المعماري العراقي رفعت الجادرجي: لا شيء يمنع تشابه الأعلام ولا يحق لإسرائيل أن تحتكر شكل علمها

مصمم نصب «الجندي المجهول» يرفض هدم سجن أبو غريب ويقترح إقامة متحف لمعاناة العراقيين في جانب منه

TT

خلال زيارته إلى باريس الأسبوع الماضي لحضور الندوة التي دعت إليها اليونسكو عددا من المثقفين العراقيين التقت «الشرق الأوسط» المعماري رفعت الجادرجي الذي اثار تصميمه للعلم العراقي الجديد جدلا حادا ليس في الأوساط السياسية وحدها، وانما في اوساط المثقفين والفنانين الذين اعتبر الكثير منهم ذلك التصميم هزيلا من الناحية الفنية، واكثر هزالا من الناحية السياسية بالنظر الى انه يستند الى المفاهيم نفسها التي يتشكل منها العلم الاسرائيلي. ففي العلمين معا هناك خطان ازرقان يمثلان نهرين، كما انه هناك رمز ديني على خلفية بيضاء واحدة، والاستثناء الوحيد في العلم العراقي المقترح كان اللون، اضافة لون اصفر ليمثل القومية الكردية. ودافع الجادرجي عن تصميمه بالقول ان منتقديه لم يكونوا موضوعيين، وانه ليس من الخطأ ان تتشابه أعلام الدول فيما بينها، ولكنه ذهب أبعد من ذلك بالقول انه لا يحق لاسرائيل ان تحتكر شكل علمها. وفيما يلي نص الحوار:

* لا بد أن نبدأ الحديث بسؤال عن تصميمك للعلم العراقي الجديد، الذي أثار موجة من الاعتراضات، كيف جرى تكليفك بهذه المهمة؟

ـ جاء التكليف مباشرة من قِبل مجلس الحكم، وكان المطلوب أن أصمم علماً يمثل التعددية في العراق. وقدمت ثمانية نماذج تعبّر عن مفهوم التعددية، وتعكس خلفية المجتمع العراقي. وكانت نصيحتي أن يُؤخذ بأحد تلك التصاميم، وهو التصميم الذي أعلن عنه.

أما ردود الفعل فتستحق التأمّل والبحث، وسيكون من المفيد، في وقت لاحق، بحث وظيفة العلم بالنسبة لهوية المجتمع، وقدرات دلالاته، وما هي الأشكال المعتمدة في العالم عند تصميم الأعلام؟ وهل تتشابه تلك الأشكال أم تختلف؟.

* كيف استقبلت ردود الفعل؟

ـ ردود الفعل كانت متباينة، وأكثرها ضد التصميم، لكن أغلب النقد لم يكن موضوعيا، لأن كتابه لم يطّلعوا على الأسباب والأفكار التي اعتمدتها في تصميم العلم، وهناك من هاجم التصميم لأسباب أخرى. اعتقد ان هناك فئة في العراق لم تتمكن من الدفاع عن النظام السابق، فأخذت من قضية العلم حجة لتثبيت هويتها، بعد أن فقدت الرموز التي تدعم تلك الهوية، وموقعها في المجتمع. إنها فئة كانت تلتف حول رموز لتأمين مصالحها، سواء أكان هذا «الرمز القائد» «الملهم» أو «الأوحد» أو «الرئيس حفظه الله». ولما فقدت هذه الفئة ذلك الرمز، تمسكت برمز آخر وهو العلم السابق كمظاهرة سياسية. انها معركة بين فكر ظلامي وبين فكر يسعى إلى تحقيق التعددية والعدالة في العراق. وهنا لا بد أن أشير إلى أن تاريخ العراق، في أي وقت مضى، لم يشهد مجتمعاً تعددياً، بل كانت هناك دائماً فئة معينة تهيمن لفترة ما على السلطة وعلى موارد البلد وتحتكرها وتنتفع بها لوحدها، من دون غيرها، وهذه الفئة لا تريد، بالطبع، أن تخسر هذه الامتيازات المادية والمعنوية.

وسواء اختير هذا العلم الذي صممته، أو لم يقع عليه الاختيار، فأنا لست طرفاً في القضية، بل أنا مصمم قام بواجبه مثلما قمت بدوري في تصميم كثير من الأبنية المهمة في العراق، سواء جرى تنفيذها أو لا، وسواء تمت صيانتها بصيغ جيدة، أو هدمت، أو أحرقت. إن قدرة المجتمع على الحفاظ على ذاكرته، مسألة تعود إلى الشعب العراقي، فهو الذي يقرر الحفاظ على ذاكرته أو يهملها.

