شهود عيان بينهم حارس شخصي سابق لأسرة صدام حسين يؤكدون أنه ونجليه نجوا من غارة 7 أبريل في حي المنصور

TT

بعد حوالي ساعة من قصف القوات الأميركية لحي المنصور في 7 أبريل (نيسان)، قاصدة قتل صدام حسين وابنيه، كان علي كاشف الغطاء يراقب الموقف من أحد الأركان عندما ظهرت سيارة بيجو بيضاء مسرعة. كان داخل السيارة قصي، النجل الاصغر لصدام وهو يحمل رشاشا بين رجليه. قال كاشف الغطاء وهو طبيب أسنان يسكن في حي المنصور: «كان قصي بالمقعد الأمامي جوار السائق وهو يضع رشاشا بين رجليه». كانت فرقة المشاة الثالثة الاميركية قد دخلت بغداد قبل ذلك بساعات. وبعد وقت قصير كانت معركة بغداد قد حسمت، لكن السر الذي يحيط بصدام وابنيه سيظل باقيا.

اعترفت الحكومة الأميركية بأنها قصفت حي المنصور بعد تلقيها معلومات استخبارية بأن صدام سيلتقي قصي وعدي فيه. وقال الميجور جنرال ستانلي ماكريستال، نائب مدير العمليات في هيئة القيادة المشتركة، في 8 أبريل إن الغارة الجوية كانت «فعالة جدا» ولكن ليس معروفا ما إذا كان الرجال الثلاثة قد قتلوا. ويقول المسؤولون الأميركيون إنهم ما زالوا يتلقون تقارير متضاربة حول مصائرهم. وتشير مقابلات مع أربعة من شهود الحدث ممن يعيشون بالقرب من موقع الغارة، ومع حارس سابق لأسرة صدام، إلى أن قصي نجا من الغارة، وأن والده وأخاه ربما نجيا أيضا. وقال الحارس الذي رفض الكشف عن هويته إن صدام وابنيه كانوا في الاجتماع، مؤكدا صحة المعلومات التي كانت لدى الاستخبارات الأميركية. لكن الحارس قال إن بعض اصدقائه أخبروه بأن الثلاثة غادروا المكان قبل وقت قصير من إسقاط الولايات المتحدة قنبلة زنتها 2000 رطل على الشارع وأن صدام وعدي سارا في طريق بينما سار قصي في طريق آخر.

وتوحي شهادات هؤلاء، وشهادات أخرى إضافية، بأن الولايات المتحدة أخطأت هدفها إما لخطأ في معلوماتها أو لعدم دقتها في إصابة الهدف المقصود. وقال شهود وبعض سكان المنطقة إن المنازل على جانبي المنزلين اللذين حطمتهما الغارة كان يستخدمها صدام وابناؤه. ويقولون إن حوالي 14 من المدنيين قد قتلوا. ومع أن الشهود ليست لديهم أية فكرة حول الجهة التي ذهب إليها صدام وابناه بعد الغارة، إلا أن الأحداث التي سبقت الغارة تعطي لمحة عن جهود الأسرة الحاكمة لحماية نفسها في آخر أيام الحرب. وقد كان حي المنصور مخبأ مغريا للقيادة العراقية. فهو قريب من القصور الكبيرة التي يعمل فيها الكثيرون من المسؤولين العراقيين، كما أنه يقع على الضفة الغربية لنهر دجلة حيث سهولة الوصول إلى الطريق السريع الذي يقود إلى سورية والأردن.

