خفايا زيارة بوش إلى بغداد: إشارات مزيفة في أبراج المراقبة الجوية وهبوط وإقلاع بدون أضواء

الرئيس الأميركي أبلغ زوجته لكنه لم يبلغ والديه.. والصحافيون المرافقون جردوا من هواتفهم الجوالة وأخذت منهم تعهدات بعدم تسريب النبأ

TT

فيما كانت طائرة الرئاسة الاميركية (اير فورس 1) في طريقها الى العراق، بعدما احيطت عملية إقلاعها بإجراءات سرية مطلقة استخدمت خلالها اشارات مزيفة في ابراج المراقبة، مرت طائرة البوينغ 747 على مقربة من طائرة للخطوط الجوية البريطانية ارسل قائدها إشارة بالراديو متسائلا عما اذا كانت الطائرة التي يراها هي طائرة الرئاسة الاميركية. أجاب قائد طائرة الرئيس جورج بوش، الكولونيل مارك تيلمان، بعبارة ادرك معها قائد طائرة الخطوط الجوية البريطانية على الفور ان ثمة إجراء سريا في الأمر، لذا لم يستمر في الاستفسار. وبدأت الحلقة المقربة من الرئيس تتداول فكرة الزيارة قبل خمسة اسابيع. فخلال جولته الآسيوية في اكتوبر (تشرين الاول) الماضي طلب الرئيس بوش من أقرب مساعديه محاولة ترتيب زيارة له الى بغداد تتزامن مع «عيد الشكر». ونظرا لحساسية الموضوع فان هؤلاء المساعدين لم يبلغوا حتى نوابهم برغبة الرئيس. وقال مدير الاتصالات بالبيت الابيض دان بارتليت «قلة قليلة خارج هيكل القيادة كانت على علم بالترتيبات اللوجستية للزيارة». واضاف بارتليت على متن الطائرة الرئاسية وهي في طريقها الى بغداد، محذرا «اذا تسرب خبر هذه الزيارة ونحن في الجو سنعود من حيث اتينا». وخلال رحلة العودة قال بوش للصحافيين «كان علي ان ابلغ عائلتي، اي زوجتي وابنتي، بأنني لن اكون معهم في عيد الشكر.. طمأنتهم الى انني ما كنت لأقوم بالزيارة لو لم يكن قد اعد لها وخطط لها جيدا». واضاف انه طلب من عائلته ان يحتفظوا له «بفتات» غداء «عيد الشكر» وحتى والدا الرئيس، الرئيس السابق جورج وباربرا بوش، لم يبلغا مسبقا بالزيارة. فعندما وصلا الى مزرعة ابنهما في كروفورد ابلغا بأن ابنهما غادر في الليلة السابقة. والقلة من المساعدين الذين كانوا على علم بالزيارة كانوا يتحدثون هاتفيا حول ترتيباتها وسط سرية مطلقة. وصرح مسؤول في ادارة بوش بأن بعض اعضاء فريق الاستخبارات الخاص بالرئيس كان يعتقد انه لا يزال في مزرعته بكروفورد استعدادا لاستقبال والديه بمناسبة عيد الشكر. ويرى مراقبون ان هذا الجانب يعكس جزءا واحدا فقط من الاستعدادات غير المألوفة وإجراءات السرية المطلقة التي احاطت بهذه الزيارة غير العادية. يضاف الى ذلك ان سبعة صحافيين فقط، أي نصف عدد الصحافيين الذين يرافق الرئيس عادة في الرحلات، قد تلقوا إخطارا قبل بضع ساعات فقط، وجرى نقلهم الاربعاء في مدرج مؤمن ومنعزل بالكلية الفنية لولاية تكساس في واكو، وهو المدرج الذي يستخدمه الرئيس بوش خلال اقامته بمزرعته في كروفورد. وحظر على الصحافيين إبلاغ اسرهم او الجهات التي يعملون بها حول الرحلة، كما ابلغوا بأنهم سيتسلمون هواتف جوالة لدى وصولهم الى بغداد. يشار الى أن الصحافيين كانوا قد ابلغوا في وقت سابق بأن الرئيس سيقضي فترة عطلة «عيد الشكر» في مزرعته وأكد لهم المسؤولون انه لن يكون هناك ما يستوجب التغطية الصحافية. ولدى الإعلان عن خلو جدول الرئيس بوش من أي نشاط رسمي خلال هذه الفترة آثر الصحافيون الذين يعملون في التغطية الصحافية الخاصة بالبيت الابيض قضاء عطلة «عيد الشكر» مع اسرهم. وحاول البيت الابيض صرف انتباه الصحافيين بإبلاغهم بان الرئيس بوش سيجري مكالمات هاتفية خلال العطلة الرسمية مع بعض الجنود العاملين ضمن القوات الاميركية في العراق. كما ان نائبة السكرتير الصحافي للبيت الابيض، كلير بيوكان، اعلنت الاربعاء خلال لقاء لها مع صحافيين ان الرئيس سيستقبل والديه في مزرعته. وعادة يستقل بوش من مزرعته طائرة الهليكوبتر الرئاسية التابعة للبحرية «مارين 1». كما يتنقل عادة في موكب يضم 12 سيارة على الاقل بما في ذلك سيارات الطاقم الذي يعمل معه وسيارة للاتصالات واخرى للاسعاف. لذا، فإن بوش نقل في الغالب الى المدرج الذي اقلعت منه الطائرة في واكو على متن سيارة بدون رقم او شارات رسمية بصحبة عدد محدود من افراد الفريق الامني. وطبقا للوصف الذي ادلى به بوش للصحافيين في وقت لاحق، فإنهم تحركوا في سيارة عادية ذات زجاج مظلل وتسلل وهو يعتمر قبعة بيسبول يتدلى الجزء الأمامي منها على جبهته، تماما مثلما فعلت كوندوليزا رايس، مستشارته لشؤون الامن القومي. فقد كانا يبدوان كأي شخصين عاديين بصحبة آخرين. ومن جانبه قال دان بارليت، مدير الاتصالات بالبيت الابيض، ان بوش خرج من مزرعته على نحو يجعل من الصعب على أي شخص ينتظر خارجها إدراك أو مجرد ملاحظة مغادرته. جدير بالذكر ان مايك ألن، كاتب جزء من هذا التقرير والذي كان بين من وقع عليهم الاختيار لمرافقة الرئيس في رحلته وإطلاع زملائه الذين لم يحظوا بالسفر في الرحلة، بلغ بالزيارة قبل اقل من اربع ساعات من موعد الاقلاع. وحسب آلن فانه كان يتحدث من هاتفه الجوال أمام ثانوية كروفورد حيث أقام البيت الابيض مركزا إعلاميا في صالة الالعاب الرياضية على بعد سبعة اميال من مزرعة الرئيس بوش. وقال ان ستيف آتكيس، نائب مدير قسم الرحلات الرئاسية، قد طلب منه الصعود الى شاحنة «بيك اب» من نوع «دودج» مستأجرة. واضاف ان آتكيس «قاد الشاحنة نحو موقف سيارات محجوب عن الانظار وطلب مني الخروج من السيارة قائلا ان هناك من يريد التحدث معي». وخرج بارتليت من سيارته وهو يبتسم بخبث بسبب اللقاء المفاجئ.

