الكشف عن خطط سرية لملاحقة بن لادن بدأت قبل سنوات من هجمات سبتمبر: الاستخبارات الأميركية خططت لاعتقال زعيم «القاعدة» في كهف بعد اختطافه بواسطة 30 مقاتلا في مزرعته

فريق من أفغان قبليين يتبعون بن لادن في أفغانستان منذ التسعينات * «سي. آي. إيه» شعرت بالمرارة من إلغاء البيت الأبيض غارة في يونيو 1998 خوفا من خسائر بين المدنيين

TT

ترتبط بذور الخطة الرسمية الأولى للاستخبارات المركزية الأميركية لاعتقال أو قتل أسامة بن لادن بملاحقة ملحة أخرى لمير أيمال كاسي، المهاجر الباكستاني الذي قتل اثنين من موظفي وكالة المخابرات المركزية بوابل من الرصاص الذي أطلقه من بندقيته الأوتوماتيكية على سيارات كانت تسير عند مدخل مكاتب الوكالة في لانغلي عام 1993.

وبعد سنوات عدة من اطلاق الرصاص بقي كاسي هاربا في مناطق حدودية تمتد بين أفغانستان وباكستان وايران. ومن مكاتبه في لانغلي طلب مركز مكافحة الارهاب في وكالة الاستخبارات المركزية من محطته في اسلام آباد المساعدة على تجنيد عملاء يمكن أن يكونوا قادرين على ملاحقة كاسي والقاء القبض عليه. وكلف الضباط المعنيون بالقضية مجموعة من مقاتلي القبائل الأفغان ممن كانوا قد عملوا مع وكالة الاستخبارات المركزية في حرب العصابات في سنوات الثمانينات ضد القوات السوفياتية المحتلة في أفغانستان.

وقد أقام الفريق المعتمد على العلاقات العائلية، والذي أعطي الاسم السري «أف دي/ترودبنت» مقرات اقامة حول مدينة قندهار. وكانوا مقاتلين ملتحين وصارمين، وغالبا في فرق من عشرة أفراد أو نحو ذلك، يجولون مناطق جنوب أفغانستان في عربات ذات اربع عجلات، ويختلطون بسهولة مع المجتمع القبائلي ذي السمة العسكرية في المنطقة.

وفي السنوات التي سبقت الهجمات الارهابية في الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) عام 2001، نفذت وكالة الاستخبارات المركزية مطاردة بشرية سرية لابن لادن ولكنها لم تكن ناجحة. وقد اعتمدت في البداية على مجموعة عملاء القبائل الأفغان، وتوسعت، في وقت لاحق، لتضم عملاء وحلفاء آخرين، وخصوصا زعيم حرب العصابات الاسطوري أحمد شاه مسعود. ولكن البحث بات يقع في شرك احباطات متبادلة، واضاعة فرص، ونزاعات سياسية تتزايد مرارة في واشنطن في عهد كلينتون بين البيت الأبيض ووكالة الاستخبارات المركزية.

وقد كشفت خطة طموحة لفريق ترودبنت لاختطاف بن لادن من فراشه واعتقاله في كهف أفغاني، عن جرأة وكالة الاستخبارات المركزية، على الرغم مما رآه العاملون باعتباره تفويضا مقيدا من الرئيس. وفي الوقت نفسه طرح عجز الوكالة عن تحديد مكان بن لادن أو القاء القبض عليه أسئلة محددة من البيت الأبيض حول فاعلية الوكالة. ويصف هذا التقرير، وهو تاريخ تفصيلي لملاحقة بن لادن قبل الهجمات الارهابية عام 2001، وللمرة الأولى خطط وكالة الاستخبارات المركزية المجهضة الأولى لاعتقال بن لادن في مزرعته بقندهار، والمحاولة الأخرى لاستخدام صواريخ الكاتيوشا ضده، والصراع الأخير للعمل مع مسعود، وكلها كانت عبثا. وهو يعتمد على عشرات المقابلات مع مشاركين ومسؤولين في الولايات المتحدة وأفغانستان وباكستان والسعودية، وكذلك وثائق وتسجيلات وذكريات شخصية حول برنامج العمليات السرية لوكالة الاستخبارات المركزية في أفغانستان، الذي أعد في الثمانينات من أجل طرد القوات السوفياتية المحتلة، وأخيرا القاء القبض على بن لادن أو تعطيل نشاطاته.

