«مونت بلانك» عملية استخبارية شاركت فيها 10 دول كشفت خلايا لـ«القاعدة» وأحبطت هجمات بالسعودية وإندونيسيا

مكالمة هاتف جوال لم يتبادل فيها الجانبان كلمة فتحت التحقيق * «القاعدة» كانت تفضل بطاقات هاتف سويسكوم * العثور على 9 آلاف رقم هاتف مع خالد شيخ

TT

بدأت عملية تحقيقات مكافحة الارهاب المسماة مونت بلانك، بما يشبه الصدفة في أبريل «نيسان» 2002، عندما التقطت السلطات محادثة بالهاتف الجوال استمرت لاقل من دقيقة واحدة ولم يتبادل فيها الطرفان كلمة واحدة. وعندما شك المحققون في أن هذه ربما تكون إشارة بين ارهابيين، تابعوا الخيط، فأوصلهم أولا إلى أحد المشتبه في انتمائهم للجماعات الإرهابية، ثم إلى ثلاث خلايا إرهابية في ثلاث قارات مختلفة. وما ربط بين كل هذه الخلايا شريحة كمبيوترية أصغر في حجمها من ظفر الإنسان.

ويقول خبراء مكافحة الإرهاب في أوروبا والولايات المتحدة، انهم قبل إنهاء التحقيق في الاسابيع القليلة الماضية، تمكنوا من التوصل إلى العشرات من أعضاء «القاعدة» وأحبطوا ثلاث هجمات على الاقل في السعودية واندونيسيا. كما ساعد التحقيق في تضييق الخناق على أخطر المطلوبين في العالم، وهو خالد شيخ محمد المتهم بأنه الرأس المدبر لهجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001. وقد قبضت السلطات الأميركية على خالد شيخ محمد في مارس (آذار) الماضي.

وقال المحققون انهم ظلوا على مدى سنتين، يتابعون محادثات وتحركات عدد كبير من زعماء «القاعدة» وعشرات من ناشطيها عندما توصلوا إلى أن المشتبه فيهم يفضلون شريحة معينة من شرائح الهواتف الجوالة. وتحمل هذه الشرائح وحدات زمنية للمكالمات مدفوعة مسبقا ويمكن استخدامها في كل أنحاء العالم. وقال المحققون ان انجذاب الإرهابيين إلى هذه الشرائح التي تصنعها الشركة السويسرية «سويسكوم»، يرجع إلى إمكانية شرائها دون إعطاء الاسماء. وقال مسؤول استخباراتي كبير، مقيم باوروبا: «كانوا يعتقدون أن هذه الشرائح تخفي هوياتهم، ولكنها لم تفعل». فحتى بدون معلومات شخصية استطاعت السلطات أن تراقب الهواتف الجوالة بصورة روتينية. وقد وافق عدد من المحققين بالولايات المتحدة وأوروبا، على أن يتحدثوا عن تحقيقاتهم لأنها انتهت. كما قالوا ان الإرهابيين بعد أن عرفوا نقاط ضعف الهواتف الجوالة، تخلوا عن استخدامها، في الأمور المهمة، ولجأوا إلى المحادثات عن طريق البريد الالكتروني ومحادثات الكمبيوتر والرسائل التي تسلم باليد.

وقال مسؤول كبير في مكافحة الإرهاب بأوروبا: «كانت تلك واحدة من أكثر الوسائل فعالية في مطاردة «القاعدة». وقد أدى اعتقادهم بعدم كشف هويتهم إلى إشاعة إحساس كاذب بالأمان. ولكننا نعتقد أن القاعدة اكتشفت الآن أننا نراقبهم من خلال هواتفهم الجوالة».

وقال المسؤول ان تحقيقهم هذا كان أنجح تحقيق منذ 11 سبتمبر 2001، وهو مثال على المساعدات المتبادلة بين كثير من الدول. وقد شاركت في هذا التحقيق، الذي كان بقيادة السويسريين، أكثر من عشر دول أخرى بما فيها الولايات المتحدة، وباكستان، والسعودية وألمانيا، وبريطانيا وإيطاليا. وقد لعبت الهواتف الجوالة دورا هاما في هذه المبارزة بين وكالات الاستخبارات والإرهابيين. وقد كان وزير العدل جون آشكروفت وغيره من المسؤولين ينبهون إلى أهمية مراقبة الهواتف الجوالة. وكان كل نصر جديد يحققه المحققون يدفع الإرهابيين إما إلى اتصالات أكثر تقدما أو أكثر تخلفا، حسب الظروف. وقد قالت السلطات الأميركية أثناء قصفها لجبال تورا بورا بأفغانستان، في ديسمبر (كانون الاول) من عام 2001، انها التقطت صوت أسامة بن لادن وهو يخاطب أتباعه من خلال هاتف جوال متصل بالأقمار الصناعية. ويقول المسؤولون ان بن لادن ظل منذ ذلك الوقت يتحدث إلى أتباعه عن طريق الرسائل المكتوبة بخط اليد التي يسلمها رسل موثوق بهم.

