قاعة هدايا صدام تصبح نواة لمتحف عراقي جديد

TT

اراد كنعان مكية يوم السبت الماضي ان يصل الى منطقة النصب التذكارية التي تنتصب كشواهد خرساء على حكم البعث العراقي الذي طال حتى بلغ 34 عاما. كان عليه ان يقود سيارته في شارع تتخلله حواجز ارضية لخفض السرعة مصنوعة من الخرسانة ومعززة بقبعات الجنود الايرانيين القتلى.

مكية كاتب ومهندس معماري، وكان واحدا من ابرز معارضي صدام حسين وخاصة في كتابه «جمهورية الخوف» الذي صدر عام .1989 اما كتابه «النصب» الذي صدر عام 1991 فيتحدث فيه عن هذا النصب المشين الذي يسمى «قوس النصر» والذي يرمز له سيفان متقاطعان. ومع انه كتب عنه قبل عشر سنوات، عندما كان سرا من اسرار الدولة، فانه لم يزره من قبل.

كان يعرف من البحث الذي اجراه في اعداد كتابه، ان آلاف القبعات المثقوبة بالرصاص والمجموعة في قاعدة النصب كانت تخص الجنود الايرانيين الذين قتل منهم حوالي المليون في الحرب العراقية ـ الايرانية التي بدأها صدام حسين عام 1980 بعد ان صار رئيسا عام .1979 لكن مكية قال انه لم يكن يعرف ان صدام استخدم قبعات الجنود الايرانيين الموتى لابطاء حركة السيارات داخل المجمع، كما لم يكن يعرف ان مئات من هذه القبعات مخزونة في حاويات خلف النصب للتعويض عما يتمزق منها في الحواجز او في قاعدة النصب. وقال ان السيفين المتقاطعين الذين يبلغ ارتفاعهما 50 قدما فوق ساحة العرض، صنعا من الحديد الصلب المذاب من الاسلحة العراقية. اما اليدان اللتان تحملان السيفين فقد صبتا على صورة يدي صدام وكونتا حرف H الانجليزي رمزا لاسمه.

بطاقات الدعوات التي وجهت الى كبار الشخصيات لحضور افتتاح هذه الاضافة لساحة العرض في الثمانينات شملت تصميما بدائيا للقوس نفذه صدام بنفسه. وقد كلف بناؤه 250 مليون دولار. ويقول مكية عنه: «يقف هذا القوس اليوم شاهدا على الابتذال الذي تعرضت له الثقافة العراقية».

يقوم بحراسة القوس حاليا جنود اميركيون من فريق المهام الخاصة 164 من الفرقة الثالثة للمشاة، وكانت تلك اول قوة اميركية تصل الى بغداد. ولكن هذه القوة وصلت متأخرة جدا بحيث لم تتمكن من حماية «متحف الرئيس للرئيس» من غضب شعبه. الخناجر والبنادق الثمينة التي قيل انها هدايا من الشعب الوفي الى قائده المحبوب، سرقت جميعها بعد ان اخرجت من اغمادها وافرغت من حاوياتها. وقد اخذ اللصوص كذلك كثيرا من المقتنيات الثمينة الاخرى. لكن ما بقي كان كافيا لاثارة عجب مكية واصدقائه الذين حصلوا على اذن بدخول هذه المنطقة التي كانت محظورة.

«جناح هدايا المواطنين»، كما قال عنه مكية، صار يشبه سوقا قديمة للسلع الرخيصة بعد ان تلاشى مجده خلال ايام. وهو مليء بمزيج غريب من الاشياء التي تتراوح بين الندرة والابتذال. هناك لعب بلاستيكية وبجعات من السيراميك وحيوانات محشوة، وجنود يخوضون معارك عربية قديمة، وساعات حائط تعمل بالبطاريات وتحمل رموزا بابلية قديمة. وهناك مئات من أواني الشاي والقهوة العربية. فضلا عن مجموعات من الخناجر والرماح الثلاثية الشعب، والسجاجيد المصنوعة يدويا، وسروج الجمال والخيل، وتمثال صنع من فوارغ الرصاص. وهناك بالطبع لوحات لا تحصى للقائد نفسه في ازياء مختلفة وأوضاع متباينة.

بين كتل الحطام كانت ترقد شهادة من منظمة اليونيسكو «بمناسبة اليوم العالمي لمحو الامية عام 2000» تعطي العراق جائزة الملك سيجونغ لذلك العام لانجازاته في مجال «تعليم الجانحين». وقد وقع على الشهادة مدير المنظمة كويشيرو ماتسورا.