وقال: «لدي خبر. الرئيس سيذهب الى بغداد». ويمضي آلن قائلا «اوضح (بارتليت) انني سأذهب، وانني لا يمكنني ابلاغ اسرتي او مكان عملي بالأمر. وكانت الساعة 3.45 بتوقيت وسط الولايات المتحدة، وشدد آتكيس على ضرورة تغيير ملابسي والالتقاء به في الساعة الخامسة والنصف صباحا في موقف السيارات قرب ملعب جامعة بالور حيث يتولى فريق الخدمات السرية والمساعدون العسكريون تجميع الصحافيين».

وكان هناك العديد من مصوري وكالات الانباء والمجلات، الذين كانوا على قناعة بأنهم ضحايا مزحة عملية، يخططون لما سيفعلونه بآتكيس عندما يبلغهم بحقيقة المزحة. وانضمت الى موكب السيارات المكون من سيارتين الذي انطلق من ملعب «السوفت بول»، سيارة جيب بيضاء من طراز غراند شيروكي يقودها بلاك غوتسمان المساعد الشخصي للرئيس، بينما كان نائب رئيس هيئة موظفي البيت الابيض جوزيف هاغين يجلس في وضع حماية وبارتليت في المقعد الخلفي.

الجدير بالذكر ان ابسط تحركات بوش، حتى الذهاب الى مقهى كروفورد او إلقاء كلمة في المبنى المجاور للبيت الابيض، تتم بصحبة حاشية من 50 شخصا او اكثر. غير ان عددهم هذه المرة كان 12 شخصا. وقاد آتكيس السيارة، بدون اجهزة امن، الى مطار واكو، وسط ازدحام ساعة الذروة وهي تجربة نادرة بالنسبة للبيت الابيض. وقد تم إغلاق ستائر النوافذ في قمرة الصحافيين في طائرة الرئاسة، واغلق بابها، ولذلك لم يشهد الصحافيون وصول الرئيس ولا الاشخاص الذين يصطحبونه ولا الاسلحة التي يحملونها. وعلم الصحافيون ان الرئيس في الطائرة عندما سمعوا اصوات محرك الطائرة ترتفع.

وبعد اقلاعها من تكساس، توجهت الطائرة شبه الخالية الى قاعدة اندروز الجوية في ميريلاند لإعادة التزود بالوقود ولتضم رئيس موظفي البيت الابيض اندرو كارد للفريق. وخلال التزود بالوقود انضم للمجموعة 6 صحافيين اخرين ـ اثنان من وكالات الانباء وفريق من شبكة فوكس التلفزيونية ـ وكانوا قد التقوا في ساحة وقوف السيارات في فندق هوليداي ان، وقد صادر المسؤولون كل اجهزتهم الالكترونية من الكاميرات التلفزيونية الى البيجرز، كي لا يقعوا في اغراء تصوير حظيرة الطائرات السرية للغاية، حيث سينضمون الى فريق الرئيس.

