لأول مرة.. المثقفون الأكراد ينظمون مهرجانا علنيا في تركيا من دون تدخل الشرطة

TT

حتى وقت قريب لم يكن الكثير من أكراد تركيا، وأكراد سائر البلدان، يتصورون أنه ستسنح لهم الفرصة في وقت كهذا للتعبير بحرية عن وجودهم القومي في دولة لم تنكر عليهم هويتهم القومية المتميزة فحسب، بل منعتهم حتى من التحدث بلغتهم الام تحت طائلة عقوبات قانونية واجراءات قاسية.

الفرصة تحققت بالمهرجان الثقافي الذي عقد خلال الأيام الماضية في مدينة ديار بكر، عاصمة الإقليم الكردي التركي. وتنظيم المهرجان برعاية جهة حكومية فسره عدد من المراقبين السياسيين على أنه مؤشر على نية لدى حكومة رجب طيب اردوغان لاجراء الاصلاحات السياسية المطلوبة التي تجسد المعايير الاوروبية لحقوق الانسان بغية تعزيز فرص انضمامها الى الاتحاد الاوروبي. حضر المهرجان الذي اشتمل على مؤتمر ثقافي وفعاليات فنية جمع غفير من سكان المدينة وضيوفهم من اكراد دول الجوار وابناء الجاليات الكردية المنتشرة في بلدان العالم.

وافتتح المؤتمر بكلمة القاها فريدون جليك رئيس بلدية ديار بكر رحب في بدايتها بالحضور الكردي القادم من اجزاء كردستان الاخرى، معتبرا انعقاد المؤتمر بانه يأتي في خضم تطورات بالغة الاهمية تشهدها المنطقة والعالم.

وقال جليك ان «لا احد منا كان يتصور قبل عشر سنوات ان نجلس هنا كما نحن عليه اليوم لنناقش قضايانا القومية ونتبادل وجهات نظرنا حول تطورات منطقتنا ونعطي زخما ادبيا وثقافيا للحركة التي بدأت تعمل من اجل ايجاد فهم افضل لمطالب الشعب الكردي وتبرئة اللغة والثقافة الكردية من تهمة السعي للانفصال. فنحن نكرس اجتماعنا هذا من اجل تقريب الثقافات المشتركة لشعوب هذه المنطقة».

واضاف ان الاكراد الذين يكتب بعضهم بلغات غيرهم من شعوب بلدانهم يشكلون عاملا مساعدا لتقريب الثقافات المشتركة والعيش بسلام بين شعوب هذه البلدان، منتقدا محاولات طمس الهوية القومية وسياسات الصهر العنصري والافكار الشوفينية والاقطاعية، مؤكدا على ضرورة توظيف اللغة والثقافة والادب لهذه الشعوب من اجل العيش المشترك في ظل السلام والاستقرار.

ثم القى شفيق بياز رئيس المعهد الكردي في اسطنبول كلمة في المؤتمر شدد فيها على دور المثقف الكردي في تقريب الشعوب عبر احترام الثقافات المختلفة وعدم استعلاء ثقافة على اخرى، مشيرا إلى ان الشعب الكردي خاض نضالا عسيرا من اجل تحقيق حقوقه الديمقراطية والقومية، وحان الوقت لكي يقوم المثقف والاديب الكردي بدوره في تغيير مجتمعه عن طريق التربية والقصة والشعر والفنون، فكلما تطورت الثقافة اصبح الشعب الاخر اكثر فهما وانفتاحا على الرأي الاخر.

وفي لقاء خاص بـ«الشرق الأوسط» جرى على هامش المؤتمر وصف ممد اوزون الكاتب والصحافي الكردي البارز في تركيا والمقيم حاليا في السويد، المؤتمر بانه اهم حدث في تاريخ الشعب الكردي في تركيا، معتبرا ان الحدث سيكون له تأثيره الايجابي على مستقبل الاكراد.

واضاف اوزون ان وجود هذا العدد الكبير من المفكرين والمثقفين الاكراد من اجزاء كردستان الاربعة ومن الدول الاوروبية في المؤتمر له اهميته البالغة ودلالاته الواضحة.

وفي معرض رده على سؤال لـ«الشرق الأوسط» حول تأثير هذه التظاهرة الكردية على سياسة الدولة التركية قال: بالطبع سيكون للحدث تأثيراته المهمة على تركيا، فمجرد انعقاد المؤتمر يعكس تغير موقف الدولة التركية تجاه اكرادها، مشيرا إلى ان نضال الاكراد في هذا الجزء هو الذي اوصلنا الى هذا اليوم الذي نرى فيه ان تركيا لم تعد تعرقل قيام مثل هذه التظاهرات كما في السابق، واعتقد ان تكرار هذه الفرص يصب في مصلحة الشعب الكردي وتركيا بالذات التي تريد الدخول الى الاتحاد الاوروبي مما يحتم عليها تغيير سياساتها تجاه الاخرين. وقال الدكتور عز الدين مصطفى رسول رئيس اتحاد الادباء الاكراد في السليمانية (كردستان العراق) ان «مثل هذا اللقاء في ديار بكر كان حلما اخذه الاسبقون الى القبر وها هو يتحقق ونحن قادمون من مدن كردستان العراق وايران وسورية نحمل الحلم ونعمل على تثبيت خطوة لقيام اللغة الادبية الكردية الموحدة وهي سمة العصر ولا ينفي ذلك وجود لهجات في اللغة الكردية مثل سائر لغات العالم».