وما يزال المنصور، حتى بعد كل الفوضى التي أعقبت الحرب، يحتفظ بسيماء الحي الجميل. وتنتشر فيه المنازل ذات الحدائق الأنيقة المطلة على الشارع الكبير. وهناك المطاعم الفخمة والبوتيكات التي تعرض مختلف البضائع الأوروبية والعربية. ومع أن الحي يمثل ضاحية كبيرة، إلا أنه يمكن أن يكون كذلك مدينة قائمة بذاتها. ورغم ارتفاع الحيطان المحيطة بالحدائق، إلا أنه ليست هناك حركة تغيب عن الآخرين ولا تسجلها العيون الراصدة. فإذا بيع أحد المنازل، أو أقيم خط كهربائي جديد، تثار الأسئلة ولكن في حذر شديد. وقال قيصر مجيد الاثري، العامل في مجال العقارات: «قبل الحرب قام عدد من الوزراء ومن علية القوم بشراء أو إيجار منازل هنا للاختفاء فيها عند الحاجة». ويعرف الاثري ما يقول، إذ تغطي حائط مكتبه خريطة كبيرة لكل منازل الحي. وهو متأكد من أن المنزل المجاور للمنزلين اللذين أصابتهما الغارة كان مؤجرا لمسؤول حكومي قبل ثلاثة أسابيع من الهجوم. وقال إن المالك السابق كان يباهي بأنه باع منزله ذاك بـ200 ألف دولار. وأضاف قائلا: «ربما يكون سعره 140 ألف دولار وربما اقل من ذلك. وقال صاحب المنزل إنهم دفعوا له نقدا، وكانت الدولارات جديدة وطلبوا منه أن يترك كل شيء وراءه وألا يأخذ غير ملابسه وملابس أسرته». وقال الاثري إن المشتري لا بد أن يكون وكيلا لأحد رموز النظام ممن لا يريدون كشف هويتهم. وأضاف « هذا منزل متواضع من طابقين ولا يمكن لأحد أن يخمن أن صدام حسين يقيم هناك».

وبحلول الاسبوع الثالث من اندلاع الحرب، وبينما كانت القوات الأميركية تقترب من بغداد، بدأت عناصر الأمن تظهر في الحي. وكان ظهورهم مصدر قلق للسكان الذين بدأوا يخمنون أن مجموعة من أكبر المسؤولين يختفون هناك مما يجعل الحي هدفا للغارات الأميركية. قال طبيب الأسنان كاشف الغطاء: «انتابنا بالفعل خوف شديد». كان ذلك حوالي يوم 4 أبريل (نيسان).

وقال إن ذلك كان يوم ظهر صدام حسين من دون إعلان مسبق في أحد الشوارع الفخمة في حي المنصور ومعه سكرتيره عبد حمود التكريتي. وفي اليوم التالي شاهد سكان الحي شاحنات محملة بأسلحة ثقيلة ترابط في كل مداخل الشوارع الجانبية. وبعد يوم واحد من ذلك التاريخ، وفي الوقت الذي اقتحمت فيه الفرقة الثالثة مشاة شوارع بغداد لأول مرة وأصبحت أيام النظام معدودة، شاهد سكان المنصور خطا رئيسا للكهرباء يوصل إلى المنطقة. وكان ذلك أمرا مثيرا للاهتمام لأن الكهرباء كانت قد اختفت من المدينة. واستنتج السكان إثر ذلك أن هناك كثيرا من المنازل السرية التي تقيم فيها أسرة صدام حسين وأن الخط كان ينقل الإمداد الكهربائي لواحد على الأقل من هذه المنازل. وقال كاشف الغطاء، الذي يعتقد أن المولد الكهربائي وضع على بعد عدة بنايات من المنزل المقصود حتى لا يكشف موقع الرئيس العراقي: «يجب أن يكون هذا صدام. من غيره يمكن أن يكون؟».