على عكس ما حدث لمتحف الرئيس واغلب المواقع الرسمية في كل انحاء البلاد، فان القاعة القريبة من تمثال الجندي المجهول لم تتعرض للنهب. ما تزال حيطانها المرمرية وارضيتها التي يحرسها الجنود الاميركيون وتحيط بها الاسلاك الشائكة، سليمة وباردة، بعيدة عن اشعة الشمس الحارقة. وبينما كانت المجموعة تتجول متابعة الحائط الدائري ومتأملة السقف الذي يمثل درعا مائلا ويشبه صحنا طائرا، على ضوء البطاريات اليدوية، بدأت معالم القاعة الكبرى في الظهور تدريجيا. في قلب هذه القاعة كان هناك ما يشبه مؤخرة الصاروخ ترتفع منها سيوف تخترق سقف القاعة متجهة الى اعلى، كناية عن ارواح الجنود وهي تصعد الى السماء. هذه القاعدة التي يضيئها مصباح من السقف تحيط بها صناديق للعرض مليئة بمجموعات قيمة من الاسلحة القديمة، مثل المسدسات المزينة بالعاج والبنادق التي جمعت حسب الفترات الزمنية لصناعتها.

كثير من هذه الصناديق تمثل الجنود الذين سقطوا في المعارك، وقد ثبتت بدلاتهم العسكرية النظيفة والخالية، على لوحة مغطاة بالزجاج، ولسبب غير معروف كانت جوارب الجنود المعروضة متسخة بصورة غير عادية. وعلى الجانب الآخر من اللوحة عرضت قبعة قيل انها كانت تخص طيارا اسرائيليا اسقطه العراق.

حيطان القاعة تغطيها مجموعات من الهدايا من الدول الصديقة: من الاتحاد السوفياتي السابق، وبلغاريا، ورومانيا، والمانيا الشرقية السابقة وفرنسا. وهناك هدايا من دول عربية مثل مصر والعربية السعودية واليمن والبحرين والامارات العربية المتحدة وغيرها.

وقال مكية ان اهم اكتشاف هنا هو سجل للزوار لعام 2003 عليه توقيعات من افراد ومن وفود. ففي يناير (كانون الثاني) الماضي سجلت مجموعة من مديرات المدارس تعازيهن لشهداء الحروب العراقية. كما وقع ممثلو وفد ياباني رسمي على السجل في شهر فبراير (شباط) اي قبل اسابيع فقط من الغزو الاميركي.

احد اعضاء مجموعة «الدروع البشرية» وقع نداء من اجل السلام بعدة لغات وذلك قبل ايام فقط من اشتعال الحرب. ويوم 30 ابريل (نيسان) تم تسجيل توقيعين من الجنود الذين يحرسون القاعة. كتب الجندي كريس ميلوس تأملات حول زيارته الى القاعة ملأت صفحة كاملة. وتضرع الى الله «ان يحقق الحرية وينير الطريق لشعب العراق». وعبر عن احترامه وتقديره للجنود العراقيين «الذين جادوا بأرواحهم». وقال عن نفسه انه «مواطن وجندي اميركي فخور بوطنه». وقال انه يأمل «الا يرى اطفالنا ما رأيته، فقد فقدت براءتي».

قال مكية الذي ملكت عليه حواسه هذه العبارات، والذي ادهشته الفخامة المكلفة لهذا المجمع، ان المكان يصلح لاقامة المركز الذي يفكر في اقامته لتوثيق معاناة الشعب العراقي تحت حكم صدام حسين.

عاش مكية فترة طويلة من حياته في الولايات المتحدة، ويعود حاليا ليحول حلمه في اقامة مثل هذا المركز الى واقع ملموس. وهو يفكر في انشاء مكتب للبحوث، يتمكن الناس من خلاله ان يتوصلوا الى مصائر احبائهم واقربائهم واصدقائهم الذين اختفوا في عهد صدام. كما يفكر في انشاء مكتبة صوتية للحكايات والتواريخ المحكية والشفاهية. وتراوده كذلك فكرة توثيق افظع لحظات صدام اثناء فترة حكمه حتى يتمكن العراقيون الشباب من الاطلاع عليها واخذ الحكمة منها. وقال مكية: «هذه النصب يجب المحافظة عليها. هذه اسلحة الدمار الثقافي الشامل».

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»