وعندما شرع فريق ترودبنت بعمله من أجل العثور على كاسي، قام واحد أو اثنان من كبار أفراد العائلة باتصالات مباشرة مع وكالة الاستخبارات المركزية. وزودهم الضباط العاملون من سفارة الولايات المتحدة في اسلام آباد بالمال والبنادق والألغام والدراجات البخارية والسيارات وأجهزة الاستماع ومعدات الاتصال الآمنة.

وسوية أعدوا خطة جريئة لالقاء القبض على كاسي ونقله الى الولايات المتحدة لمحاكمته هناك. واذا ما عثر العملاء الأفغان على كاسي سيحتجزونه الى أن تصل القوات الخاصة الأميركية سرا الى أفغانستان لتنقل الهارب جوا. ومن خلال عمل فريق «ترودبنت» كقوة استطلاع، حددت وكالة الاستخبارات شريط هبوط في صحراء قرب قندهار يمكن أن يستخدم لهذه العملية السرية من النقل الجوي. وصادق البيت الأبيض على الخطة، وارسل الرئيس كلينتون سرا فريق قوات خاصة الى جنوب أفغانستان للتوثق من أعمال التنسيق وملاءمة الشريط الجوي البديل.

وفي النهاية وجد كاسي في مكان آخر. ففي مايو (أيار) عام 1997 توجه رجل من البلوش الى القنصلية الأميركية في كراتشي وأبلغ أحد الموظفين بأن لديه معلومات حول كاسي. وقد أخذ الى ضابطة مخابرات برتبة صغيرة وكانت قائدة القاعدة في المدينة. وسلمها الرجل طلبا للحصول على رخصة سياقة باكستانية كتبت حديثا من جانب كاسي باسم مستعار. وكانت تحتوي على صورة وبصمة ابهام كاسي مما يدلل على هوية كاسي.

وبعد ثلاثة أسابيع ألقى فريق من ضباط الاستخبارات الاميركية والاستخبارات الباكستانية وموظفي مكتب المباحث الفيدرالي (اف. بي. آي) القبض على كاسي في فندق باكستاني، ونقلوه جوا الى الولايات المتحدة واحتجزوه لغرض محاكمته. (وقد أدين بارتكاب جريمة قتل عام 1997، وحكم عليه بالاعدام عام 1998، نفذ الحكم في ولاية فرجينيا يوم الرابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2002).

وفي الأسابيع التي أعقبت القاء القبض على كاسي طرح سؤال جديد داخل مركز مكافحة الارهاب في وكالة الاستخبارات المركزية: ما الذي سيكون عليه مصير موجودات فريق ترودبنت الذي يمتلك العدة والمال؟ فالعملاء كانوا قد أعدوا ملفات كثيرة حول أماكن كاسي، ولكن أيا منها لم يفلح. وأخيرا فان الفريق لم يلعب دورا مباشرا في اعتقال كاسي. وعلى الرغم من هذا السجل المثير للتساؤل، فانه من المخجل تركهم سائبين، كما كان بعض ضباط لانغلي يعتقدون.

وبعد سنوات ما يزال أولئك الذين شاركوا في الحملة السرية ضد بن لادن لا يتفقون مع أسباب اخفاقها ومن المسؤول عن ذلك.