وانتقلت الاجراءات الامنية المشددة الى المنطقة ليل 5 ابريل (نيسان) الماضي، اذ استيقظ كاشف الغطاء منتصف الليل ليجد 14 ضابطا مسلحا يقفون في باحة منزله الخارجية وتساءل مع نفسه ما اذا كان بوسع القوات الاميركية مشاهدة أفراد هذه الوحدة الامنية الخاصة من خلال الاقمار الصناعية للتجسس وما اذا سيصبح منزله هدفا اذا كشفت هذه الاقمار الموقع. وطلب كاشف الغطاء من الاشخاص الخروج من باحة منزله لكنهم ابلغوه بأنهم تابعون لحزب البعث الحاكم وانهم جاءوا لحماية السكان. وطبقا لشهادة الحارس الشخصي كان صدام وابناه دائمي التنقل حتى يوم 7 ابريل (نيسان) ، وهو يوم الهجوم، فيما دخلت القوات الاميركية المدينة ولم يعد هناك الكثير من الوقت. وقال الحارس انهم كانوا يتحركون بصورة متواصلة. واكد اصدقاء الحارس المذكور انه عمل مع صدام حسين وابنه عدي كحارس شخصي، لكنه طلب عدم ذكر اسمه خوفا من تعرضه للانتقام من المقربين من الرئيس العراقي المخلوع. وأضاف الحارس انه تقرر ان يتخذ موقعا تحت جسر علوي لطريق سريع على الطرف الغربي بحي المنصور، أي على بعد حوالي 10 دقائق بالسيارة من المخبأ الذي شهد اجتماعا لصدام حسين وابنيه قصي وعدي يوم القصف الاميركي. وخلال انتظاره سمع الحرس صوت إطلاق رصاص من الجهة الجنوبية باتجاه المطار الرئيسي، فيما كانت القوات الاميركية تتقدم من اتجاه نصب الجندي المجهول الذي يقع على بعد 15 دقيقة بالسيارة تقريبا. وفي ظل عدم وجود نظام رادار فاعل وعدم وجود معدات اخرى للدفاع، اتبع صدام حسين استراتيجية حماية بسيطة تعتمد على التحرك المستمر كلما وقع قصف اميركي او تقدمت القوات الاميركية، حسبما ذكر الحارس. واستطرد الحارس قائلا ان الاجتماع انتهى حوالي الساعة الثانية والنصف، رغم انه كان من المفترض ان يستمر وقتا اطول، إلا ان مسؤولي الحراسة علموا بأن القوات الاميركية واصلت تقدمها ووصلت الى نصب الجندي المجهول، وعند ذلك بعث الحارس بتحذير عبر جهاز الراديو الى وحدة الحراسة الخاصة المسؤولة عن امن عدي في موقع الاجتماع. وطبقا للخطة، توجه الحارس الشخصي بسياراته صوب مكان اللقاء وعندما لم يجد احدا اتجه الى موقع تأمين آخر وهو مطعم حرفي باشا. عقب انتظار تراوح بين 30 و45 دقيقة وصل حارسان من وحدة الحراسة المكلفة حماية عدي وطلبا منه المغادرة الى منزله. في ذلك الوقت دمرت نيران القصف الاميركية منزلين في حي المنصور وسوتهما بالارض وبداخلهما سكانهما. وتبدو المنازل الواقعة الى جانب والمنزلين المدمرين سليمة وان كانت قد تعرضت لاضرار محدودة. المنزل الذي قال الاثري، صاحب مكتب العقارات، انه بيع قبل وقت قصير من اندلاع الحرب مكون من طابقين وتظهر به اضرار طفيفة على السقف، اذ يعتقد كاشف الغطاء ان صدام ونجليه التقوا فيه بعد ظهر يوم الغارة. ويقول معظم الجيران انه لم يكن لهم علم باللقاء في ذلك الوقت، لكنهم ألقوا نظرة في وقت لاحق من خلال نوافذ المنزل ليشاهدوا طاولة ضخمة وأضواء تعرف عليها بعضهم من حديث لصدام سجل على شريط فيديو ليبث عند بداية الحرب. وبات المنزل المذكور خاويا تماما اثر عمليات السلب والنهب التي وقعت عقب سقوط بغداد. وقال كاشف الغطاء انه عندما قام لأول مرة بالقاء نظرة على المنزل بعد الغارة لم يشاهد فحسب الطاولة