عدد متزايد من الجنود الإسرائيليين يرفضون الخدمة في الضفة الغربية وقطاع غزة

منشورات تسأل عن مغزى قمع الانتفاضة وإعاقة إعلان الاستقلال الفلسطيني

TT

قضى نعوم كوزار 28 يوما من شهر اكتوبر (تشرين الاول) الماضي في السجن الحربي رقم 64 لان هذا الجندي البالغ من العمر 19 سنة خرق واحدا من اكثر المبادئ قدسية في اسرائيل وعصى الاوامر العسكرية برفضه الخدمة في الضفة الغربية.

ومنذ بداية الانتفاضة قبل ثلاثة اشهر، ظهرت مجموعة صغيرة من الجنود الاسرائيليين الرافضين للخدمة في الضفة الغربية وقطاع غزة، واخذت هذه المجموعة تنمو باستمرار. وعلى غرار ما حدث لكوزار، فان العديد من هؤلاء قد انتهى بهم الامر الى السجون لانهم تقاعسوا عن اداء الخدمة العسكرية.

ويقول كوزار: «ظللت طوال حياتي اعارض وجود الجيش والحكومة في الاراضي المحتلة. ما الذي يبرر وجودي هناك؟» وفي بلد يطلب فيه من الجميع تقريبا اداء الخدمة العسكرية، فان الكثير من الاسرائيليين يعتبرون من يقاوم هذه الخدمة إما جبانا وإما خائنا. وعلى الرغم من اتفاقيات السلام المبرمة مع مصر والاردن، فان الاسرائيليين لا يزالون يعتبرون دولتهم محاطة بالاعداء، ولذلك يعتقدون ان الجيش القوي ضروري لبقاء اسرائيل.

لكن بعض الاسرائيليين يشعرون بالضيق، وهم يواجهون الاطفال الفلسطينيين بالرصاص. وتعكس المواجهة التي يقوم بها الاطفال الفلسطينيون ضد الجنود الاسرائيليين النظاميين وجنود الاحتياط تغيرات في رؤية بعض الاسرائيليين لجيشهم والذي كان ينظر الى الهجوم عليه محظورا في السابق.

وقد قضى ايشاي مينوشين، المظلي بالجيش الاسرائيلي، والمشارك في حرب لبنان، معظم الشهر الماضي يوزع في الشوارع ومحطات الحافلات في القدس المنشورات على الجنود العائدين خلال عطلة نهاية الاسبوع، يحثهم فيها على التفكير جيدا في ما اذا كانوا يرغبون فعلا في الخدمة.

ومما جاء في احد هذه المنشورات ان الحرب من اجل حماية المستوطنات الاسرائيلية «ليست حربنا». ويخاطب المنشور الجنود قائلا «ايها الجندي، الى اين تتجه؟ هل انت متوجه الى الخدمة في جيش الاحتلال، وربما لتمنع الشعب الفلسطيني من اعلان استقلاله وتقمع الانتفاضة الجديدة؟ ام انك ذاهب لاشعال الحرب الشاملة؟» وتميزت ردود الافعال على منشورات مينوشين بالاضطراب. فأغلب الجنود يتسلمون المنشور، وقد يقرأونه ويعلقون عليه، لكن هناك قلة فقط تستشيط غضبا ضده وتمزقه. الاستجابة لهذا المنشور تمثل تناقضا صارخا لما كان يحدث اثناء الثمانينات، عندما بدأ مينوشين حملته كعرّاب للاحتجاج الاخلاقي ضد الحرب اللبنانية. حينها قامت العناصر «الوطنية» اليمينية بضربه وانتهى به الامر نزيلا بالمستشفى. ويقول مينوشين «يمثل الاحتلال عملا غير ديمقراطي. ليس هناك حل للنزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني سوى الحل السياسي. ولست مستعدا للاشتراك في حل عسكري، وعدد متزايد من الاسرائيليين لم يعد مستعدا لذلك».

لكن ان تكون محتجا اخلاقيا في بلد مثل اسرائيل، فانك تبتدع ظاهرة فريدة لان اغلب المحتجين لا يعترضون على الخدمة العسكرية، ولن يتردد اي منهم في الاضطلاع بواجبه اذا تعرضت اسرائيل لحرب مع سورية او ايران. ويؤدي مينوشين، مثله مثل كل الاسرائيليين الذكور، واجبه كجندي احتياط بالخدمة 30 يوما كل عام. لكن الطبيب النفسي، البالغ من العمر 42 عاما، يرفض الذهاب الى الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث قتل اكثر من 350 شخصا منذ 28 سبتمبر (ايلول) الماضي في صدامات يومية تقريبا بين الاسرائيليين والفلسطينيين.

