أهالي البصرة يهدمون تماثيل الجنود العراقيين الذين قتلوا خلال الحرب مع إيران

TT

بعد أسابيع من النهب الذي أعقب دخول الجيش البريطاني إلى مدينة البصرة التي تعد ثاني أكبر مدينة عراقية لم يبق شيء من فندق شيراتون المسروق أو متحف التاريخ الطبيعي المحروق في الوقت الذي احتل المتطفلون قصور أقرباء صدام. لكن الشيء الوحيد الذي لم يتعرض للأذى عشرات التماثيل التي تمثل الجنود العراقيين الذين قُتلوا أثناء الحرب العراقية الايرانية.

وتماثيل الجنود المعدنية التي هي أضخم من الحجم الطبيعي لجسم الإنسان تقف على قواعد رخامية وتمتد على شط العرب المحاذي لايران. مع ذلك فهذه التماثيل سقطت في الأسبوع الماضي. وقال مدرس الفيزياء محمد خليل الباوي، 32 سنة مبررا ذلك: «نحن نهدم هذه النصب لأننا لا نريد أن نربي أطفالنا على كراهية ايران نحن لدينا الكثير من الأصدقاء والأقارب في إيران. إيران ليست عدونا».

وكان التردد الأولي في مس التماثيل ثم تحطيمها في الأخير هو تجسيد رمزي للعلاقة المعقدة والمتبدلة بين العراقيين في جنوب البلاد والذي كان الخطوط الأمامية للحرب التي استمرت بين سنتي 1980 و1988 مع ايران.

وفي مقابلات أجريت مع الناس المقميين في المناطق القريبة من الحدود مع إيران كان واضحا كيف بدأت المشاعر الوطنية تتقارب على الرغم من بقاء الاختلافات الإثنية ومشاعر عدم الثقة بين هذه الأطراف. قال مصطفى فالح، 50 سنة، والذي فقد سبعة أفراد من عائلته في تلك الحرب: «كل عائلة لديها أفراد قُتلوا في تلك الحرب». ويعمل فالح صياد سمك على شط العرب وكان شاهدا على التحولات التي طرأت على العلاقات بين البلدين: «عليك أن تتذكر أن هناك عربا وفُرسا يعيشون في ايران». وأضاف أن العرب كانت لديهم على طول الحدود علاقات ودية مع الناس في إيران، وكان بإمكانهم العبور إلى إيران والعودة منها بسهولة حتى وقوع الثورة الإسلامية سنة .1979 وقال فالح: «كان صدام خائفا من الثورة والايرانيون خائفين من صدام».

أما المؤرخ حميد أحمد حمدان من جامعة البصرة فقال انه لم يكن هناك سوى عدد قليل من السيدات اللواتي يغطين وجوههن بالحجاب داخل البصرة في سنة 1979 «لكن بعد سنوات قليلة على الحرب أصبح عدد كبير من النساء يضعن الحجاب». وأضاف حمدان أن «أي شخص له أي علاقة بايران كان يوضع في السجن». لكن اجراءات صدام حسين المشددة لم تؤد الا الى دفع الناس للتمرد وهذا غالبا ما يأخذ شكلا دينيا.

ويندر أن ترى في جنوب العراق اليوم امرأة لا ترتدي الحجاب الكامل المتمثل في الشادور الأسود. وربما لا يستغرب المرء هذه الدرجة من الحماسة التي يمارس بها الشيعة مراسيم دينهم بعد القمع الطويل. ولكن كثيرين من هؤلاء الناس أنفسهم الذين يحرصون على أن يحترم دينهم من قبل الآخرين، يصرون على أن دولة دينية على المثال الايراني لن تكون ملائمة للعراق. وقد السيد السباوي نفسه الذي يدعو إلى التصالح مع ايران: «نحن لدينا عدد هائل من المجموعات الاثنية والدينية بحيث لا يمكن أن يكون لنا زعيم ديني واحد».

كما تسود هنا نزعة وطنية متطرفة ترفض أي أجنبي سواء كان ايرانيا أو اميركيا. قال سنان عبد الصاحب: «على العراقيين أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم».

ولكن نوايا العراقيين العائدين من إيران بعد سنوات من الاقامة هناك، تصعب قراءتها. اذ قال حسن الحسيني، المتحدث باسم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بالعراق: «طموحنا هو إقامة دولة إسلامية».

والمجلس الأعلى للثورة الاسلامية بالعراق منظمة شيعية مرتبطة بمحمد باقر الحكيم، الذي يعيش بالمنفى بايران لأكثر من عقدين. وقد جنحت المجموعة إلى اتخاذ خط أكثر مهادنة واعتدالا في الفترة الأخيرة. ولكن الحسيني عبر عن رأي يثير كثيرا من القلق لدى إدارة بوش. وقد قال الحسيني:

«بعد أن جرب الناس أشكالا كثيرة للحكم لم توفر لهم حقوقهم بل سرقت أموالهم وممتلكاتهم، فانهم أصبحوا الآن مستعدين للحكم الاسلامي».

يخطط الحكيم للعودة إلى العراق في وقت قريب، كما قال الحسيني، ولكن كثيرا من قادة المنفى الآخرين عادوا بالفعل. وكان كثيرون ممن لم يكونوا راغبين في المشاركة في الحرب العراقية الايرانية، من العراقيين، قد هربوا إلى ايران خوفا من بطش صدام حسين. وقال عبد الصاحب انه كان يهرب الناس من العراق مقابل 200 دولار للفرد الواحد. وقال وهو يقود سيارته عبر الشارع الممتد:

«هذا شارع جيد» لم تكن هناك حواجز تفتيش لعدة أميال كما لم تكن هناك اية مظاهر حياة، وهو يسرع مخترقا ما كان يعرف بالأهوار الجنوبية إلى الشرق من مدينة العمارة. واستمر معلقا: «تستطيع أن تتحرك بلا عوائق، وإذا كنا قد رتبنا هذا الأمر فربما استطعنا أن نذهب حتى الحدود حيث يقابلنا شخص على الجانب الآخر».

وكانت الحدود تلوح من بعيد كخط من أشجار النخيل، ولكن عبد الصاحب توقف عند مجموعة من الأكواخ.

وكان صدام منزعجا من أعمال التسلل عبر هذه الحدود للدرجة التي حملته على تجفيف مياه الأهوار. ولكن عبد الصاحب قال إن الحركة عبر الحدود استمرت مع كل ذلك، إما في الشمال بالقرب من مدينة السماوة أو من خلال معابر مجهولة على الحدود، مثل هذا المعبر، وإلى الجنوب منه حيث تقوم المراكب بحمل الناس عبر النهر.

وقال المسؤولون الأميركيون انهم يبذلون جهودا مكثفة لمنع العملاء الإيرانيين من التسلل إلى داخل العراق. ولكن كان واضحا بالنسبة لي لماذا فشل صدام في منع الناس من التسلل عبر نقاط حدودية مثل هذه. وقد برهن شوقي جعفر، 24 سنة، سهولة عبور الحدود برهانا عمليا. كانت مياه النهر عالية وشديدة الارتفاع بفعل المياه المتدفقة من الجبال الايرانية. وتمثل أعشاب النهر بغزارتها وعلوها غطاء مثاليا للعابرين من هنا وهناك وللمهربين. وقال جعفر انه لاحظ تغيرا في الموقف من جانب الايرانيين تجاه جيرانهم: «منذ سقوط صدام اصبح الايرانيون أكثر لطفاً وأميل للصداقة».

*خدمة «نيويورك تايمز»، خاص بـ«الشرق الأوسط»