الكبيرة بل شاهد ايضا خمسة خطوط هاتفية، وهذا يعتبر ترفا حتى في حي راق مثل حي المنصور. ويوجد على الجانب الآخر من موقع الغارة منزل ثان تعرض لأضرار بالغة لكنه لا يزال واقفا، وأخبر الحارس بواسطة زملائه قبل يوم الهجوم ان هذا المنزل كان يستخدم من قبل صدام. وكان يشغل المنزل حتى الاسبوع السابق رجل مسن يدعى فضل سلمان إمام وابنته وحفيده . واقسم الأب وابنته أنه لم يحدث ان رأي أي منهما صدام في الحي او في منزلهم. وعندما سئل حول التقارير المتضاربة، قال الحارس انه من المحتمل ان يكون لصدام حسين وابنيه منزلان في المنطقة لكنه لأسباب أمنية ابلغ بوجود منزل واحد فقط. وبصرف النظر عن المكان الذي كان فيه صدام واسرته قبل القصف في7 ابريل (نيسان)، فإن ابنه قصي شوهد بعد هدوء الاوضاع في عدة اماكن، فقد قال كثيرون انهم رأوه وهو يقود سيارة على شارع الداودي بعد حوالي نصف ساعة على وقوع الضربة. فقد ذكر علي عبد العباس، الذي يعمل حارسا للمنازل، انه كان يقود سيارته في الشارع الرئيسي بحي المنصور وشاهد قصي داخل سيارة بيضاء جديدة. وأضاف عبد العباس ان قصي لم يكن يقود تلك السيارة لكنه شوهد يجلس على مقعدها الأمامي. وكان صاحب المكتب العقاري محمد امير قد عاد لتوه عبر شارع الداودي، الذي يمر عبر منطقة سكنية راقية، من موقع الانفجار، وأكد انه شاهد حوالي الساعة الرابعة عصرا قصي وهو يستقل سيارة بيجو 306 بيضاء اللون. وأضاف امير، المسؤول السابق في منظمة الامم المتحدة، انه شاهد قصي جالسا في مقعد السيارة الأمامي وهو يضع بندقية بين ساقيه. كما لاحظ امير ايضا ان قصي كان يرتدي نفس الملابس التي ظهر بها مع والده على شاشات التلفزيون، ويعتقد امير ان الملابس التي كان يرتديها كانت بلون الصوف الطبيعي. وآخر إفادة شهود عيان تشير الى ان آخر ظهور لصدام على قيد الحياة كان بعد يومين من تلك الأحداث، أي في 9 ابريل (نيسان) عندما دخلت القوات الاميركية قلب بغداد وساعدت في إنزال تمثال ضخم للرئيس العراقي المخلوع. وفي حي الاعظمية، الذي لم تكن القوات الاميركية قد سيطرت عليه بعد في ذلك الوقت، قال عدة شهود عيان انهم رأوا صدام ونجله قصي على بعد اقدام فقط من مسجد ابي حنيفة. وقال حسن الاعظمي، 43 سنة، وهو صاحب متجر في المنطقة، انه شاهد صدام وتحدث معه وقبله على خده، وأضاف معلقا انه لم يكن يتخيل انه سيقترب يوما من صدام ويشاهده على مقربة منه كما حدث. وبعد ساعات فقط من ذلك الوقت اشتبكت القوات الاميركية مع مسلحين موالين للنظام العراقي السابق في الموقع. وفي وقت لاحق بثت قناة ابوظبي الفضائية مشاهد للرئيس العراقي المخلوع، إلا ان مسؤولي استخبارات اميركيين قالوا انهم غير متأكدين من الوقت الذي صور خلاله الشريط وما اذا كان الشخص الذي ظهر عليه هو صدام نفسه ام واحد من اشباهه. وخلال الايام التي تلت تلك التطورات، ظل الحارس الشخصي في انتظار تعليمات كان متأكدا في ما يبدو من صدورها في وقت لاحق. واخيرا وصل الى منزله الحارسان الشخصيان اللذان وجهاه بالانصراف مساء اليوم الذي وقعت فيه ضربة حي المنصور ليبلغاه بأن عدي مع والده، لكنهما لم يتحدثا حول قصي وابلغاه بأن يبقى في منزله لأن «الامر قد انتهى».

*خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»