* من أخطر ما قيل حول العلم الذي قمت بتصميمه أنه يشبه العلم الإسرائيلي، ما رأيك؟

ـ الجواب على هذه النقطة، يحتاج شيئاً من التفصيل أيضاً، ليس هنا مكانه، فهناك مبادئ تصميمية معينة لا يمكن الخوض فيها إلا إذا كان النقد موضوعياً. وباختصار، أقول إن هناك ناحيتين تستحقان البحث، أولاهما: ما الذي يمنع وجود تشابه بين الأعلام؟ هذا إذا سلّمنا بوجود تشابه بين تصميمي وبين علم إسرائيل، هل من حق إسرائيل أن تحتكر شكلاً معيناً؟، وردي هو بالنفي.

أما ثانيهما فمن حيث التكوين الشكلي للعلم، فإن العلم الإسرائيلي يتألف من خطين، الأول في الأسفل والثاني في الأعلى، وهناك شيء بينهما. لذا فهو تكوين شكلي يتطابق مع العلم المصري والعلم السوري والعلم العراقي القديم، ومع كثير من الأعلام في العالم.

ومن البدائل التي قدمتها إلى مجلس الحكم، اعتمدت هذا التكوين، لكنني نصحت المجلس أن يختار التصميم الذي حصلت عليه الموافقة. والمبدأ التصميمي لهذا العلم، هو خط في الأسفل وفوقه شيء، أي انه شكل هرمي، لذا فهو يختلف جذرياً عن العلم الإسرائيلي، وكذلك عن المصري، والسوري، والعراقي القديم. وقد كنت متعمدا في اختيار اللون الأزرق، لأنه يمثل الرافدين، دجلة والفرات.

* لكن المخيلة العراقية، والعربية عموما، تحتفظ بألوان معينة للعلم، كالأحمر والاخضر والأسود..

ـ لي موقف من هذه الألوان ايضا، ولا بد أن أقول إنني استخدمتها في البدائل الأخرى التي اقترحتها للعلم، لكنني نصحت مجلس الحكم أن يأخذوا بالتصميم ذي اللون الأزرق، فهذا لون لا يشير إلى فئة معينة، إنما إلى تعددية حضارات العراق التي قامت على دجلة والفرات.

* هنالك من رأى في استخدامك الهلال إشارة طائفية.

ـ لا، مطلقاً.. الهلال هو الهلال الخصيب، وهو رمز منطقة اعتمدته في طقوسها وأعيادها ومراسمها باعتبارها تنتمي الى الحضارة الإسلامية.

وأنا أرى أن هناك فرقاً بين الحضارة وبين الدين. ان الذين حققوا الحضارة الإسلامية العربية في العراق، هم فئات متعددة، منها العربي والكردي والفارسي والتركي والمسيحي واليهودي والتركماني وغيرهم. ان ما نبحثه الآن، هو علم يرمز إلى التعددية وإلى الحضارة. وبالنسبة لي فإن الهلال هو رمز حضاري طقوسي أكثر من كونه شيئاً آخر.

* كنت المهندس الذي صمم أول نصب للجندي المجهول في بغداد، أيام الزعيم عبد الكريم قاسم. كيف تعرفت عليه؟ وكيف جرى تكليفك بذلك التصميم؟

ـ كنت آنذاك، أي في عام 1958، مديراً للإسكان، وبحكم وظيفتي كان لي اتصال مباشر مع عبد الكريم قاسم. وقد سجلت تفاصيل تشييد نصب الجندي المجهول في كتابي «الاخيضر والقصر البلوري». لقد تم تكليفي، هاتفياً، بتصميم ثلاثة أنصبة في بغداد، هي: الجندي المجهول، النصب التذكاري لثورة 14 تموز، ونصب الحرية، الذي أبدع منحوتاته الفنان جواد سليم. وأنجزت تصميمين في المساء ذاته، وفي العاشرة من صباح اليوم التالي قدمتهما إلى عبد الكريم قاسم، ووافق عليهما بصفته رئيساً للوزراء.

* هل كان للزعيم هذا الميل نحو الفنون أم أن هناك من شجعه على إقامة أنصاب فنية في بغداد؟

ـ كان ذلك قراراً شخصياً منه فقط، لقد كان عبد الكريم قاسم رجلاً عسكرياً، وغالبية العسكر العراقي، والعربي عامة، لا تعير للفنون اهتماماً.

* وصدام حسين؟

ـ صدام لديه حس غير مهذب للفن، لذا ادخل إلى العراق نوعاً من المعالم والتأثيث الذي كان السبب في تشويه العمارة في البلد. أما تدخلات عبد الكريم قاسم فكانت على السطح، ولم تترك تأثيراً عميقاً. ولهذا في رأيي هناك سببان، أولهما أن النهضة الفكرية التي كانت قائمة قبل الثورة واصلت تأثيرها، والثاني أنه سعى إلى أن يكون رجل دولة، أو هكذا كانت سلوكياته، فلم يتدخل في الشؤون الفنية.