وفي عام 2002 تمكنت السلطات الألمانية من اختراق وتدمير إحدى الخلايا عن طريق مراقبة أبو مصعب الزرقاوي الذي استطاعت السلطات الأميركية ربطه بـ«القاعدة» عن طريق التقاط رسائل منه توجه بضرب أهداف يهودية في المانيا. وقال المسؤولون ان الزرقاوي صار أكثر حرصا منذ ذلك الوقت. وقال الكولونيل نيك برات، الخبير في مكافحة الإرهاب والبروفسور بمعهد جورج مارشال للدراسات الأمنية بغارميشبارتنكيرشن، بألمانيا: «إذا ضربت الإرهابيين على رؤوسهم فإنهم يتعلمون، فهم قوم أذكياء».

وقال المسؤولون ان الناشطين الإرهابيين عندما يستخدمون الهواتف الجوالة فإنهم يجرون محادثات قصيرة ويستخدمون كلمات مشفرة. وقال مسؤول سعودي كبير: «هم يعرفون أننا نطاردهم وهم يطورون أساليبهم ويستخدمون وسائل جديدة، ولكننا نتمكن دائما من تحويل حياتهم إلى جحيم. وفي كثير من الوجوه تشبه مطاردتنا لهم لعبة القط والفأر».

بعض الإرهابيين يجرون محادثات قصيرة فقط لتنظيم محادثة أخرى على هاتف أكثر أمانا. وكانت واحدة من مثل هذه المحادثات القصيرة هي التي قادت إلى التحقيق المشار إليه باسم «مونت بلانك».

وقد أجرى الاتصال كرستيان غانزارسكي، 36 سنة، وهو ألماني من أصول بولندية، اعتنق الإسلام، وكانت السلطات الألمانية تشتبه في انتمائه إلى «القاعدة». واتصل غانزارسكي بخالد شيخ محمد، الذي كان القائد العسكري للقاعدة، وكان وقتها يدير العمليات من منزل سري بكراتشي. ولم يتبادل الرجلان كلمة واحدة أثناء الاتصال، وكان كل هدف الاتصال هو تنبيه خالد شيخ محمد الى الهجوم الانتحاري على كنيس يهودي بتونس نفذ في ذلك اليوم. وقد قتل في الهجوم 21 شخصا أغلبهم من الألمان. وتمكنت السلطات عن طريق الرقابة الإلكترونية من أن تصل إلى الهاتف الجوال السويسري الخاص بخالد شيخ محمد ولكنها لم تكن تعرف هوية مالكه. وبعد أسبوعين من الهجوم التونسي اقتحمت السلطات الألمانية منزل غانزارسكي وعثرت ضمن قائمة الأسماء التي اتصل بها على رقم اكتشفت أنه يخص خالد شيخ محمد. وكانت السلطات الألمانية تراقب غانزارسكي لأنه شوهد في معية اصوليين بمسجد بمدينة ديسبورغ، واعتقلته الشرطة الفرنسية بباريس في يونيو (حزيران) الماضي.

وسلم رقم الهاتف الجوال الخاص بخالد شيخ محمد إلى السلطات السويسرية من أجل مزيد من التحقيقات. وبعد فحص السجلات الخاصة بشركتهم، وجد المسؤولون في «سويسكوم» أن كثيرا من المتهمين بالانتماء إلى شبكة القاعدة، يستخدمون شريحة «سويسكوم» المسماة «بطاقة هوية المشترك»، والتي تمكن الهواتف من الاتصال بالشبكات الخلوية. وعمل السويسريون لعدة أشهر، وفي تعاون لصيق مع رصفائهم الأميركيين والباكستانيين، مستفيدين من هذه المعلومات لمتابعة تحركات خالد شيخ محمد داخل باكستان. وقد استطاعوا عن هذه الطريقة تحديد أن خالد كان في كراتشي ولكنهم لم يستطيعوا تحديد مكانه بالضبط. وقال مسؤولان كبيران في استخبارات اوروبية، أنه بمجرد التأكد من أن خالد كان في كراتشي فقد تولى البحث بعدها فريق من الأميركيين والباكستانيين، بمساعدة أدوات تكنولوجية خاصة بوكالة الأمن القومي الأميركي. ولكن العثور على خالد استغرق شهورا أخرى لأنه لم يكن يستخدم ذلك الجوال نفسه كثيرا، بل كانت لديه هواتف جوالة كثيرة جدا. ولكن خالد راح ضحية إهماله الشخصي. فقد كان يستخدم أجهزة كثيرة ولكنه احتفظ بشريحة واحدة، يستخدمها فيها جميعا.