وفي الخطوط الأمامية في باكستان وأواسط آسيا، كان ضباط الاستخبارات المركزية العاملون هناك يشعرون بأن لديهم احساسا ملحا بالخطر الذي يشكله بن لادن قبل الحادي عشر من سبتمبر. غير ان عددا من الاقتراحات المثيرة للجدل بشأن مهاجمة بن لادن رفضت من جانب المسؤولين في لانغلي أو البيت الأبيض الذين كانوا يخشون أن تكون الخطط قد أعدت على نحو ضعيف، ولن تؤدي فعلها، ويمكن أن تورط الولايات المتحدة في الحرب الأهلية المبهمة في أفغانستان عندئذ. وفي أحيان أخرى تأجلت خطط لملاحقة أو مهاجمة بن لادن أو ألغيت بعد مجادلات داخل مجلس الأمن القومي في عهد كلينتون.

وفي لانغلي كان ضباط المخابرات المركزية ينظرون الى فريق كلينتون باعتباره حذرا بشكل مبالغ فيه، ومهووساً بالقضايا الشرعية وغير مستعد للاقدام على مخاطر سياسية في أفغانستان عبر تسليح أعداء بن لادن الأفغان والمجابهة المباشرة مع ميليشيات طالبان الاسلامية المتطرفة. ولكن في البيت الأبيض كان صناع القرار السياسي ومحللو مكافحة الارهاب يرون، في بعض الاحيان، جهود وكالة المخابرات المركزية باعتبارها متواضعة وساذجة وغير فعالة ومحددة في اطار حماية الذات.

وكانت بعض جهود الوكالة منصبة على جمع المعلومات عن أماكن بن لادن. وتحولت جهود أخرى الى عمليات سرية بهدف اعتقال أو قتل زعماء شبكة القاعدة التي يتزعمها بن لادن. وكان كلا المسارين ينفذان بسرية تامة بشكل رئيسي من جانب ضباط الخدمة السرية في مركز مكافحة الارهاب بوكالة المخابرات المركزية وقسم الشرق الأدنى في مديرية العمليات بالوكالة.

* المخاطر الجسدية والسياسية

* مع اكتمال الإعداد لعملية اعتقال بن لادن بدأ مركز مكافحة الإرهاب يهتم أكثر فأكثر بـ«مزرعة تارناك». فهذا المجمع الذي تبلغ مساحته حوالي 100 فدان معزول عند حافة الصحراء حيث يبعد عن مطار قندهار حوالي 3 أميال. وكان بن لادن ينام في بعض الليالي مع واحدة من زوجاته. وكان يتحدث بشكل مفتوح عبر هاتف مربوط بقمر صناعي. ولم يكن سوى بضعة حرس لحمايته. طرح السؤال التالي آنذاك: هل بإمكان عملاء «سي آي إيه» العشائريين مسلحين بما فيه الكفاية الاغارة على بيت بن لادن وأخذه من سريره؟

ونظم العملاء فريقا للهجوم يتكون من 30 مقاتلا تقريبا. وقد حددوا نقطة الانطلاق حيث سيجمعون كل سياراتهم وهم سيقودون إلى نقطة تجمع أخرى تبعد عدة أميال عن مزرعة تارناك.

كان مفترضا أن ينطلق الجزء الأساس من فريق المهاجمين بالمشي عبر الصحراء حوالي الساعة الثانية صباحا. وهم قد وجدوا طريقا خاليا يمكنهم من خلال اتباعه تجنب الألغام الأرضية وفيه أخاديد عميقة تسمح بتغطية تقدمهم. وهم سيقومون بتجاوز السور المضروب حول المجمع عن طريق الزحف عبر خندق خاص بتصريف المياه يقع بجانب المطار.

كذلك كان مقررا أن تقوم مجموعة أخرى بالتسلل إلى البوابة الأمامية في سيارتين، وهم سيحملون معهم مسدسات مزودة بكواتم الصوت لقتل حارسين يقفان عند مدخل البوابة، بينما سيقوم مهاجمون آخرون باحتلال الأكواخ الموجودة هناك حيث تنام زوجات بن لادن، وحالما يجدون الرجل الطويل الملتحي سيقومون بوضع الأغلال في معصميه ثم سحبه إلى البوابة الأمامية ثم نقله بسيارة «لاند كروزر» ثم تأتي سيارات أخرى لمرافقة المسيرة صوب الكهف الذي يبعد ثلاثين ميلا عن المزرعة.

