الرهان الأميركي الجديد في العراق: حكومة جديدة قبل الدستور

مساعدو بوش يؤكدون أن النفوذ الأميركي سيظل قويا حتى بعد نقل السيادة إلى الحكومة المؤقتة بفضل «رافعات» الدعم والاستثمارات

TT

يعد الاعلان عن تاريخ محدد لاقامة حكومة عراقية مؤقتة وانهاء الاحتلال الأميركي الرسمي العراقيين بالسيادة التي يرفعون أصواتهم للمطالبة بها، ويوفر للرئيس الاميركي جورج بوش الرمز السياسي الذي يحتاجه: بدايات استراتيجية خروج يمكن أن يفسرها للناخبين الأميركيين.

ولكن كبار مساعدي بوش يخشون من امكانية ان يتحول انتقال السلطة السريع الى فقدان سريع للسيطرة على اعداد مسودة دستور وعلى الجهد الرامي الى جعل الديمقراطية تزدهر في بلد لم يتوفر لها أبدا ان نمت فيه. أما وقد أعاد بوش نفسه تحديد مهمة أميركا في العراق، من نزع أسلحة صدام الى «اقامة مجتمع ديمقراطي» يكون نموذجا لباقي دول الشرق الأوسط، فان أية خطة تضمن للعراق سيادته قبل تبني الديمقراطية الفتية تواجه مخاطر اخراج تلك المهمة الأعظم عن مسارها.

وقدر أحد أكبر مهندسي حملة بوش للاطاحة بصدام حسين الاسبوع الحالي، وبعد يومين من اللقاءات مع بول بريمر الحاكم المدني الأميركي في العراق، انه «رهان، ورهان هائل»، مضيفا «لكنه من اليسير المبالغة في تقدير مستوى السيطرة التي نتمتع بها على الأحداث حاليا، والمبالغة بما سنحتفظ به». واذا ما أفلحت الخطة يمكن لبوش أن يعلن نهاية للاحتلال الأميركي الرسمي للعراق، وليس الوجود العسكري الاميركي، بحلول أوائل الصيف المقبل، وبالذات في الوقت الذي تتجه الحملة الرئاسية نحو مرحلتها النهائية والحاسمة.

ولكن المسؤولين الأميركيين يتوقعون ان يبقى عشرات الألوف من قوات التحالف في اطار «دعوة» الحكومة الجديدة، وما من أحد يمكنه ان يتكهن ما اذا كانوا سيواجهون تمردا عنيفا ومهلكا، ربما يستهدف قوات الأمن العراقية أيضا. وسيجعل ذلك الأمور أصعب بالنسبة لبوش في ما يتعلق بوصفه انتقال السلطة الى حكومة جديدة وانهاء وجود القوات الأميركية باعتباره نجاحا غير كامل.

وبغض النظر عن استمرار وجودها العسكري، فان الولايات المتحدة ستواصل عرض عضلاتها المالية، حيث تبرعت بمبلغ 20 مليار دولار كمساعدة لاعادة الاعمار ومليارات أكثر من دول أخرى على شكل استثمارات خاصة في البلاد. ولكن توليفة اشتداد التمرد والتآكل السريع للدعم العراقي للاحتلال الأميركي تركت للرئيس بوش خيارات محدودة في مجال تخفيف قبضته على البلد الذي فتحه ويحاول الآن اعادة اعماره.

وهكذا، ففي الاسبوع الماضي أعادت ادارة كارهة للاعتراف بأية شكوك بشأن حكمة قراراتها، صياغة استراتيجيتها على نحو أساسي.

ورفض المسؤولون الأميركيون موقف النقاد الذين يشيرون الى ان العملية ربما كانت مدفوعة بعامل حاجات بوش الانتخابية، باذلين جهدا عظيما لتصوير طريقة المعالجة الجديدة باعتبارها عراقية الولادة ومبادرة من جانب الزعماء العراقيين انطلاقا مما سمته كوندوليزا رايس، مستشارة الأمن القومي، «مطالبة ملحة» لنقل أسرع للسلطة.

غير أنه حتى أسابيع قليلة ماضية كان بول بريمر رئيس الادارة المدنية الاميركية في العراق يؤكد، داخليا، ان العراقيين لم يكونوا مستعدين لتولي السلطة الكاملة، وان نقلها قبل اقامة الشروط الأسلسية للنظام الديمقراطي العراقي، يعني احلال الفوضى أو ما هو أسوأ من ذلك.

