الدوليين» لتلحق بالمصطلحات السابقة التي خاضها النظام مثل «قادسية صدام الثانية» عام 1980 ـ 1988 و«ام المعارك» 1991، لكن امله خاب حين سبقه الرئيس في تصدير مصطلح «الحواسم» من خلال البيان الرسمي الذي قرأه الصحاف بنفسه، لكن وزير الاعلام السابق ظل يكرر صفة العلوج التي اخذت تنافس كل المصطلحات التي ابتكرها واقترنت باسمه، واخذ الصحافيون والاعلاميون العرب والاجانب في بغداد يتندرون عليه بالقول اذا ما كان «صاحب العلوج» سيعقد مؤتمرا صحافيا هذا اليوم ام لا، وعن الساعة التي يعقد فيها المؤتمر في باحة المركز الصحافي الملحق بوزارة الاعلام العراقية.

ولقد تعدى تندر الاعلاميين، الذي بلغ عددهم ما يقارب 500 صحافي، الى الشارع العراقي الذي اخذ يطلق على الصحاف لقب «ابو العلوج»، حتى انه في الايام التي تخلى فيها عن لقاءاته في وزارة الاعلام اذ كان اخر المغادرين في الثامن من ابريل (نيسان)، رأيت احد اللصوص الذين كانوا يهمون بدخول مبنى الوزارة في اليوم التالي، مصادفة، يقول لصاحبه دعنا نبحث عن «علج وزارة الاعلام»، ويقصد الصحاف، حتى ان السيد الوزير كما كان يتحدث عنه مديرو وزارته الثمانية اصبح مصدر استياء، بل ازدراء، هؤلاء المدراء الذين كاد ان يقتلهم جميعا باصراره على البقاء، في مبنى وزراة الاعلام، حتى بعد قصفها وكانوا يواجهون رعبا يوميا وهو يحشرهم عنوة، ليكونوا معه، في الطابق السابع من بناية الاعلام، ذات الطوابق الـ 10 الى ان نجحوا في الايام الاخيرة من القصف، ان يقنعون بأن يترك مكتبه الفخم والكبير في ذلك الطابق، الى الطابق الارضي، مشترطا ان تكون غرف مكاتبهم ملاصقة له، وألا يغادروا مطلقا، لكنهم كانوا يتحججون باعذار شتى ليهربوا بجلودهم خشية ان تضرب الوزارة بصواريخ جديدة، بعد قصف مرسلاتها وقصف المركز الصحافي بعد مغادرة الصحافيين منه، تمردا، وتهديدهم للوزارة بمغادرة العراق اذا ما امر الصحاف بابقائهم فيها. وحين عرف الوزير ان شبكة «سي إن إن» كانت وراء حملة تحذير الصحافيين من مغبة البقاء في مبنى الاعلام، امر مدير اعلامه الخارجي عدي الطائي باستدعائهم وتعنيفهم وبمغادرتهم الفورية، ضاربا عرض الحائط كل التوصيات السابقة بضرورة تواصل تغطية «سي إن إن» من بغداد لاسباب عديدة اهمها انها الشبكة الاميركية الاهم، في تغطيات الحروب السابقة.

كان الصحاف يعتقد بأن بقاء الصحافيين والشبكات الاميركية تحديدا في المركز الصحافي في مقر الوزارة، سيوفر دروعا بشرية تحول دون ضربها، الى ان اضطر اخيرا، بعد ان حزم الصحافيون امتعتهم في اليومين الاخرين قبل دخول الاميركيين بغداد ليرحلوا، الى الموافقة على المغادرة الى مكان آخر، هو فندق فلسطين بجانب منطقة الرصافة والمطل على نهر دجلة قبالة القصر الجمهوري. كان اشد ما يخشاه وزير الاعلام ان يصور الصحافيون الغارات التي تستهدف مكاتب القصر، وكان يحاول ان تكون الاهداف في منأى عن اعين الصحافيين، فالحرب كانت حرب اخفاء الكاميرات، ونصبها في الطوابق العليا، وكان هذا مصدر قلق للوزير ومديري وزارته الذي يسمعون كل يوم تعنيف الصحاف لهم وشتمهم وتهديدهم، اذا لم يوقفوا التصوير للمناطق السيادية التي اخذت تحترق امام اعين الناس الواحدة تلو الاخرى، حتى انه تولى هذه المهمة بنفسه حين حمل بندقيته واصطحب مرافقيه، وداهم مكتبي قناتي «الجزيرة» و«ابوظبي» اللذين يتخذان مبنيين على نهر دجلة وخارج المركز الصحافي وكال السباب والشتائم لمراسليها، وامر بنقلهم الى مقر الوزارة ليحول دون حصولهم على صور القصر، لكنهم عادوا بعد ذلك.

