الحياة اليومية في بغداد تتحسن.. ولكن

TT

لا يملك العائد إلى زيارة بغداد بعد ثلاثة أشهر إلا أن يعبر عن دهشته للتحسن الذي طرأ على الحياة في العاصمة العراقية. الا ان «لكن» لا بد أن تجد مكانها بين السطور. لنبدأ بكيفية الوصول إلى هنا. فرحلة «بيتشكرافت» الجوية اليومية من العاصمة الأردنية عمان اختراع محمود لعمال الإغاثة والصحافيين الذين يسمح لهم بالصعود إلى متون طائراتها. أما رحلة الـ 13 ساعة على الطريق الصحراوي فمرهقة وموبوءة باللصوص وقطاع الطرق. ولكن عندما تخفض الطائرة الصغيرة ارتفاعها بصورة حادة، وتبدأ في هبوطها الحلزوني نحو مطار بغداد، فإنك تعرف أن حركة الالتفاف التي تقلب أمعاءك رأسا على عقب، ضرورية بسبب مخاطر الصواريخ أرض ـ جو التي أطلق اثنان منها على طائرة نقل أميركية أثناء الزيارة الأخيرة لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد.

وعندما تصل إلى مطار بغداد الدولي، تجد الجنود الأميركيين ومساعديهم العراقيين في مكتب للجمارك أقيم على عجل، فيعبئون المعلومات الخاصة بك في جهاز كومبيوتر ويصورونك بآلة تصوير رقمية، ويختمون على جواز سفرك في النهاية. فأين ذلك من الإشارة العابرة التي حياني بها جندي أميركي على الحدود الأردنية، في المرة الأولى التي زرت فيها العراق بعد الحرب مباشرة؟ ولكن إجراءات الجمارك الرسمية هذه لا تباشر في المبنى الرئيس للقادمين، بل خلف مرآب الطائرات الخانق وبالقرب من صفوف مرصوصة من الصناديق المعدنية التي تحوي الرسائل البريدية المرسلة إلى قوات التحالف. ولا يوجد من يتحدث عن فتح مرافق المطار الرئيسية خلال عدة أشهر قادمة.

تشعر بالراحة ليلا عندما تنام على صوت مكيف الهواء بدلا من قعقعة الأسلحة الشخصية كما كان يحدث في المرة السابقة التي زرت فيها البلاد. وقد سمعت طلقة واحدة فقط منذ وصولي قبل ثلاثة ايام. ولكن صوت انفجار بعيد جعل الرجل الذي ينظف غرفة الفندق يرفع حاجبيه دهشة، كما أثار لدي بعض القلق. فقد صارت قوات العصابات تستخدم «أجهزة تفجير مصنوعة يدويا» وهي قنابل يدوية مصنوعة محليا تفجر عن طريق التحكم عن بعد، ضد القوافل العسكرية الأميركية في المدينة. صار وجود رجال الشرطة العراقية، بقمصانهم الأنيقة خفيفة الزرقة وبناطيلهم السوداء منظرا مألوفا في المدينة، وهي علامة على أن القوات المحلية أخذت تتولى المسؤولية في تطبيق القانون، من القوات الأميركية. ولكنك عندما ترى شرطيا واحدا يوقف السيارات عند حاجز للتفتيش، بينما يجلس أربعة من زملائه في الظل، فإنك تعرف أنه لا يستطيع وحده أن يفرض سلطته على المارة دون دعم معنوي من رفاقه.

الازمة الجانبية البغدادية تفيض بالبضائع المحلية مثل الخوخ والبرقوق والباميا والتمور، وبالبضائع الأجنبية ايضا مثل الثلاجات وأجهزة التلفزيون التي غزت البلاد منذ أن الغت السلطات الأميركية الرسوم الجمركية. (بل تستطيع حتى أن تشتري الخل البلسمي في تلك المحال). كما أن الظواهر المستحدثة مثل مقاهي الإنترنت قد ظهرت في أماكن عديدة.

ومع بداية الشركات الخاصة في تحسس طريقها، وبينما يحاول موظفو الشركات العامة المتهالكة جمع الأموال للطوارئ، فإن كثيرا من العراقيين لديهم بعض الأموال التي يستطيعون إنفاقها بحرص شديد لتغطية الضروريات.

ولكن في بعض الأحياء غير الآمنة في العاصمة يغلق التجار محلاتهم عند الظهيرة خوفا من اللصوص الذين ما يزالون يجوبون بعض أجزاء المدينة. ويصل عدد البلاغات عن سرقات السيارات إلى حوالي 70 بلاغا في اليوم الواحد في بغداد. وترتفع حالات الاختطاف من أجل الحصول على أموال الفدية. وتحت السطح المضطرب لحياة المدينة هناك حالة مرعبة من الانفلات الأمني والقانوني. ويقول العراقيون ان هذا هو مصدر احتجاجهم الرئيسي وشكواهم الدائمة بعد خمسة أشهر من وصول القوات الأميركية.

ويشكو العراقيون كذلك من انعدام الكهرباء، رغم أن بعض الاحياء تخضع لنظام الإضاءة لثلاث ساعات والإظلام لثلاث ساعات، وهو أفضل على كل حال من نظام الساعتين التي تعقبها أربع ساعات من القطع الذي كان سائدا أثناء الصيف. ويقول المسؤولون الأميركيون انه حتى ولو لم يكونوا يصارعون ضد المخربين الذين يفجرون أسلاك الكهرباء، وحتى لو عملت كل مصانع توليد الكهرباء بالمدينة، فإن البنية المتآكلة للشبكة القديمة ستجعل القطوعات مستمرة، إن لم يكن لعدة سنوات، فعلى الأقل لعدة اشهر.

وهذا لا يدعو إلى الطمأنينة بالطبع. وبالنسبة للعراقيين الذين لم يتصوروا ما يمكن أن تؤول إليه الأمور بعد موجة النهب التي اجتاحت البلاد في اعقاب الحرب، فإن نظرتهم تركز دائما على النصف الفارغ من الكوب.

* خدمة «كريستيان ساينس مونيتور» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»