الضغوط الطائفية تتزايد والعراقيون يظهرون تمسكا بهويتهم الوطنية.. لكن إلى متى؟

TT

كان عبد الستار عبد الرحيم، 72 عاما، يلقي نظرة على كيس اسمنت بورتلاند موضوع عند قدميه. وبينما كان يعالج حفرة في طريق سيارته من البيت الى الشارع وضع يديه على طلسم يقول العراقيون انه سيجنبهم الحرب الأهلية، وقال «نحن كتلة واحدة، مثل الكونكريت، صلبة وقوية. واذا لم يكن البلد مثل الكونكريت فانه يمكن أن ينهار».

ويؤكد العراقيون المقسمون اسميا عبر الانتماء الاثني والعشائري، وكذلك الديني مؤخرا، على ان هذه الفوارق ثانوية بالمقارنة مع الاحساس السائد بالهوية الوطنية المشتركة. وهي صورة ذاتية متماسكة عززتها تقاليد وثيقة مثل الزواج، ولكنها خضعت في الأسابيع الأخيرة لاختبار مشاهد دموية شأن ذلك الحادث الذي جرى خارج الجامع القريب من بيت عبد الرحيم.

فقد خرج ضامر الضاري، رجل الدين السني ليفتح باب بيته بعد ان سمع طرقاً عليه مساء الحادي والعشرين من فبراير (شباط) الماضي فقتل عند عتبة الباب. ولم يكن موته على يد رجلين مجهولين سوى واحدة من هجمات غامضة على رجال دين وجوامع هنا خلال الأسابيع الأخيرة استهدفت السنة والشيعة على السواء.

وقد كان رد الفعل على الهجمات التي زاد عددها على 12 خلال فترة أسبوعين من الشهر الماضي، تصريحات شددت على الوحدة من جانب رجال دين شيعة وسنة بارزين. ويوجه الزعماء الدينيون الذين يرفضون القاء اللوم على أفراد الطائفة الاسلامية الأخرى المصلين يوم الجمعة بأن يؤكدوا للمؤمنين على أن الهجمات تنفذ من جانب الارهابيين وعناصر أجنبية تسعى الى اثارة حرب أهلية.

وقال قاسم الجنابي، صاحب مطعم قرب جامع الكبيسي، حيث قتل رجل دين سني في السابع من الشهر الماضي كما قتل خليفته بعد يومين من ذلك «انهم يقومون بهذه الأشياء لكي يوجه الشيعة الاتهام الى السنة والسنة الى الشيعة. ولكننا في العراق شعب واحد».

وفي ظل غياب استفتاء دقيق يقدر كثيرون ان الشيعة يشكلون 60 في المائة من سكان العراق البالغ عددهم 24 مليون نسمة. ولكن هذا الرقم يواجه دحضا على كل الجبهات الأخرى. فالسنة يدعون انهم يشكلون الأغلبية، بينما يقول كثير من الزعماء الشيعة ان نسبة 60 في المائة للشيعة نسبة قليلة.

غير ان الاستطلاعات تؤكد قناعة الجنابي بأن العراقيين ينفرون من الصراع الطائفي. وعلى الرغم من السياسات التمييزية لنظام الرئيس السابق صدام حسين الذي دعم ابناء طائفته السنية وحرم على الشيعة ممارسة الكثير من شعائرهم، فان أغلبية العراقيين المستطلعين فضلت اختيار «مسلمين» اذا ما اختاروا ان يصنفوا كشيعة أو سنة او مسلمين، وفقا للمركز العراقي للبحوث والدراسات الاستراتيجية، ويتزايد الرقم الذي يقول بذلك منذ اجراء الاستطلاع في يناير (كانون الثاني) الماضي.

وكشف استطلاع آخر اجرته المجموعة المستقلة أن 88 في المائة من العراقيين المستطلعين ان الطوائف الاسلامية يجب أن تتشارك في السلطة السياسية. وكان هناك أقل من واحد في المائة ممن اعتبروا العلاقات بين السنة والشيعة هي القضية الأكثر أهمية مما يواجه العراق، بينما أشار 40 في المائة الى أن القضية الأهم هي الأمن.

تعتزم سلطة التحالف المؤقتة التي تقودها الولايات المتحدة اعادة السيادة الى العراقيين يوم الثلاثين من يونيو (حزيران) المقبل، ولكن ما زال من غير الواضح أي نمط من الحكومة هو الذي سيتولى السلطة. وتشكل الفوارق الاثنية والطائفية الحدود الفاصلة لاختلافات شديدة بشأن الدستور المؤقت الذي تبناه مجلس الحكم الانتقالي يوم الثامن من مارس (آذار) الماضي.