ويقوم مينوشين بادارة منظمة يسارية باسم «بيش» تعني «هناك حدود» وتعمل في «الاحتجاج الاخلاقي» ضد الاحتلال.

ويقول مينوشين ان اكثر من 30 جنديا احتياطيا و7 من الجنود النظاميين، قد رفضوا المشاركة في الحرب، وان 5 من الجنود النظاميين السبعة قد حكم عليهم بالسجن مددا تتراوح من يوم واحد الى 28 يوما.

ولا يرغب الجيش الاسرائيلي في كشف الاحصائيات الخاصة بالمحتجين او عدد الشبان الذين وضعوا في السجن. وتقول سلطات الجيش ان المحتجين اخلاقيا الذين يطلبون الاعفاء من الخدمة، تحول طلباتهم الى لجنة تنظر في تلك الطلبات. وكثيرا ما يتم الوصول معهم الى «حل وسط»، مما يجعل من الصعب احصاء هذه الاعفاءات.

ويقول الجيش «على كل حال، لا تتقدم للاعفاء الا فئة قليلة كل عام».

وصرح الفريق شاؤول موفاز، رئيس هيئة اركان الجيش، في مؤتمر صحافي عقده اخيرا بأن عدد جنود الاحتياط الذين يرغبون في الخدمة بالضفة الغربية وقطاع غزة، قد وصل الى مستوى قياسي منذ اندلاع الانتفاضة الجديدة، وان 90 في المائة من جنود الاحتياط الذين يتم استدعاؤهم، يذهبون الى وحداتهم، وهي نسبة اعلى من المعدلات المعتادة.

وتفتخر اسرائيل بامتلاكها «جيشا للشعب» تنتمي وحداته لكل فئات المجتمع، الاغنياء والفقراء والاصليين والمهاجرين، واليساريين واليمينيين. ونتيجة لهذا الوضع، تبذل الجهود لاستيعاب الجنود، وخاصة جنود الاحتياط، في تلك الوحدات التي تناسب مواهبهم، وتمكنهم من تفادي المهام التي يمكن ان يعارضوها على اساس سياسي.

لكن مينوشين ينبه بانه في غياب الحرب الخارجية فان وحدات المشاة تبقى لاوقات اطول في الضفة الغربية وقطاع غزة.

ويقول روبرت تيريس، جندي الاحتياط المولود بأميركا وهو ذو خلفية محافظة وتعليم ديني وينتمي والده الى حزب الليكود اليميني، ان جولته خلال الانتفاضة الاولى (1987 ـ 1993) هي التي حولت تفكيره رأسا على عقب.

ويقول تيريز وهو يتذكر تلك الايام «ذهبت مضطربا وخائفا لاواجه مئات الاطفال الذين يحملون الحجارة. وقد رأيت قائدي يمسك بطفل (فلسطيني) ويضربه، وكانت تلك اول صدمة كبىرة بالنسبة لي».

وفي عام 1989، اكمل تيريز خدمته كقائد دبابات، لكنه عندما استدعي في اكتوبر الماضي للذهاب الى مدينة جنين بالضفة الغربية، لم يملك الا ان يقول «لا».

ويقول «اخلاقيا لا اسمح لنفسي بان اوضع في موقف يجبرني على اطلاق النار على تجمعات من البشر، او اقتل الابرياء، او اصادر حياة اناس، قد لا يكونون ابرياء، لكنهم لا يستحقون قطع الرؤوس».

وقد اصيب تيريز بالدهشة لان قادته وافراد وحدته لم يغضبوا لموقفه.

ويضيف تيريز: «العنف لا يقود الا لمزيد من العنف. انهم يهاجموننا، فنرد عليهم. عندها يسقط 5 فلسطينيين قتلى، تشيع مزيد من الجنازات، وتنشب مزيد من المظاهرات، وينطلق مزيد من الحجارة ويسقط ثلاثون، فيظهر مزيد من بني العمومة، ومن الاخوان، والاخوات، مستعدين جميعا للموت، وحينها لا يكون رد الجيش فعالا».

ويدير تيريز (31 سنة) مؤسسة للترجمة الصحافية للصحف العبرية، ويخطط لبدء نشاطه كمحام دولي لحقوق الانسان. ويمثل استعداد المحتجين للحديث العلني تحولا من النظر الى الجيش الاسرائيلي، الذي كان يوما ما ينظر اليه بقرة مقدسة لا يمكن انتقادها. هذا «التابو» قد بدأ يتلاشى بالتدريج منذ الحرب مع لبنان.

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»