* كان قاسم صاحب فكرة تشييد نصب الجندي المجهول، فمن كان صاحب فكرة هدمه؟

ـ هذه قضية أعرف بعض تفاصيلها واجهل بعضها الآخر، فقد كنت، أوائل الثمانينات، مستشاراً في أمانة العاصمة العراقية، وكانت جميع المشاريع ذات العلاقة بالبناء تمر عن طريقي، وأنا الذي يضع عنها تقارير إلى أمانة العاصمة أو القصر الجمهوري. وكان صدام هو الذي يبت شخصياً في المشاريع ذات البعد السياسي، أو التي تحتاج ميزانيات كبيرة.

وإذا لم تخني الذاكرة، فإن أمين العاصمة آنذاك كان عبد الحسين شيخ علي، وقد أبلغني ذات يوم أن أمراً جاء من القصر، أي من صدام، بهدم الجندي المجهول، وقال لي بأنه سيماطل في تنفيذ الأمر إلى أن تُنسى القضية.

* في تلك الفترة كان نصب جديد للجندي المجهول قد أقيم في جانب الكرخ.

ـ هذا صحيح، لكن فكرة النصب الثاني جاءت من الرئيس أحمد حسن البكر، وليس من صدام حسين، وقد اقترح الفكرة على البكر الفنان خالد الرحال.

بعد شهرين من الأمر الأول، جاء أمر ثان من القصر بهدم النصب الذي كنت قد صممته، وأعاد أمين العاصمة قوله بأنه سيماطل في التنفيذ لأن الجندي المجهول أصبح من معالم بغداد والناس تعودت عليه، وكان ردي عليه ألا يتحرج بسببي، وقلت له إن هناك من أعمالي ما ظل قائماً ومنها ما هدم، وقلت إن الأعمال الكبرى التي قمت بتصميمها لم تنفذ، بل أهملت لسبب أو لآخر، ولم يتحقق من أعمالي التي اعتقد بأنها كانت تسعى لتؤلف مبادئ لعمارة عراقية، إلا القليل، ومنه اتحاد الصناعات العراقي ومبنى البريد المركزي ومجلس الوزراء، وقد أحرقت دائرة البريد في الحرب الأخيرة، وحصل إهمال شديد لبناية مجلس الوزراء، كما أحرقت بناية اتحاد الصناعات.

وعودة إلى الجندي المجهول، فبعد حوالي الشهر من تلك المحادثة، أي في أواخر 1982، جاء أمين العاصمة ومعه مدير الدائرة الفنية، وكان الوجوم بادياً على وجهيهما، وقالا لي إنهما آسفان ولم يودّا إزعاجي، ولهذا تأخرا في إبلاغي بالخبر، وهو أن الجندي المجهول قد جرى هدمه.

تناولت فوراً كامرتي الفوتوغرافية، وذهبت إلى موقع النصب في ساحة الفردوس، وشاهدت المراحل الأخيرة من الهدم، وصورت نفسي بالقرب من الأنقاض مع الشخص المشرف على عملية الهدم، وهو أحد موظفي الأمانة، ممن تميزوا في قدرتهم على الهدم بطريقة فنية وبأقل التكاليف.

ان لي مع الجندي المجهول علاقة أخرى، غير البناء نفسه، أي مع الأسكلة التي نصبت كقاعدة لتشييده، وقد دوّنت تفاصيل ذلك في كتابي «الاخيضر والقصر البلوري»، حيث جاء فيه بأنني كنت أزور الموقع يوميا، وأخذت أعجب بالاسكلة، وحينما أخذت شكلها النهائي شعرت كما لو أنني عشقتها، وكم تمنيت أن تبقى مع المبنى، لكن الاسكلة لا تؤلف أكثر من مرحلة زائلة في البناء، ومع مرور الوقت ننساها، ولهذا أقدمت على تصوير مختلف مراحل بنائها، لأنه جهد بشري فكري وبدني، وهو جهد لا يزول من الوجود فحسب، بل كذلك يزول من الذاكرة، وننسى بأنه من دون الاسكلة لما كان من الممكن تشييد البناء.

* كيف كان شعورك لحظة رؤية الهدم؟

ـ لست شخصاً يبكي على ما يخسر، إنما يتركز ألمي على مسألة عجز المجتمع عن الحفاظ على ذاكرته. ولقد جرى تعمير الكثير في العراق منذ القِدم، وبعضه كان جيداً، لكن هدم الكثير منه، فكيف هدم باب الشرقي، وباب المعظم، وأزيل جزء مهم من باب جامع مرجان من دون أن يتصدى المجتمع لذلك الهدم، ويدافع عن حقوقه في تراثه وذاكرته الوطنية؟.. عندما هدم قسم من جامع مرجان، مثلاً، في أواسط الاربعينات، لم يظهر أي احتجاج، حسبما أتذكر، سوى مقالة واحدة في جريدة «الأهالي»، كتبها والدي كامل الجادرجي، بعنوان «هدم جامع مرجان بآثاره الفريدة جناية على الفن»، في تاريخ1946/4/9. وكان أمين العاصمة آنذاك، الذي اصدر قرار الهدم حسام الدين جمعة. وأعدت أخيراً نشر هذه المقالة في كتاب «في حق ممارسة السياسة والديمقراطية»، الذي صدر هذا العام.