وهناك طائرتان رئاسيتان كل منهما تعرف باسم «ايرفورس 1» عندما يكون الرئيس بها. ويطلق على الثانية «الاحتياط» ونادرا ما يمكن مشاهدتهما معا. وفي تلك الليلة، كان من المفروض ان يستخدم الرئيس الحظيرة السرية لطائرة الرئاسة في قاعدة اندروز الجوية للانتقال الى الطائرة الثانية، التي كانت مزودة بالوقود والطعام ومستعدة للطيران. وتوجهت طائرة بوش الى الحظيرة، وارضيتها مدهونة باللون الابيض، في حوالي الساعة 10.45 بتوقيت الساحل الشرقي. وخلال انتقاله بين الطائرتين شاهد بوش الصحافيين. وكان الضجيج في الحظيرة مرتفعا للغاية، بحيث لم يكن من الممكن سماعه وهو يتحدث، ولكن رفع يده الى اذنه على طريقة من يتحدث في الهاتف، وحرك شفتيه بعبارة «لا مكالمات، فهمتم؟». واكد النقطة مرة اخرى بتحريك يديه الى الأمام والوراء قاصدا لا. ونفذ علامة «القطع» على رقبته ثم حرك شفتيه مرة اخرى بعبارة «لا مكالمات».

واقلعت طائرة الرئاسة الى بغداد بعد 10 دقائق، ونام بوش بعد 20 دقيقة من اقلاعها. وارتدى معظم طاقم الرئيس سترات وبنطلونات مموهة، لاسباب امنية ولعدم افساد الصور. وبعيد الساعة الخامسة صباحا بتوقيت بغداد، وبعد 10 ساعات من الانطلاق من قاعدة اندروز الجوية هبطت الطائرة في بغداد.

وفي مطار بغداد الدولي تناول الرئيس طعام العشاء مع القوات الاميركية وقال «كنت ابحث عن غذاء ساخن في مكان ما. ولم استطع التفكير في مجموعة افضل من الناس لقضاء عشاء عيد الشكر معهم اكثر منكم». وقبل ذلك ذكر بول بريمر، الحاكم المدني الاميركي للعراق، للقوات ان اكبر مسؤول بين الحضور يجب ان يقرأ بيان بوش بمناسبة عيد الشكر. ونظر نحو منطقة محظورة وسأل «هل هناك مسؤول اكبر منا؟». عندها تقدم بوش الذي كان يرتدي سترة عسكرية نحو القوات الذين وقفوا وهم يصفقون ويحيونه، واغرورقت عيناه بالدموع. وقال بوش «معي رسالة بالنيابة عن اميركا: نشكركم لخدمتكم، ونفخر بكم، واميركا تقف بحزم وراءكم». وكان معظم الجنود، وعددهم 600 جندي من الفرقة الاولى المدرعة التابعة للجيش والفرقة 82 المحمولة جوا. وبسبب الاجراءات الامنية لم يغادر بوش مطار بغداد، الذي بقي فيه لمدة ساعتين ونصف الساعة. ولم يعلن عن الزيارة الا بعد اقلاع طائرة الرئاسة من بغداد عائدة الى الولايات المتحدة.

وكانت طائرة الرئاسة وهي من طراز بوينغ 747 مجهزة بقدرات مضادة للصواريخ في غاية السرية، قد هبطت واضواؤها مطفأة وستائر نوافذها مغلقة تفاديا لهجمات صاروخية، خاصة ان طائرة تابعة لشركة «دي اتش ال» لنقل الطرود البريدية تعرضت اخيرا الى صاروخ ارض جو وهي تقلع من مطار بغداد وعادت وهبطت فيه اضطراريا. وقد استغرقت الرحلة 30 ساعة من بينهما 27 ساعة في الجو. وذكر مسؤول في البيت الابيض ان الرئيس كان يتحدث عن الذهاب الي العراق منذ عدة اسابيع، وان القرار اتخذ يوم الاربعاء خلال محادثة هاتفية مشتركة شارك فيه نائب الرئيس ديك تشيني وكبار المسؤولين في البيت الابيض. وتعتبر اول زيارة لرئيس اميركي للعراق مبادرة علاقات عامة هدفها رفع معنويات القوات واظهار ان الموقف الامني هناك قد تحسن. كما التقى بوش ايضا مع اعضاء مجلس الحكم العراقي. وقال جنرال القوات الجوية المتقاعد توم ماكنرني وهو طيار مقاتل سابق ان الزيارة «تبعث بإشارة الى القوات والشعب الاميركي».

*خدمة «واشنطن بوست» و«لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»