دي ميلو لم يؤيد الحرب وتردد في الذهاب لبغداد ونادية يونس كانت أمينة بصورة نادرة

TT

أحدهما برازيلي، يبدو وكأنه تجسيد لمفهوم هوليوود عن الدبلوماسي: نحيف، اشيب، أنيق، بلكنة خفيفة في اللغات العديدة التي يتحدثها. والأخرى مصرية، مقبلة على الحياة، حادة التفكير وخبيرة متخصصة في إدارة الفوضى. توفيا كلاهما يوم الثلاثاء في بغداد، مسحوقين تحت أنقاض فندق القناة الذي صار مقرا مؤقتا للامم المتحدة بالعراق. عبر السنين تحول هذا الرجل وهذه المرأة، وعبر التراقص الحذر بين الصحافيين ومصادر الأخبار، إلى اثنين من أعز أصدقائي.

البرازيلي هو سيرجيو فييرا دي ميلو، 55 سنة، والمصرية هي نادية يونس، 57 سنة. كان الإثنان موظفين في بيروقراطية الأمم المتحدة التي يحتقرها الكثير من الأميركيين. وكانا في بغداد، دون رغبة من جانبهما، لإسداء خدماتهما لحرب رفض مجلس الأمن الدولي الموافقة عليها، ومحاولة معالجة الفوضى التي أعقبت الحرب ومساعدة الأميركيين والبريطانيين في خلق حياة ديمقراطية جديدة للعراقيين. وهما، ضمن أكثر من عشرين من موظفي الأمم المتحدة وخبراء الإغاثة الآخرين، ضحايا جهد منظم لطرد الأميركيين وغيرهم من «الكفار» من العراق.

عرفتهما كليهما لفترة طويلة.. فقد عملا في أكثر بقاع الأرض افتقارا للأمان، حيث تقاطعت الاحتياجات المحلية مع المصالح الجيوسياسية. وبذلا مجهودات خارقة لجلب القدر الممكن من السلام والراحة للمنكوبين، والقدر الممكن من التعقل لأمراء الحرب، والقدر الممكن من العدالة للضحايا والمظلومين. وكانا يسعيان لتحقيق القدر الممكن لأنهما كانا واقعيين، بل حتى متشككين، في ما يمكن عمله في تلك البقاع المتربة، المطمورة في الصراعات القومية والنزاعات الإثنية.

وكانا نقديين إزاء كثير مما تفعله الحكومات وإزاء البيروقراطية التي يعملان لديها كذلك، ومسليين عندما يتحدثان عن الهوس الذي يركب مجلس الأمن في بعض الأحيان، وإعراض الحكومات عن دفع ثمن المغامرات التي تقدم عليها دون تردد.

تعامل سيرجيو ونادية مع الحياة كما وجدتهما وحاولا تحسينها من أجل الآخرين. وفي ذلك الإطار كانت هناك بعض الأشياء التي يؤمنان بها: القانون الدولي، التحسن التدريجي، والإحساس بأن عالم ما بعد الحرب الباردة سيكون ذا طبيعة اقل عنفا وشراسة.

التقيت سيرجيو بجنوب شرق آسيا، بعد فترة قليلة من رئاستي لمكتب بانكوك الصحافي عام 1988. كان يعمل بمكتب المندوب السامي للاجئين التابع للأمم المتحدة. وقد ظل يعمل بهذا المكتب منذ 1969. وكان منغمسا في مشكلة اصحاب المراكب الفيتناميين الهاربين من القمع والبؤس في بلادهم إلى الحلم الأميركي، على خلفية الجراح النفسية العميقة التي خلفها حكم بول بوت في كمبوديا. وقد تبين في جنوب شرق آسيا مدى النفوذ الذي تمارسه الأمم المتحدة وبنات عمومتها من المنظمات غير الحكومية والتي تشمل: المدافعين عن حقوق الإنسان، الجماعات الكنسية، المؤسسات وعمال الإغاثة المتخصصين. وكان هؤلاء يملأون الفراغات في المناطق المنكوبة التي لا يصلها العون الأجنبي الذي كان يتناقص حينها. وقد خلقت جنوب شرق آسيا اولئك الهائمين بها والمدمنين للعمل من أجلها، مثلها مثل البلقان التي عمل فيها سيرجيو أيضا.