وكانت صور الأقمار الصناعية والتقارير الأرضية قد أوضحت أن عشرات من النساء والأطفال يعيشون داخل مزرعة تارناك. وطلب مركز لانغلي من الفريق العشائري معلومات عن كيفية تنفيذ هجومهم بحيث يستطيعون تقليل إصابة غير المشاركين في الدفاع خلال الهجوم.

وفي واشنطن قام منسق مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض بزيارة إلى لانغلي في أواخر ربيع 1998 للالتقاء بأوكونيل نظيره من «سي آي إيه» فقام الأخير بإخباره عن تفاصيل الهجوم على مزرعة تارناك وكم ستكون تكاليفها. كذل تحدث أوكونيل عن المخاطر السياسية بضمنها مشكلة وقوع ضحايا محتملين بين المدنيين.

وتصرف بعض أعضاء فريق مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض بتشكك. فهم رأوا أن عملاء «ترودبنت» ليسوا أكثر من مجاهدين معادين للاتحاد السوفياتي وهم قد تجاوزوا منذ سنوات أعلى لياقاتهم الجسدية وقد يسعون من وراء ذلك إلى الحصول على أموال من «سي آي إيه»، بينما هم سيقللون من درجة المخاطر التي ستواجههم على الأرض. كذلك خاف بعض مسؤولي البيت الأبيض من وقوع قتلى بين النساء والأطفال وقد يتمكن بن لادن من النجاة، ومذبحة من هذا النوع ستلحق أضرارا كبيرة بمصالح الولايات المتحدة في العالم الاسلامي وفي أنحاء أخرى من العالم.

قام المسؤولون الكبار في «سي آي إيه» بمراجعة الغارة المقرر إجراؤها في يونيو (حزيران) 1998، وكشفت النقاشات التي دارت آنذاك عن وجود شكوك بين بعض الضباط الكبار في قسم «إدارة العمليات»، وهذا ما أدى إلى تراجع الجميع عن دعم الغارة المخطط لها على مزرعة تارناك.

وحينما اتخذ ذلك القرار لم يكن هناك أي حماس للخطة في البيت الأبيض، وقال كلارك سائلا زملائه في «سي آي ايه» داخل البيت الأبيض: «هل أنا لم أخبَر بشيء ما من العملية؟ ألن يقوم هؤلاء المهاجمون بحصد الجميع قبل وصولهم إلى السور؟».

أرسِل قرار التراجع عن تنفيذ الخطة إلى إسلام آباد وأخبر الفريق العشائري بتأجيل تنفيذها، وان إحياءها ربما سيجري في فترة لاحقة. مع ذلك شُجع العملاء العشائريون في البحث عن فرص أخرى للقبض على بن لادن بعيدا عن تارناك، ومن بين الوسائل المقترحة نصف كمائن له بحيث لا تسبِّب وقوع خسائر بين المدنيين.

شعر بعض ضباط «سي آي إيه» المشاركين في التخطيط للعملية بالمرارة لقرار تجميد تنفيذها فهم كانوا مؤمنين بأن عملية الاختطاف ستنجح. ولم يمض سوى أقل من شهرين حتى قام فريقان من «القاعدة» يوم 7 أغسطس (آب) بهجومين انتحاريين ضد سفارتين للولايات المتحدة في أفريقيا. ونتيجة لذلك قُتل 213 شخصا في نيروبي بكينيا مع جرح 4000 شخص. أما في دار السلام بتانزانيا فقد أدى الهجوم إلى مقتل 11 شخصا وإصابة 85 بجروح. ولم تمض سوى عدة أشهر حتى أصدرت محكمة نيويورك الفيدرالية دعوى ضد بن لادن تتهمه فيها بمسؤوليته عن العمليتين وعن جرائم أخرى.