وفي النهاية قاد عميل لوكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه» السلطات الباكستانية مباشرة إلى خالد شيخ محمد، حسب ما صرح به جورج تينيت مدير الوكالة الشهر الماضي. وقال مسؤول كبير بالاستخبارات الأميركية، هذا الأسبوع، ان القبض على خالد شيخ محمد، «كان برمته نتيجة مباشرة لعمليات استخبارية بشرية ممتازة. وقد فتحنا زجاجة من الشمبانيا».

وعثرت السلطات ضمن متعلقات خالد شيخ محمد على أجهزة كمبيوتر وهواتف جوالة ومفكرة بها مئات الأسماء. وقد أدى فحص تلك الأسماء إلى كشف ما يزيد عن 6000 من ارقام الهواتف، كانت تمثل خريطة لعمليات «القاعدة».

ولاحظت السلطات أن الكثير من اتصالات محمد الهاتفية كانت مع ميدانيين في اندونيسيا والسعودية. وفي أبريل الماضي تمكن المسؤولون عن طريق استخدام أرقام الهواتف من تفكيك خلية إرهابية مرتبطة بمحمد، حسبما قال المسؤولون.

وبعد التفجيرات الانتحارية لثلاثة مجمعات سكنية في الرياض يوم 12 مايو استخدمت السلطات السعودية أرقام الهواتف لتعقب «خليتن نائمتين» حيث قُتل بعض أفرادهما أثناء المواجهة المسلحة مع السلطات بينما تم اعتقال آخرين.

في الوقت نفسه استخدم السويسريون قائمة هواتف محمد للبدء بمراقبة الاتصالات الهاتفية والنشاطات لما يقرب من عشرين متواطئ. وقال مسؤول سويسري رفيع إنه «تم تكريس موارد كثيرة لهذا الغرض. والكثير من البلدان تستخدم الإنصات وتتبع الأحاديث» التي تدور عبر الهواتف.

وتنبه المحققون بشكل خاص عند إنصاتهم لمكالمة في يونيو الماضي. وكانت الرسالة تقول: «الرجل الطويل قادم. سيكون هنا قريبا». وقال أحد المسؤولين القريبين من عمليات الإنصات: «لم نكن نعرف من هو لكن كان هناك الكثير من الثرثرة». فبغض النظر عمن يكون «الرجل الطويل» فإن السلطات كان في حوزتها رقم هاتفه. إذ وضعت رقاقة من شركة الهواتف السويسرية «سويسكوم» في التليفون.

وقال مسؤول آخر: «ثم انتظرنا وانتظرنا وأصبحنا أكثر فأكثر قلقين ومتخوفين لأننا لم نكن نعرف من هو أو ما كان يسعى للقيام به». لكن في يوليو الماضي تم اعتقال ذلك الشخص الذي كان يُظن أنه «الرجل الطويل» في قطر، وهو عبد الله العويس المولود في السعودية. وقال مسؤول إنه «واحد من أولئك الأشخاص القادرين على التحرك ضمن المجتمعات الغربية ومساعدة الكوادر بأقل خبرة منه... كان ينتمي إلى موقع متقدم في «القاعدة»، إنه مسهّل رئيسي».

وفي يناير (كانون الثاني) الماضي أدت العملية إلى اعتقال 8 أشخاص متهمين بانتمائهم للقاعدة ضمن الخلية اللوجستية في سويسرا. ويشتبه بأن يكون بعضهم قد ساعد في تفجيرات المجمعات السكنية بالرياض وتسبّب في مقتل 35 شخصا بضمنهم 8 أميركيين.

وفي الفترة الأخيرة اكتشفت السلطات الأوروبية أن خالد الشيخ محمد كان قد اتصل هاتفيا بشركة في جنيف مختصة في بيع بطاقات هاتف سويسكوم. وقال المحققون إنه طلب عددا كبيرا من البطاقات.

وعلى الرغم من انتهاء تحقيق «مونت بلان» فإن المحققين ما زالوا يراقبون الاتصالات الهاتفية لعدد قليل من الأفراد. وأكد كريستيان نهاوس الناطق باسم «سويسكوم» الهاتفية أن الشركة قد تعاونت مع التحقيق لكنه رفض التعليق.

وكان البرلمان السويسري قد أقر قانونا في السنة الماضية اعتبر شراء رقائق الهواتف لاشرعيا بدون تقديم معلومات شخصية وجاء هذا التشريع بعد شهادة وكيل النيابة الفيدرالي كلود نيكاتي الذي قال إن البطاقات أصبحت مفضلة من قبل ميدانيي القاعدة. وسيطبق القانون ابتداء من اول يوليو (تموز) المقبل.

وقال مسؤول رفيع إن السلطات تشعر بالامتنان لأن أعضاء «القاعدة» كانوا مخلصين لشركة سويسكوم.

ووافق مسؤول آخر على ذلك حينما قال إنهم « سيبدلون هواتفهم لكنهم سيستخدمون نفس البطاقات. كانوا أغبياء بما فيه الكفاية لاستخدام نفس البطاقات في كل الوقت. إنه شيء جيد بالنسبة لنا».

* خدمة «نيويورك تايمز»