عندما استسلم سلوبودان ميلوشوفيتش في نهاية المطاف لقوات الناتو عام 1999، وسحب الجيش الصربي والشرطة الصربية من كسوفو، وأرسل سيرجيو من قبل كوفي أنان، السكرتير العام للأمم المتحدة، لإدارة الأقليم. كنت قد وصلت إلى بريشتينا، عاصمة كوسوفو الكئيبة، قبل وصول قوات الناتو، وضمنت لنفسي شقة «فاخرة» بالفندق الكبير الذي يعتبر من الفنادق ذات الخمس نجوم، وكانت أربع منها مطفأة والخامسة ترسل بريقا خافتا. وكان المكان يضج بالصرب الغاضبين، بعضهم مذنب وكثيرون منهم مخمورون وأغلبهم مسلحون. وقد وفرت لسيرجيو سريره الأول في كوسوفو «المحررة»، على أريكة رخيصة مغطاة بغطاء من النايلون ذي اللون البنفسجي، عندما وصل إلى هناك كمبعوث دولي.

لم يكن للأمم المتحدة خطة مرسومة، وكان الأميركيون والبريطانيون يريدون أن تقوم منظمة الأمن والتعاون الأوروبية بإدارة الإقليم ولكنهم لم يحققوا النصر الحاسم الذي يمكنهم من ذلك. وقد تمكن ميلوشيفيتش من إلقاء مصير كوسوفو بين يدي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث تملك الصرب بعض الحلفاء. ولذلك قذف بسيرجيو نفسه إلى بريشتينا، إلى أتون الفوضى، عله يوجد شيئا شبيها بالإدارة. ولكنه كان يعرف أنه لن يحتفظ بهذه الوظيفة التي كان سيؤديها على خير وجه. فهو كان برازيليا يتحدث البرتغالية. وكوسوفو بطريقة ما أوروبية. وهو يلم إلماما دقيقا بسياسة الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وكان واثقا من أن الوظيفة ستكون من نصيب مواطن فرنسي. وهذا ما حدث بالفعل، إذ كانت من نصيب برنار كوشنر، الناشط في مجال الإغاثة والوزير السابق للصحة بفرنسا. وأعطي سيرجيو حفرة أخرى ليديرها هي تيمور الشرقية، التي كانت مستعمرة برتغالية ثم إندونيسية.

مع كوشنر جاءت نادية يونس المصرية، المتحدثة بالفرنسية، والأميركية التعليم والمحبة للبوشيني. وقد كان كوفي أنان واثقا من أنها تستطيع أن تضبط كوشنر المعروف بعاطفيته وتضمن سيره في الاتجاه الصحيح. ومع أنها كانت رئيسة سابقة للبروتوكول بالأمم المتحدة، إلأ أنها لم تكن خاضعة للرسميات.

وفي محادثات مطولة، وسط تصاعد دخان السجاير، في ليالي كوسوفو الباردة وأجوائها المظلمة، كانت نادية، فوق كل شيء آخر، أمينة بصورة نادرة حول ما هو الممكن وغير الممكن عمله هناك. كانت تتحدث عن واقع كوسوفو بصراحة منعشة، وبشيء من التشكك حول المستقبل. كانت تتحدث عن جرائم جيش تحرير كوسوفو، والغش المتمثل في «تحويله» إلى قوة غير مسلحة لحفظ النظام، عن التفاؤلية الساذجة لإدارة كلنتون، والتباطؤ القاتل من مجلس الأمن في تمويل مسؤولياته في كوسوفو، وعن الحس الوطني الجريح والمريض للصرب المحليين، وعن انعكاس ظاهرة التطهير العرقي، حيث طردت أقليات الصرب وروما، بل حتى الأقليات المسلمة غير الألبانية من قبل الألبان. كما كانت تتحدث عن حالة الفوضى التي تسود الإقليم، حيث تقتل النساء اللائي تخطت أعمارهن 80 سنة في شققهن ولا يعتقل أحد، وعن الجهود المهدرة والفاشلة للأمم المتحدة نفسها.