وفي مركز لانغلي حيث كان بعض محللي «سي آي ايه» يراقبون على شاشة التلفزيون صورا عن القتلى وعمليات الإنقاذ في أفريقيا، صرخت محللة تعمل في الوحدة المتخصصة بأسامة بن لادن بوجه تينيت رئيس وكالة الاستخبارات المركزية: «أنت مسؤول عن مقتل هؤلاء الناس، لأنك لم تقم بشيء على ضوء المعلومات التي كانت في حوزتنا حينما كان بإمكاننا أن نقبض عليه». منذ ذلك الوقت رفع بن لادن من عدد حراسه بشكل درامي. وتخلى عن هاتفه المربوط بالقمر الصناعي ثم انتقل إلى منطقة أكثر تحصينا داخل أفغانستان. وأدى ذلك إلى تصاعد مشاعر النقمة والغضب داخل شبكة البيروقراطية في دوائر «سي آي ايه». وفي 20 أغسطس وبناء على التقارير التي وردت عن انعقاد لقاء يضم بن لادن وعدد من قادة «القاعدة» أمر كلينتون بإطلاق 75 صاروخا من نوع كروز من غواصة في البحر العربي ضد معسكرات التدريب التابعة لتنظيم «القاعدة» في شرق أفغانستان، مما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 21 متطوعا باكستانيا بينما لم يصب بن لادن بشيء.

مع حلول منصف سنة 1999 أصبحت هناك قناعة مشتركة بين البيت الأبيض ومقر «سي آي إيه» في لانغلي مفادها أن «مركز مكافحة الإرهاب» أصبح معتمدا كثيرا على عملاء «ترودبنت» العشائريين. وأطلق أحد مساعدي تينيت على هؤلاء المحاربين تسمية «مقاتلو عطل نهايات الأسبوع»، وهم رجال في سن الكهولة وأصبحوا الآن أثرياء مع امتلاكهم عدداً قليلاً من رشاشات الكلاشنيكوف.

وكان هذا الفريق من العملاء موضوع مزاح مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض أيضا. وفي وقت ما انتقل هؤلاء العملاء إلى شمال كابل واستأجروا مزرعة كقاعدة لهم. ثم ظلوا يتنقلون داخل وخارج العاصمة الأفغانية لغرض مراقبة بيوت كان بن لادن يقيم فيها من وقت إلى آخر. وقام هؤلاء بتطوير عدة خطط جديدة تهدف إلى الوصول إلى البيت الذي يسكن فيه بن لادن للقبض عليه حينما يكون في فراشه ثم سحبه من المدينة بواسطة شاحنات خفيفة. وزودت «سي آي ايه» هؤلاء العملاء بمتفجرات لأن الخطة تتطلب تفجير عدة جسور في طريق هروبهم. العملاء لم يتحركوا مطلقا. وكانت المزرعة التي استأجروها عبارة عن حديقة كرم. وقد وجه وليام ميلام السفير الأميركي لدى باكستان وقتها، والذي كان على علم بالعملية، سؤالا ساخرا إلى زملائه في «سي آي أيه»: «ماذا ينتظرون إذن؟ هل ينتظرون تخمر النبيذ؟».

من أجل تنشيط المطاردة عيّن تينيت مسؤولا تنفيذيا من الطابق السابع معروفا لدى زملائه باسم رتش، ليكون على رأس حملة مطاردة بن لادن. كما عين كوفر بلاك، الضابط الميداني القديم بإفريقيا والذي كان يراقب بن لادن داخل السودان، مديرا لمركز مكافحة الإرهاب. وتقدم وحدة مطاردة بن لادن تقاريرها مباشرة إلى بلاك وقد عملت معه طوال العامين التاليين.

عندما عين بلاك كانت وحدة بن لادن تتكون من 25 مسؤولا. وكان أغلب هؤلاء من النساء، وثلثان من الوحدة كانت لهم سابق خبرة كمحللين استخباراتيين. وكانوا يسمون أنفسهم «عائلة مانسون»، على اسم القاتل المجنون تشارلز مانسون، لأنهم اشتهروا في أوساط الـ«سي آي إيه» يتحذيراتهم المتكررة من مخاطر القاعدة.

