مارغريت حسن .. نموذج نادر من نساء الإمبراطورية التقليدية

TT

«هل تدركون كيف تشعر الأم التي تنهض كل صباح ولا تعرف ما إذا كانت ستتمكن من إطعام أطفالها؟ لا أعتقد ان الغربيين ينظرون للعراقيين كأناس عاديين». كلمات مارغريت حسن، البريطانية التي اختارت ان تكون عراقية من ثلاثين عاما، لهيئة الاذاعة البريطانية «بي.بي.سي» قبل غزو العراق بشهور.

المسز حسن، التي اختطفها مسلحون مجهولون، ثم تباهوا بعرض محتويات حقيبة يدها، من بطاقة شخصية وبطاقات ائتمان، على شاشة «الجزيرة»، لم تكن تحب الدعاية والظهور. عرفها العراقيون تعمل بينهم بصمت تحتضن الأطفال المرضى. تتحدث للصحافيين فقط، عندما ترى في ذلك فائدة تعود على المستفيدين من المؤسسة الخيرية «كير انترناشنال» التي ترأست مكتبها في بغداد حيث تقيم مع زوجها العراقي تحسين منذ السبعينات. لم تخض السياسة او تهتم بها، وانما ركزت على اعمالها الخيرية منذ عام 1979.

ورغم ان كلماتها، ظهرت في الصحف كانتقاد للسياسة الأميركية في التسعينات، الا انها لم تكن تقصد السياسة ابدا، وانما تتحدث من الناحية الانسانية. قالت للمراسلين الأميركيين عام 1998، ان العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الامم المتحدة على العراق، «مناقضة لميثاق الأمم المتحدة». والسبب كما قالت وقتها ان ميثاق المنظمة الدولية يقدس حرية الفرد، ولذا ففرض عقوبات يؤذي الأفراد هو النقيض للميثاق «وهذا هو النفاق بعينه».

مارغريت حسن كانت تعي ديكتاتورية صدام حسين ووحشية نظامه، الا انها عزلت وجهة نظرها بالنظام عن عملها اليومي وركزت، خاصة في فترة العقوبات، على رعاية الأطفال المرضى وايجاد الدواء والغذاء لهم بأي وسيلة. تحدثت المسز حسن في فبراير (شباط) من العام الماضي، عشية الحرب في مجلس العموم البريطاني، قائلة: «يعيش العراقيون بالفعل حالة طوارئ بشعة ولا يشغل بالهم سوى الحصول على كوبونات التموين، ولذا فليس لدى العراقيين اية موارد تذكر لتحمل ازمات وطوارئ اضافية ستنجم عن العمليات العسكرية». وأنهت كلمتها بتحذير نواب مجلس العموم باحتمال مواجهة العراق لكارثة انسانية في حالة الحرب.

رغم نحافتها وضآلة جسمها، فإن نظرات العينين البنيتين النافذتين لمارغريت تعبر عن صلابة روحها وعزمها ورباطة الجأش. ويحكي شهود عن منازلاتها العنيدة مع مسؤولي الأمم المتحدة والمسؤولين الأميركيين للسماح باستيراد أدوية لعلاج الأطفال المصابين بالسرطان. كانت تحمل صفات الجيل المغامر من البريطانيات اللاتي دفعن بحدود الامبراطورية الى اركان الدنيا الأربعة، من خلال القلب الرحيم والرعاية وحمل مصباح فلورانس نايتنجيل الذي برعت فيه البريطانيات عبر العصور. ورغم أن مولدها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، الا ان قلب المسز حسن حمل صلابة جيل نساء تلك الحرب، تلك الصلابة التي ارى ما بقي منها في شخصيات مثل حماتي، ابنة الطبيب الذي ذهب مع شقيقها لأداء الواجب في ارض بعيدة وبقيت مع شقيقتها الكبرى بعد وفاة الأم لحماية صغار الأسرة وصيانة ما لم تأت عليه قنابل طائرات المارشال جورنج .. جيل نساء يعملن 18 ساعة يوميا: في مصانع السلاح وقيادة سيارات الإسعاف، ويتطوعن في المستشفيات ويرفعن الأنقاض ويضمدن الجراح بعد الغارات الليلية المستمرة على لندن.

نساء مثل حماتي يضحكن للإصابات والأمراض والأزمات والمشاكل التي تقعد أشد الرجال صلابة، يتعاملن مع الأزمات في هدوء وببساطة وكأنها ذبابة تهشها بتلويحة من ظهر يدها، بعيدا عن المائدة، وتستمر في التركيز على ما هو أهم. انه الدرس الذي تعلمه جيلها من الحرب العالمية، عندما كانت الأسرة كلها تعيش على بضع اوقيات من الزبد والسكر والدقيق وثلاث بيضات في الأسبوع.