وقال عبد الستار عبد الجبار، أحد كبار المسؤولين في «هيئة علماء المسلمين»، وهي ابرز منظمة لرجال الدين السنة «هناك خطة لاثارة حرب طائفية في العراق. نحن نستقبل وفودا شيعية في مقرنا ونزور رجال الدين الشيعة في مقراتهم. ليست هناك نزاعات يمكن أن تؤدي الى قتال».

غير أن الهجمات تكشف عن المخاطر الطائفية. وقد اعترف الشيخ علي حسين محمد الخفاجي امام جامع للسنة في منطقة الطالبية ببغداد حيث ألقيت قنبلتان، وقتل رجل اثر ذلك، كما قتل آخر في اليوم التالي قائلا «كثير من الناس يتهمون الشيعة». ولكن الخفاجي يلقي باللوم، شأن كثيرين ممن التقيناهم، على عناصر أجنبية. ويقول انه «لا فرق بيننا» في جامع الطالبية المختلط. واشار الى انه في الفوضى التي عمت البلاد خلال الحرب في العام الماضي ساعد الشيعة في حراسة الجامع.

وفي بغداد التي يعيش فيها أناس من أقوام ومذاهب متنوعة ما تزال مشاعر التباين الطائفي خفيفة كتلك اليد التي يضعها صاحب دكان شيعي على كتف شخص سني يقف الى جانبه قائلا «انه صديقي». ويمزح الصديقان في ما بينهما بشأن تلك الشعائر، وهو مزاح يمكن ان تثير ممارسته العامة اراقة الدماء في بعض الدول الأخرى مثل باكستان. ويقول العراقيون ان الشيء الأهم هو أن حالات الزواج بين السنة والشيعة شائعة، حتى في أوساط العائلات الأكثر تدينا. غير انه في الاشهر الأخيرة اظهر مزج السياسة بالدين وجود توترات خفية.

وفي السر يعترف بعض السنة بشعورهم بعدم الاستقرار بسبب انفجار الهوية الشيعية في فترة ما بعد الحرب. وكان صدام حسين يمنع الشيعة من نشر راياتهم الحمراء والخضراء والسوداء التي ترفرف اليوم من الكثير من الشرفات والاسطح في بغداد، وهي رايات تعبر عن ولاء الشيعة لأئمتهم وهويتهم التي تعرضت للاضطهاد خلال فترة مديدة.

وقال صلاح العلوي، معاون عميد كلية العلوم في الجامعة المستنصرية ببغداد ان «الشيعة يريدون أن يقولوا للناس الآخرين: نحن هنا، وهذا هو الاحساس الذي يتملكني». وكانت جامعات بغداد قد حرمت المظاهر الدينية كمبدأ ولكنها وجدت نفسها تواجه الرغبات الساحقة لطلابها الشيعة. ويشير العرض الحالي للرايات السوداء الى شهر عاشوراء الذي يحيي فيه الشيعة ذكرى مقتل الامام الحسين، وهي المرة الاولى التي يجري فيها احياء هذه المناسبة بعد زوال نظام صدام.

واكد العلوي الذي اغتيل سلفه على يد عصابة من خمسة رجال انه لم يجد الكثير من التعصب او الطلاب الذين يميزون أنفسهم من خلال انتمائهم الطائفي. وقال انه «على الرغم من الاختلافات الدينية والسياسية والاثنية لا يريد العراقيون حربا. ولا أعتقد أنها ستحدث اذا ما اوقفنا الارهاب. ولكن هل نستطيع ذلك؟ هل يستطيع الأميركيون ايقاف الارهاب هنا»؟

ولكن مخاطر اقتراب حدوث نزاع قد تعتمد على حسن ادارة رجال الدين في طوائفهم الاسلامية وموازنة رغبتهم في الوحدة الاجتماعية مقابل دورهم المتزايد في السياسة.

ويقدم الشخص الأكثر نفوذا في السياسة في العراق اليوم، آية الله العظمى علي السيستاني، مثالا على الحكمة في الموقف. وقد أعلن رجل الدين البارز الذي التقى زعماء سنة الاسبوع الماضي لمعالجة القضية الطائفية، ان على شيعة العراق أن يحموا جميع جوامع السنة. وفي الوقت نفسه أصدر توجيهاته الى الأئمة الشيعة للنشاط في الخطب ومراسم الصلاة في الدعوة الى اجراء تغييرات في الدستور العراقي المؤقت الذي يخشى ان يؤدي الى تقليص نفوذ الشيعة.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»