وكانت تقاريرهم تصف المرة تلو المرة الخطر الذي يمثله بن لادن في إلحاق أضرار واسعة المدى بالأميركيين. ولم يكونوا يفهمون لماذا لا تؤخد تحذيراتهم مأخذ الجد. وكانوا يوضحون لزملائهم أن بن لادن لا يشبه الإرهابيين اليساريين المغرمين بالدراما، في السبعينات والثمانينات، والذين قال عنهم بريان جنكينز: «إنهم يريدون كثيرا من المتفرجين وليس كثيرا من القتلى». وكانوا يحذرون من أن بن لادن يريد كثيرا من القتلى الأميركيين. ولم يكونوا يفعلون شيئا سوى أن يتجاهلوا زملاءهم الذين لا يشاركونهم شعورهم بالخطر.

قال أحد أعضاء وحدة بن لادن: «بقية السي آي إيه والأجهزة الإستخباراتية كانت تنظر إلى جهودنا باعتبارها شاذة ومتطرفة في بعض الأحيان». وقال عنهم أحد المسؤولين الأميركيين الذين تعاملوا معهم «نعم، كانوا طائفة».

طلبت وحدة بن لادن من محطة إسلام أباد ان تجند عملاء يمكن أن يسافروا إلى افغانستان. وكان بعض هؤلاء مصادر غير رسمية يساعدون الـ«سي آي إيه» من منطلقات سياسية تتعلق بمعارضتهم لطالبان. اما الآخرون فكانت تدفع لهم «سي آي إيه». وبدأ الضباط الميدانيون على الحدود الأفغانية يجندون بعض قادة طالبان العسكريين ومن ضمنهم عميد بشرق أفغانستان. ونجح ضابط شاب يعمل بإسلام اباد في تجنيد ستة أو سبعة من قادة طالبان العسكريين الذين يعملون بالاقاليم الشرقية. ولكن لم يكن من بين هؤلاء المجندين من هو مقرب من بن لادن. ولم تستطع الـ«سي آي إيه» تجنيد عميل واحد من قيادة القاعدة.

وكان بلاك يعرف أن الـ«سي آي إيه» في ورطة حقيقية، إذ لم تتمكن من تحقيق « اختراقات» لمنظمة بن لادن. وقد ذكرت هذه الحقيقة في تقرير سري قدم إلى كلينتون أواخر عام 1999. وجاء في التقرير: «في الوقت الذي نحتاج فيه إلى عرقلة العمليات الإرهابية... فإننا نحتاج كذلك إلى تجنيد المصادر. ولكن تجنيد المصادر الإرهابية صعب جدا.» المنطقة التي تغطيها الـ«سي آي إيه» بصورة جيدة هي منطقة قندهار. ولكن مع ذلك فإن معلوماتها تشير إلى أن تقاريرها المتعددة المصادر تكون متأخرة، يوما واحدا على الأقل، من تحركات بن لادن. وفي غياب العملاء الداخليين فإن رصد تحركات الرجل ساعة بساعة كان مستحيلا. يضاف إلى ذلك أن قندهار كانت تحت القبضة القوية لطالبان. وقد وفرت طالبان ملجأ آمنا لابن لادن مقابل المال ومشاركة مقاتلي «القاعدة» في معارك طالبان. وحتى إذا توصلت الـ«سي آي إيه» إلى تحديد موقع بن لادن في قلب المدينة، فإنه لم تكن تتوفر لها الوسيلة لاختطافه، وأي فرقة مهاجمة ستواجه مقاومة شرسة من وحدات طالبان.