لماذا إذن قبلت مواصلة العمل هناك؟

استمرت لأنها كانت تعتقد أن هذا سيؤدي إلى تحسن ما. لأنها كانت مرعوبة بما حدث في الماضي تحت حكم ميلوشفتيش. لأنه كان أمرا حيويا بالنسبة لها ألا تفشل الأمم المتحدة في مهامها من هذا النوع.

كثيرا ما تتناول نادية طعام الغداء مع المستر كوشنر وغيره من المتحدثين بالفرنسية من الموظفين والزوار. والمستر كوشنر بارع جدا في تناول المكرونة. وكانت المحادثات التي تدور مسلية إلى حد بعيد. وخاصة عندما تدور حول عادات وخصائص الجنود والدبلوماسيين الأميركيين والبريطانيين والإيطاليين، الذي تتألف منهم قوة حفظ السلام التي تفض النزاعات وتؤمن الحدود.

وفي مرحلة لاحقة عندما نشرت مقابلة صريحة مطولة مع رئيس مكتب المندوب السامي للاجئين التابع للأمم المتحدة بكوسوفو، دينيس ماكنمارا، شعرت رئاسة الامم المتحدة بحرج شديد وطلبت من نادية نفي ما جاء في تلك المقابلة، فرفضت وقالت لرؤسائها: كل الانتقادات الواردة فيها انتقادات صحيحة.

أدى سيرجيو عملا عظيما بتيمور الشرقية، ولذلك عينه كوفي أنان في السنة الماضية مسؤولا عن حقوق الإنسان بجنيف. ولكن إدارة بوش التي كانت معجبة بمهنيته العالية وذكائه الحاد، رغبت أن يكون هو ممثل كوفي أنان في عراق ما بعد الحرب. وقد خطر لكثيرين أنه سيكون خليفة أنان.

لم يكن سيرجيو راغبا في الذهاب إلى بغداد. لم يكن يؤيد الحرب التي شنت دون موافقة المنظمة، وكان متخوفا من أجواء ما بعد الحرب وكانت له التزامات شخصية. وقد تبادلنا عدة رسائل الكترونية حول احتمالات شغله للوظيفة. ولم يكن يصدق حتى يوم إعلان الأمر، ورغم تحذيري له بأنه سيجبر على ذلك، وأنه سيشغلها بالفعل. وقد كتب لي:

«لا استطيع أن أتخلى عن وظيفتي الحالية (التي لم تتعد ثمانية أشهر) وأذهب هكذا إلى مغامرة جديدة. بالإضافة إلى ذلك فإن التفويض لا يبدو لي صحيحا».

ولكنه وافق في النهاية، متفهما أهمية المهمة، والحاجة لمساعدة الأنغلوساكسونيين على إنهاء ما بدأوه في العراق. وقد أحضر معه نادية إلى بغداد لتكون رئيسة موظفيه. وقد أرسل لي رسالة الكترونية في نفس اليوم الذي عين فيه، يوم 27 مايو(أيار)، وقال فيها:

«ينبغي أن اصدق الصحافيين دائما. ولكنها ستكون لفترة أربعة اشهر فقط!» وقال انه يتطلع إلى زيارتي في شقتي الجديدة ولكنه كان مهموما بصورة غير عادية. وكانت نهاية رسالته:

«أتمنى لك كل خير يا صديقي، وأرجو أن تصلي من أجلي وتدعو لي».

عاش سيرجيو ونادية حياة مليئة بالتضحيات والمعاني. ويعتبر موتهما عارا وسخرية من المحاربين من مقاعدهم الوثيرة، وهواة التلطيخ في برامج النقاش التلفزيونية، كما تعتبر عارا لهواة التقديس والابتزاز والتبسيط. ويعتبر موتهما شاهدا على أن الاستكبار لا يكون خيرا، مهما كانت دوافعه وأنه يولد لا محالة الاستجابات المناسبة له. كما أن حياتهما تذكر بأنه من الممكن أن نأتي أعمالا صغيرة من أعمال الخير، في هذا العالم الغارق في الدماء.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»