ذكرتنى مارغريت حسن العراقية ايضا بالمسز يونس، الممرضة الانجليزية التي تزوجت من مدرس مصري قبل الحرب العالمية الثانية، ورفضت مغادرة الاسكندرية حيث عملت في «المستشفى الميري»، وتطوعت في مستوصف خيري الى جانب تعليم اللغة الانجليزية مجانا لأطفال الملجأ القريب في شرق الاسكندرية. ورغم انشغال وقتها، فأتذكر عام 1953 استقبالها مرتين يوميا لصبي نوبي عمل في خدمة اسرة قاهرية ثرية من المصطافين، اصيب ساقه بجروح تقيحت والتهبت وسببت له حمى، فعالجته وضمدت جراحه المتقيحة وكانت تطهرها يوميا وتحقنه بالبنسلين، ورعته حتى شفيت جراحه، ولم تتفوه بكلمة واحدة ضد مخدوميه او تعنفهم على اهمالهم الجسيم وسوء معاملتهم لهم.

للأسف لم يتح لي شرف لقاء مارغريت حسن، واتمنى ان تخرج سالمة من ورطتها لأطبع يوما قبلة التعارف على يدها الطيبة، لكن وصف العراقيين الذين عرفوها اعاد الى ذهنى صور نساء جيل حماتي والمسز يونس، اللاتي يوظفن رباطة الجأش وصلابة الروح في خدمة الانسانية بروح في غاية الرقة والرحمة.

انحازت المسز حسن للفقراء والمحتاجين من العراقيين العاديين، وساوت في انتقادها بين الأميركيين والحكومة الانتقالية، لفشلهم في تأمين حاجة الناس وحمايتهم من الأشرار، وبين نظام صدام حسين في اختلاسه لمعونات الأمم المتحدة ودواء الناس وغذائهم في برنامج البترول مقابل الغذاء. ولدت مارغريت آن ستيدمان لأم ايرلندية وأب انجليزي هو رونالد ستيدمان الذي كان يشغل آلة العرض السينمائي عام 1952 قرب دبلن، ثم ارتحلت الأسرة الى لندن. وفي السابعة عشرة من عمرها، قابلت تحسين الميكانيكي العراقي، كان في السادسة والعشرين، وابن الجزار البغدادي سلمان حسن، عندما كانت تعمل على سنترال في شركة تأمين.

تزوج تحسين ومارغريت في مكتب السجل المدني لحي وستمنستر في 28 يونيو (حزيران) 1969، وعاشا في جنوب غربي لندن. لم يرزق تحسين ومارغريت بأطفال، فتحولت طاقة الحنان لديهما الى العمل مع الأيتام والأطفال المحتاجين بعد انتقالهما الى بغداد في السبعينات، حيث اقامت معهما امها الأرمل.

وبعد اقل من عام بدأت مارغريت العمل في المؤسسات الخيرية لرعاية الأطفال، وفي عام 1992، كلفتها مؤسسة «كير» منصب مدير فرع بغداد. والمؤسسة التي مقرها بروكسل، ولدت من رحم المؤسسة الخيرية الأميركية التي تأسست عقب الحرب العالمية الثانية لجمع التبرعات والملابس والمؤن والأغذية المعلبة في أميركا وارسالها في «طرود الرعاية» كهدية من الأميركيين لأوروبا التي مزقتها الحرب. وتعتبر «كير» من اكبر واهم المؤسسات الخيرية الدولية المستقلة وقد بدأت النشاط في العراق منذ عام 1991 لتخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية على الناس العاديين، خاصة الأطفال. وضم المكتب الذي أشرفت عليه المسز حسن قرابة 60 من العاملين. وتجمع المؤسسة التبرعات من حول العالم، خاصة قراء الصحف التي تنشر مقالات عن المؤسسة ـ مثلا تبرع قراء صحيفة «التايمز» البريطانية بـ 170 الف جنيه استرليني هذا الصيف، وتبرع قراء الصحف الأسترالية، حيث يوجد فرع آسيا من المنظمة، بضعفي هذا المبلغ، وايضا من شركات الأدوية والأغذية المعلبة واقناع الأطباء بالعمل التطوعي.

استغلت المسز حسن زياراتها للعالم الخارجي ـ خاصة بريطانيا ـ في جمع التبرعات والدعوة لرفع العقوبات، وقالت لمؤتمر نظمته مؤسسة الغوث والتنمية الاسلامية، ومقرها برمنغهام في بريطانيا، ان العقوبات المفروضة على العراق، حولت امة ثرية كالعراق الى كومة من الفقراء. وخلال تولي المسز حسن ادارة نشاط المؤسسة في العراق، تركزت برامج الرعاية على توفير مياه الشرب النظيفة، والغذاء والبطاطين ومولدات الكهرباء في المناطق التي حرمت منها بسبب العقوبات الاقتصادية واهمال نظام البعث لها بسبب عدم ولاء السكان في تقدير النظام الحاكم.

واشتمل برنامج المؤسسة ايضا على المستوصفات والمراكز الصحية الأولية في الريف والمناطق النائية وايضا على تعليم الصم وتزويد المدارس يالوسائل المساعدة لتعليمهم.

بعد زيارتها لمجلس العموم، أسرعت بالعودة للعراق كي تكون بجوار «أهل بلدها»، مثلما قالت لمراسل صحيفة «نيوكاسل» المحلية الذي جلس بجوارها في الطائرة المتجهة لعمان عشية الحرب، اما آخر كلماتها للمراسل، فكانت: «أشعر بالحزن لاشتراك بريطانيا في هذه الحرب».