في صيف 1999 انفجرت قنبلة محمولة على شاحنة أمام منزل قائد طالبان الملا محمد عمر. وبعد ذلك استخدم بن لادن ثروته لبناء مجمع خاص لرئيس طالبان. وفي مسقط رأس الملا عمر في أرزوغان بنى بن لادن مجمعا جديدا لتدريب المجندين الأجانب للقاعدة. وأمرت الـ«سي آي إيه» بتصوير هذا المعسكر من الجو، وكان الضباط يأملون أن يظهر بن لادن لتفتيش المعسكر. وفي أحدى المرات أقترب فريق من أربعة أو خمسة أفغانيين من هذا المعسكر أثناء الليل ولكن حراس القاعدة أطلقوا عليهم النار واصابوا أحدهم.

وكانت كابل أسهل من حيث إمكانيات التجسس. فالعاصمة الأفغانية ممتدة ومتعددة إثنيا. وهي مكان للغرباء والرحالة. ولبعض الوقت اعتقدت الـ«سي آي إيه» أن لاسامة بن لادن زوجتين في كابل، وأنه يزور منزليهما بانتظام. وقد جندت محطة إسلام أباد افغانيا كان يعمل حارس أمن في أحد البيوت التي كان بن لادن يستخدمها في كابل. ولكن مكانة هذا المجند كانت متدنية جدا في الهرم التراتبي بحيث لم يكن في إمكانه معرفة الوقت الذي سيظهر فيه بن لادن. وقد استدعي للحراسة في نفس الوقت الذي وصلت فيه السيارات.

رحلات بن لادن داخل أفغانستان كانت تتبع طابعا يمكن التنبؤ به. وكان كثيرا ما يتجه غربا على الطريق الدائري من قندهار ثم ينحرف إلى الشمال والشرق عابرا إقليم غوار. وقد مسحت الـ«سي آي إيه» كل الإستراحات في إقليم غاور الفقير والمعزول. ومن هناك كان بن لادن يتجه شرقا إلى كابل، وإلى جلال أباد في بعض الأحيان، وذلك قبل أن يتجه جنوبا إلى قندهار. وقد أطلق الأميركيون الذين درسوا هذا المسار إسم « الدائرة ». وفي البيت الأبيض حاول خبير مكافحة الإرهاب رتشارد كلارك، رسم خط لوغريثمي يحدد الأماكن الأكثر ترجيحا لتحركات بن لادن إذا كان في نقطة معينة.

حاولت وحدة مطاردة بن لادن أن تنصب شركا له أثناء تحركاته بين كابل وقندهار وجلال أباد. وكانوا يأملون في إلقاء القبض عليه في منطقة قليلة السكان، ولكنهم بذلوا جهودا خارقة لرسم خطة مناسبة. كانوا يعرفون أن هناك قائدا واحدا في أفغانستان، في صيف عام 1999، يقود حرب العصابات ويجمع المعلومات الإستخبارية ليل نهار عن طالبان، وبن لادن وحلفائهم الإسلاميين الراديكاليين، وكان ذلك هو القائد الاسطوري أحمد شاه مسعود، الرجل ذو التاريخ الطويل والمفعم بالإحباط مع الـ«سي آي إيه».

وبدءاً بعام 1997 كان أحمد شاه مسعود وتحالف الشمال الذي يقوده، يخوضون معارك وجودية ضد طالبان على مشارف كابل، ويقاتلون مباشرة ضد قوات بن لادن من العرب والشيشان والباكستانيين. وكانوا يعرفون بن لادن ليس فقط كخطيب وممول ومخطط إرهابي، بل كانوا يعرفونه كقائد ميداني يتجول قريبا من خطوط معاركهم.

كانت تراود حكومة كلينتون شكوك عميقة حول تاريخ تجارة المدخرات وخروقات حقوق الإنسان وسط قوات أحمد شاه مسعود. ولكن الـ«سي آي إيه» ووحدة مطاردة بن لادن كانوا يعرفون شيئا واحدا، وهو أن مسعود عدو عدوهم، وكان ضباط الـ«سي آي إيه» يقولون إن التحالف مع مسعود هو الفرصة الأفضل للقبض على بن لادن قبل أن يضرب مرة أخرى.