انهم في هزال الأشباح وخفة الأطياف، هؤلاء الرجال الذين ظلوا في السجن منذ بداية الحرب العراقية الإيرانية (1980 ـ 1988) اضمحلوا وانكمشوا من وقع الهراوات والسياط وزحف السنين القاسية. وعندما وصلوا إلى بغداد الاثنين الماضي، واستقبلوا دون ضجيج، قالوا انهم لا يصدقون عيونهم: دبابات أميركية في الشوارع! صدام ازيح عن السلطة! وكانت هذه هي الدفعة الأخيرة من السجناء العراقيين، التي تتألف من 59 سجينا من جملة 60 ألف عراقي وقعوا في الاسر، ظلوا مسجونين لأكثر من عقدين دون أي اتصال بالعالم الخارجي. تساءل أحدهم وهو يكاد لا يصدق: «هل ذهب صدام حقا؟» كان يرتدي سترة رياضية خضراء، معلقة على كتفيه الهزيلين، وكانت تلك هدية الوداع من سجانيه الإيرانيين. ولم يكن قادرا على الوقوف بثبات، وقد اعتذر عن ذلك قائلا: «معذرة، أنا أشكو من ضرر نفسي لحق بعقلي».
كان نعمة كريم حسن، ضابط شرطة قبل أن يرسل إلى الجبهة. وقال إنه أسر بالقرب من مدينة عبادان التي يسميها «المحمرة» يوم 24 مايو (أيار) 1982. وخلال فترة أسره تنقل بين سبعة معسكرات لأسرى الحرب. على طول فكيه تنتشر جذوع رمادية كانت أسنانا في يوم ما. وكان لا يستطيع ان يرفع قدميه ويتمايل في حركته برغم انه ما يزال في التاسعة والثلاثين. وقال إن معدته لا تستطيع الاحتفاظ بالطعام. وهو يرتجف بعنف لدرجة أنه لا يستطيع أن يشعل سيجارة إلا بمساعدة بعض رفاقه. قال انه كان يعذب بصورة روتينية، وإنه كان يجبر على الإقعاء والجلوس لمدة ساعات طويلة، وكان يضرب بالأسلاك المعدنية وبالحبال كما كان يصعق بكهرباء بطاريات السيارات. وقال انه يعتقد أنه حقن في ذكره بماء قذر مهين.
وقال سجين آخر: «نحن عدنا من القبور».
وجلس هذا الرجل الذي كان جنديا في سلاح المشاة، مرتخي الفك فارغ العينين، في بهو فندق أم القرى بوسط بغداد، حيث قضى السجناء ليلتهم الأولى في الحرية. وعندما سئل الجندي عن اسمه قال: «ليس هناك أمان». ونظر حوله في كل أرجاء الغرفة وقال «أنا عراقي وفي». وعندما قيل له ان صدام حسين لم يعد حاكما للعراق قال: «لا أصدق هذا الكلام».
لا توجد إحصائية رسمية عن عدد ضحايا الحرب العراقية الإيرانية. وتقول تقديرات منظمات حقوق الإنسان والحكومة الأميركية ان مليون شخص قد قتلوا، ومن ضمنهم 300 الف جندي إيراني و375 ألف جندي عراقي.
وكان حسن قد ارسل إلى الجبهة بوعد من رؤسائه بأن دورته لن تتعدى ثلاثة أشهر. وقال يصف مؤونته اليومية: «أربع ملاعق من الأرز، ونصف كوب من الماء. وقطعة خبز».
وقال انه شاهد مئات السجناء وهم يموتون أمام عينيه من أمراض مثل الدسنتاريا والسل ومن النوبات القلبية. وقال إن واحدا من المعسكرات كان من قبل اسطبلا للماشية.
وتابع سجين آخر لم يعط اكثر من اسمه الأول، هادي: «لا أستطيع أن اصف ما رأته عيناي» وقال انه ظل سجينا لمدة 15 سنة. «إنني أشعر بالعار عندما أتحدث عن هذه الأشياء».
كان هؤلاء الجنود يريدون أن يعرفوا كيف يتحصلون على أجورهم للفترة التي قضوها في السجن. وتساءل آخر عما إذا كانت الحكومة ما تزال تمنح الأرض والأموال والسيارات للسجناء الذين يطلق سراحهم، كما كان يفعل صدام في الأيام الأولى للحرب العراقية الإيرانية؟
وقال أحد رفاقه: «لقد فقدنا حياتنا».
وبعد قليل تناول الرجال أكياسهم البلاستيكية وتحركوا نحو سيارة للصليب الأحمر ستحملهم إلى حيث كانوا يعيشون في يوم من الأيام. وقال الرجال انهم قبل عدة سنوات تيقنوا أن نساءهم وأسرهم قد تخلت عنهم وتخيلت أنهم ماتوا. ولم يذكر واحد من الرجال أنه تحدث مع أحبائه أو تبادل معهم الخطابات. وعلق واحد من الرجال: «يعتقدون أننا اختفينا من على وجه الأرض».
صرفت للرجال ملابس داخلية جديدة وصندوق من الاطعمة والأدوات الصحية، و200 دولار نقدا لكل منهم من قبل الصليب الأحمر الذي نقلهم جوا من طهران إلى بغداد. وجلس أحدهم على أريكة ببهو الفندق وهو يحتضن حفيدا لم يره من قبل وينخرط في البكاء.
وفي أثناء أسرهم كان الرجال يسمعون الإشاعات ويسترقون السمع إلى نشرات الأخبار من راديوهات سجانيهم. سمعوا بغزو الكويت وحرب الخليج عام 1991. ثم تقارير عن معركة خاضها الأميركيون ضد العراق هذا العام. ولم يكونوا متأكدين من الذي انتصر، ولكنهم يذكرون أن أميركا كانت تقف معهم في حربهم ضد إيران.
* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»