وظاهرة الصحاف التي طبعت آخر صورة نمطية في مدركات المتلقى العربي والاجنبي عن النظام في العراق لم تأت من فراغ بل من جيل ارتبط بزعيم النظام الذي اعتمد على عناصر معينة استلها من عناصر الحزب ودربها جيدا لتدين له بالولاء المطلق.. وهم مجموعة تكاد تكون صغيرة بالقياس الى قاعدة الحزب الواسعة في العراق التي تمتد لخمسين عاما، هؤلاء اغدق عليهم الرئيس جيدا ومنحهم امتيازات لم تمنح لأي عراقي. وبالرغم من كراهية اقران الصحاف له، فانه كان يحظى باهتمام الرئيس ورعايته منذ تسلمه مهام مديرية الاذاعة والتلفزيون مطلع السبعينات، وصولاته وجولاته فيها وتطهير تلك المؤسسة الاقدم عربيا، حيث تأسست عام 1955 ـ من العناصر الشيوعية، التي كانت الاغلب فيها، في ذلك الوقت وكانت مهمة الصحاف (البلدوزر) الذي اوكلت له مهمة كنس تلك المؤسسة من العناصر غير البعثية، وصعد نجمه حينها من بين الحزبين القلائل آنذاك، حين دخل تلك المؤسسة وهو برتبة ملازم اول، وظل فيها حتى معاقبته وارساله سفيرا للعراق في روما.

وفي روما قام الصحاف بشراء مقر للسفارة العراقية بمكان مميز هو بيت كان يقطنه موسوليني حسب مصادر الخارجية العراقية، ليظل الصحاف فيه فترة طويلة وكان من انجح السفراء العراقيين، في تقييم القيادة العراقية، وساعدته في ذلك مسألتان، الاولى الحرب العراقية ـ الايرانية والدعم الذي كانت تتلقاه السفارات العراقية عربيا ودوليا من جهة والدعم والميزانية المرسلة لها، من جهة اخرى. وحقق الصحاف نجاحا واسعا ساعده في ذلك اتزانه كدبلوماسي وحذره الشديد، لادراكه انه ليس من مدينة الرئيس او من عشيرته، بل كان شيعيا من مدينة الحلة التي تبعد مائة كيلومتر جنوب بغداد، وكان انضباطه العالي وتنفيذه للأوامر بطاعة مطلقة واطلاعه ونهمه على القراءة جعله من المميزين في تقديم تصورات خلال الاجتماعات، وهذا ما اكده لي عضو القيادة عبد الباقي السعدون الذي قال انه الاكثر تحدثا امام الرئيس في تقديم وجهات نظر الغرب في شتى الموضوعات، وكان يغني اجتماعات الرئيس مع مجلس الوزراء بالافكار التي يبدو انه قد حضر لها، والمعروف عن الصحاف ان اصدقاءه قلة وانه كان من «المدمنين» على الكومبيوتر والانترنت في ما بعد ليغني معلوماته ويديمها باستمرار، بل هو اكثر موظف في الدولة العراقية دواما في دوائره التي شغل مناصب فيها، لذلك بدا حاضرا باستمرار لتنفيذ اوامر الرئيس.

لكنه رغم كل هذه الخصال في شخصيته فان الصحاف كان عنيفا متطرفا ومتزمتا في آرائه، ولقد وصل في احدى المرات في مجادلة مع الامين العام السابق للجامعة، عصمت عبد المجيد، في عمان حدا تسبب في ما بعد بحملة صحافية شنها عليه عدي نجل الرئيس الاكبر في جريدة «بابل» ادت الى اقصائه من حقيبة الخارجية الى الاعلام، التي جاء اليها على مضض لانه يدرك ان وزارة الخارجية اهم بكثير اعتباريا وسياسيا وارضاء لطموحاته الشخصية.

جاء الصحاف الى الاعلام وهو يحمل مرارة في داخله كونه معاقبا، وتسلم شؤون الوزارة من سلفه الدكتور همام عبد الخالق، الذي اعيد لحقيبة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وهو غير مصدق انه تولى وزارة الاعلام بدون رغبة منه، فهذه الحقيبة لا تناسبه مطلقا لكونه باحثا علميا رصينا تولى مسؤولية نائب رئيس منظمة الطاقة الذرية لعقدين من الزمن، ومرتبطا كليا برئيسها الرئيس صدام. وحين غادر الدكتور همام وجاء الصحاف، كان اول همومه ان يبني صرحا موازيا لما كان عليه في الخارجية لكنه ما لبث ان صُدم، اذ بعد 20 عاما من مغادرة الاعلام وشؤونه اكتشف انه وضع في مؤسسة مدمرة تماما، يعاني كادرها من بطالة مقنعة على حد وصفه، وامكانات محدودة، وصل موظفوها حد اليأس تحت اعباء الحصار، ومحدودية الرواتب، لكنه ادرك في الوقت نفسه انها فرصته الاخيرة، في شغل منصب رفيع، فشرع باجراء لقاءات متواصلة، وقام بزيارات متكررة للمؤسسة الصحافية، وقدم مقترحا بفصل الاعلام عن الثقافة ونجح في ان يجد استجابة من الرئيس، ليصدر مرسوما بفصلهما وتولي حامد يوسف حمادي وزارة الثقافة، وأصر على ان يتولى المسؤوليات المباشرة لمديريات الوزارة في سابقة لم تعهدها الدولة العراقية، اذ كان يمارس مسؤولية ادارة الاذاعة والتلفزيون والفضائية العراقية مباشرة ولا يثق بأن يسلمها لأحد لأنه يُعلق باستمرار ان التلفزيون هو الاعلام واخطاءه قاتلة لأي مسؤول على الاعلام.