وخلال لقاءاته المفاجئة في البيت الأبيض يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين نقل بريمر أنباء تفيد بأن مجلس الحكم العراقي غير الموحد في موقفه كان في حالة تمرد بشأن خطة اعداد مسودة دستور ونقل السلطة بعد انتخابات وطنية. وعلى الرغم من ان هذه العملية كانت تمثل معالجة مباشرة ومنطقية ومتجذرة عميقا في تاريخ عمليات الاحتلال لليابان وألمانيا، الا انه ما يزال من المتعذر الدفاع عنها في شوارع بغداد.

وقال أحد كبار المسؤولين وهو يشير الى الكيفية التي أعد بها الجنرال دوغلاس ماك آرثر، الذي قاد الاحتلال الذي دام سبع سنوات لليابان، مسودة دستور البلد المهزوم بحكومة مكيفة منصبة أميركيا، قال «كانت الفكرة الأولية أساسا (تمثل) نموذجا مخففا من طريقة معالجة ماك آرثر».

وكانت خطة بوش الأصلية أقل استبدادا بقليل من طريقة ماك آرثر، حيث دعت العراقيين أنفسهم الى صياغة الدستور. ولكن كل الأمور المعقدة، من قبيل ما اذا سيكون العراق دولة علمانية أم اسلامية وكيفية حماية حقوق الأقليات مثل الأكراد، كان سيدقق بها على نحو وثيق من جانب الأميركيين. وتقيم الاستراتيجية الجديدة حكومة قبل الدستور. وتنقل السيادة الى الزعماء العراقيين قبل حدوث انتخابات وطنية، وربما قبل ان يكون واضحا ان حكومة مؤقتة تتشكل من اجتماعات المدن أو انتخابات المحافظات قد أقامت الشرعية.

وسيعمل البلد في ظل اطار قانوني أساسي ـ اطار يتوقع ان يحدد مبادئ حقوق الانسان ومساواة جميع الطوائف الدينية ـ يتعين ان يكون معتمدا الى حين صياغة دستور للبلاد. وقال مسؤول كبير في الادارة ظهر السبت الماضي انه حتى الآن يبدو أعضاء مجلس الحكم متوافقين على «قيم مشتركة ويشعرون بارتياح كبير لذلك». غير ان حقوق الأقليات لن تقام دستوريا حتى الآن. فمسألة الفيدرالية ـ الدرجة التي تتحكم بها بغداد ستطبق في محافظات بلد متداخل ـ ستكون غير محلولة. وستكون العلاقة بين الشريعة الاسلامية والقانون الوطني غير محددة أيضا.

ويؤكد مساعدو بوش على أنه حتى بعد نقل السيادة الى الحكومة المؤقتة، فان النفوذ الأميركي سيكون قويا. فجيش الولايات المتحدة ستكون له قوة عسكرية كبيرة. كما ستكون الـ20 مليار دولار التي أقرها الكونغرس لاعادة الاعمار تحت سيطرة الأميركيين، وسيوجه تدفقها نحو التأثير في الأحداث وفقا لرغبات واشنطن. وستؤكد الادارة على ان المستثمرين الأميركيين سيطالبون بمحاكم مستقلة وحكومة علمانية واستقرار سياسي قبل ان يغامروا بالمليارات لاعادة بناء الاقتصاد العراقي.

وقال مسؤول كبير في البيت الأبيض الاسبوع الحالي «ستكون لدينا رافعات أكثر مما تعتقدون، وربما أكثر مما يعتقد العراقيون».

ولكن اذا كانت هناك دروس في الاحتلال حتى الآن، فانها تختزل على النحو التالي: يتطلب أمر الاطاحة بدكتاتور تخطيطا أقل مما تتطلبه اقامة نظام ديمقراطي. لقد كان غزو العراق الى حد كبير في اطار تحكم الغزاة. أما اقامة حكومة ديمقراطية، بالتحديد، فهو بيد الناخبين الجدد، وهو عرضة للأعمال التي يقوم بها البعثيون والجماعات الأجنبية التي يبدو ان حملتها الارهابية تكسب المزيد من القوة كل شهر.

لقد أصر الرئيس بوش على انه «لا يمكن تصور» ان القوات الأميركية سترحل ما لم يتحقق نظام ديمقراطي مستقر. والسؤال الذي لم يجب عنه أحد في البيت الأبيض حتى الآن، هو كيف ستتوفر له معرفة ان تلك اللحظة قد حانت.

*خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»