انني أؤمن بأن البناء الحضاري يؤلف النصف الأول في عملية الإنجاز، وأن النصف الثاني، وربما الأهم، هو صيانته والحفاظ عليه باعتباره من ذاكرة المجتمع وامتداداً لهذه الذاكرة في الزمن. واعتقد أن الشعب الذي لا يتمكن من صيانة إبداعه، هو شعب لا يمتلك ذاكرة يسخرها في المزيد من البناء الحضاري، بل لا يعي بأن الذاكرة هي أساس في تكوين وجدان المجتمع.

* بم شعرت وأنت ترى أبنية جميلة تحرق أو تقصف في المدن العراقية بنيران الحرب الأخيرة؟

ـ لم تبق للمجتمع العراقي أبنية كثيرة جميلة ومهمة تاريخياً، لكنني أقول إنني أتعاطف مع كل بناء جميل، سواء أكان من تصميمي أو من تصميم غيري، وسواء أكان حديثاً أو قديماً تقليدياً. فأنا أحلم بهذه الأبنية وأعيشها في بالي، أي انني دائم التفكير في العمارات التي هي جزء من ذاكرتي ومن إحساسي بالوجود، لهذا أتألم كثيراً عندما تهدم أي عمارة ذات أهمية تاريخية.

لذا، أقدمت على تصوير الكثير من العمارات المهمة في العراق، احتفظ بها كذاكرة، وربما سيرجع إليها المجتمع في المستقبل. فمثلا حينما هدم القسم الأعلى من باب جامع مرجان، فقد أدى الهدم إلى زوال ذلك القسم من الذاكرة. كذلك هدم باب الشرقي، وسمعت عنه الكثير من والدي. أما باب المعظم، فتوجد له صورة. وكم كانت بغداد أجمل لو احتفظ بباب المعظم، وبمبنى مكتبة الأوقاف التي كانت قريبة منه!، لقد كان هدم هذين المبنيين خسارة كبيرة منيت بها جمالية بغداد، وخسارة إلى ذاكرة المجتمع البغدادي، وأظن أن بغداد ستكون أجمل لو لم يتم هدم نصب الجندي المجهول.

وأود أن أضيف بأن هدم الأبنية وحرقها وحرق الوثائق التي كانت في داخلها، في الحرب الأخيرة، قد حصل على أيدي أفراد من المجتمع العراقي. وهذه دلالة واضحة، بأننا لا نهتم كفاية بتثقيف أنفسنا لكي لا تتكرر مثل هذه المآسي.

* أعلن الرئيس بوش انه بصدد إزالة سجن أبو غريب، ما رأيك؟

ـ أولا، هذا ليس من اختصاص بوش أو صلاحيته، فسجن أبو غريب مبنى عراقي، والشعب العراقي هو الذي يقرر مصيره، وان هدمه هو كذلك هدم للذاكرة العراقية. أما من الناحية المعمارية، فإن هذا المبنى الذي صممه معمار أميركي، هو سجن متميز جداً، ولا علاقة للمبنى بما حدث فيه، لذا اعتقد أنه يتعين الحفاظ عليه كسجن.

مع ذلك، أقول إن الأحداث المؤسفة التي حصلت في السجن في مختلف العهود، في الماضي والحاضر، هي جزء من ذاكرة المجتمع العراقي، كما انها إهانة إلى إنسانية البشرية جمعاء. وإذا كان لا بد من تغيير وظيفة المبنى، فيتعين ـ في اعتقادي ـ الحفاظ على جانب من السجن لذاكرة الأحداث، وأن يُقام في جزء منه متحف يزوره العراقيون وغيرهم ليتعرفوا على حجم معاناة هذا الشعب، كما يوظف القسم الثاني منه كمراكز تعليمية وتثقيفية تنمي عند أفراد المجتمع الحس الفني والإنساني.

* كنزيل سابق في أبو غريب، ما رأيك بمستوى الإقامة فيه؟

ـ لقد كانت تجربة قاسية بالنسبة لي ولعائلتي ولاصدقائنا، كما هي تجربة قاسية لكل النزلاء الآخرين، رغم ان بعضهم كان يعتبر ذلك السجن بمثابة الهيلتون بالقياس إلى أقبية مراكز التحقيق.