من جهته اشار فريدون جليك في لقاء معه بـ«الشرق الأوسط» الى اهمية التقريب بين الادب والثقافتين الكردية والتركية وهو الموضوع الذي احتل مساحة كبيرة من كلمته الافتتاحية، مؤكدا عدم الاكتفاء بتقريب الثقافة الكردية مع ثقافة الاتراك فحسب، بل مع العرب والفرس وبقية القوميات التي تعيش في منطقة الشرق الاوسط، مضيفا ان تركيا التي تتطلع الى عضوية الاتحاد الاوروبي عليها ان تغير قوانينها وترفع الحظر عن استخدام اللغة الكردية وتعمل على تطوير الثقافة والادب الكرديين، فتركيا لم تعترف لحد اليوم صراحة بخصوصية اللغة والثقافة الكردية، رغم انها تسير الان فعلا بهذا الاتجاه.

واعرب جليك عن امله في ان يسهم المؤتمر في تقريب المسافات بين شعوب الشرق الاوسط وان تعقد مؤتمرات مماثلة في مدن مهاباد (ايران) واربيل والسليمانية (العراق).

والتقت «الشرق الأوسط» ايضا بهرام ولد بكي مدير الثقافة الكردية في طهران الذي قدم محاضرة حول تاريخ الحركة الثقافية في كردستان ايران والذي قسمها الى اربع مراحل، بدأها بتاريخ تأسيس جمعية «ز.ك» الى حين تأسيس جمهورية مهاباد الكردية في ايران، والثانية من سقوط الجمهورية الى اندلاع الثورة الاسلامية، والثالثة من بداية الثورة الى عام 1991، والاخيرة كرسها للحديث عن مرحلة ما بعد ذلك العام الى حد اليوم.

وقيم ولد بكي المؤتمر بانه حدث كبير يجتمع في ظله مثقفون وادباء من اجزاء كردستان الاربعة لبحث شؤونهم الثقافية وكيفية بناء جسور التفاهم مع شعوب المنطقة، مشيدا بدور الحركة الثقافية التي يقوم بها مثقفو الداخل بهذا الاتجاه، واصفا اياهم بانهم يشكلون تيارا عصريا ومتمدنا يعمل من اجل التفاعل مع دنيا العولمة والامتزاج بحضارات الشعوب الاخرى. ودعا مسؤولي الدولة التركية الى اعادة النظر في مواقفهم من القضية الكردية في هذا البلد وحلها بالطرق الديمقراطية.

والتقت «الشرق الاوسط» ايضا بالسيدة نذيرة احمد عضو اتحاد ادباء دهوك (كردستان العراق) التي اعربت عن سعادتها بحضور هذا الحشد الكبير من مثقفي الاجزاء الاربعة من كردستان الذين جاءوا للتعارف والتباحث حول همومهم، معتبرة انعقاد المؤتمر نصراً كبيراً لارادة الشعب الكردي ونضاله من اجل الديمقراطية.

وقالت انها تزور كردستان تركيا لاول مرة في حياتها وانها كامرأة كردية كانت تحلم باجتماع مثقفي كردستان تحت خيمة واحدة مثلما نرى اليوم، شاكرة بلدية المدينة على استضافة هذا الحشد وتحقيق حلمها. اما فرهاد شاكلي الباحث والكاتب الكردي الذي الف عشرات الكتب حول التاريخ الكردي منها عدد من الدراسات باللغة الانجليزية، فقد قدم محاضرة حول الادب الكلاسيكي الكردي، معرفا في البداية بجزء من هذا الادب مستشهدا باحد ابرز الشعراء الكرد في القرون الماضية وهو الشاعر ملا جزيري (1570 م) واختار له بعض قصائده، مشيرا الى انه خلص من خلال ابحاثه عن الادب الكلاسيكي الى ان الشعراء الاكراد استخدموا في قصائدهم اوزاناً عروضية تختلف كثيرا في مضامينها عما استخدمه الشعراء العرب، مضيفا انه وجد اهتماما بالغا من الشعراء الاكراد بالمضامين الصوفية في قصائدهم.

وقال شاكلي انه اعتمد نظرية البنيوية في دراساته التحليلية لقصائد الغزل التي نظمها الملا الجزيري، مستخلصا في النهاية الى ان هذه القصائد تشكل وحدة واحدة في قصائد الجزيري، مضيفا ان هذا الشاعر الكبير اختار ادواته الفنية بكل دقة وعناية.

اما عن المؤتمر فقد دعا الى تعميم هذه الظاهرة الحضارية على الاجزاء الاخرى من كردستان وجعلها مشروعا شاملا يعتمد على اسس علمية معاصرة لبعث الثقافة والتراث الكرديين.

وحاولت الشرطة التركية عدة مرات الدخول الى قاعة المؤتمر الا ان المنظمين رفضوا ذلك بقوة وطلبوا اذنا من محافظ ديار بكر ومن القضاء.

وافادت مصادر المؤتمر بان المحافظ اتخذ موقفا حازما معارضا لتدخل الشرطة التي ظلت عناصرها مرابطة خارج القاعة.