لقد شرع الصحاف ببناء المؤسسة الاعلامية من جديد، لكنه ظل مؤرقا لا ينام بسبب وجود الصحافيين الاجانب والعرب في بغداد، والفضائيات العربية على وجه التحديد، وكانت حصتي من شتائمه كبيرة للمؤسسة التي اعمل فيها ومقرها دبي، فمرة وانا في احد الواجبات الصحافية وكان القصف على اشده طلبني مدير مكتبه، وقال لي: السيد الوزير معك. واذ بي اتفاجأ بسلسلة طويلة عريضة من الشتائم على موضوع اجهله، وهو نشر الفضائية التي اعمل بها صورة لشبيه صدام حسين، ومع انني لم اكن اعلم عمّ كان يتحدث، فانه طلب ايقاف البرنامج فورا وإلا فسيغلق مكتبنا الصحافي، ويرمي بنا خارج الحدود على حد قوله.

كان الصحاف ينفعل ويبدو عنيفا عندما يشعر ان هذا الموضوع او ذاك قد يشاهده الرئيس وكان لا يتردد في اتخاذ اجراء سريع، ولقد اوقفنا مرات عن العمل وامر بتكسير «اللوغو» الخاص بالشبكة. ولقد بلغ عدد المطرودين والموقوفين من الصحافيين خمسين من مؤسسات اعلامية عربية ودولية. ولقد وجد الصحاف نفسه في آخر الامر انه الوحيد الذي يتحدث عن الدولة العراقية، بعد ان سكتت الرئاسة وضرب التلفزيون والاذاعة، واوقفت الفضائية، وغادر الوزراء وانزووا في مكاتبهم يجمعون ما خف حمله وغلى ثمنه. وظل الصحاف الناطق باسم الدولة، التي ينفي دستوريا ان يكون ناطقها وزير الخارجية ناجي صبري الحديث. لكن الصحاف ظل الصوت الاخير في الصورة العراقية ونظامها الذي اخذ ينهار شيئا فشيئا، حتى ان الامور وصلت الى ان افراد مكتبه تركوه، وفروا هم وافراد حمايته.

جاء الصحاف في 8 ابريل (نيسان) بسيارة تويوتا مزدوجة المقاعد مع سائق لوحده ظل معه، وصرح امام الصحافيين المنتشرين في فندق فلسطين بان «قواتنا تطبق عليهم، وتحاصرهم في دباباتهم». رغم انه كان قد مرّ، قبل قليل اثناء مجيئه، على الدبابتين الاميركيتين الرابضتين على جسر الجمهورية قبالة نصب الحرية في الضفة الاخرى. تلك كانت نهاية الصحاف وطي آخر صفحة من عمله المتقن سابقا والفاقد لأية مصداقية في ذلك اليوم حين كانت شبكات الانباء وعبر «الفيديوفون» تقدم للعالم صور احتلال وتدفق الدبابات داخل القصر الجمهوري وملاحقتها لقوات الحرس الجمهوري ودخولها ساحة الاحتفالات الكبرى المخصصة لاستعراضات الرئيس، وتحت قبضته الماسكة لسيفين متقاطعين، وتسير الدبابات في ساحة بغداد في حي القادسية وقبالة قصر السجود. رفض الصحاف ان يرى كل تلك الصور التي تعرض على العالم.. ولم يدرك ان عالم القرية الصغيرة تحول الى عالم الشاشة، التي تقدم الحقائق النهائية. في آخر اللقاءات قلت له: «نريد صورا عن القتال في بغداد وعن الاسرى والذين تتحدث عنهم». بدا وكأني اطلقت النار عليه فثارت ثائرته وأخذ يشتمني على مرأى ومسمع الجميع فقد ظن انني اسخر من خطابه وحديثه، ولولا تدخل الزملاء الذين حالوا بيننا لأطلق النار علي وهو تحت وطأة اشد انفعالاته.

بعد ذلك، اي بعد آخر لقاء، صعد الصحاف الى سيارته التويوتا وغادر مسرعا، مخلفا حيرة وتاريخا من التصريحات والتصورات، التي كان اطلقها والتي بدا خلالها مؤمنا بكل ما كان يقوله. لقد اعطى الصحاف معلومات عسكرية غير دقيقة ولهذا فانه كان يبدو مقتنعا بكل ما كان يقوله. فعندما تكشفت الحقائق توارى فورا عن الانظار واسدل الستار، حتى وصفه الكثيرون بأنه اطرف وزير اعلام بعد غوبلز (وزير اعلام ادولف هتلر). واحتل الصحاف مواقع عدة في الانترنت عله يشاهدها الآن، ولا ادري ماذا يُعلق عليها؟

* النائب السابق لرئيس نقابة الصحافيين العراقيين